وزارة الخارجية بين نمط دبلوماسية مركزية الدولة والدبلوماسية التكاملية .. ملخص تنفيذي

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
تتلخص المشكلة في تحدي العولمة وأثره على نمط عمل وزارات الخارجية حيث لم يعد خياراً لوزارات الخارجية ان لا تنتقل لنمط العمل بمفهوم منسق العمل الخارجي على مستوى الدولة للقطاعات الحكومية وغير الحكومية وهو ما يعرف بنمط الدبلوماسية التكاملية، إذ أن النمط القديم المعروف بدبلوماسية حارس البوابة قد تجاوزه الزمن إذ لك يعد هنالك سور لتكون له بوابة، نسبة للثورة التي شهدها العالم في مجالات الإتصالات والمواصلات وتكثف التعاون الإقليمي والدولي بين مختلف الكيانات النظيرة عبر الدول.
كذلك تنبع أهمية تعزيز الإنتقال الفعال لنمط الدبلومسية التكاملية لأجل أيلاء إهتمام أكبر للتخصص في المجال الدبلوماسي نسبة لزيادة كثافة التعاون الإقليمي والدولي خاصة في المجالات الإقتصادية وأهمية إدارات التعاون الدولي في العديد من الوزارات والهيئات الحكومية وغير الحكومية والتي صارت تحتاج لتخصصات دقيقة في تلك المجالات حتى تستطيع البلاد أن تجنى الفوائد القصوى من شراكاتها وعضويتها في تلك المنظمات ومع الدول وتدرأ عنها الكثير من المشكلات الناتجة عن قلة معرفة وخبرة ممثليها بملفات العمل الخارجي.
مقدمة
تم إضفاء التخصصية والإحترافية على العمل الخارجي بعد تطور تاريخي طويل شكلته كيانات خاصة كالفاعلين الدينيين ورجال الأعمل والذين كانوا أحياناً يقومون بتلك الأدوار بتفويض من السلط الرسمية. وقد تمت صياغة العديد من الإتفاقيات الدولية والتي أخضعت لاحقاً لسلطان الدول، والتي عززت سيطرتها على الدبلوماسية الرسمية من خلال وزارات الخارجية لاحقاً. وقد صارت وزارات الخارجية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر صاحبة اليد الطولى في تعريف وتطبيق موجهات السياسة الخارجية على الرغم من منافسة الوزارات الأخرى في الدولة .

على الرغم من إجماع خبراء مختلف المجالات من سياسيين وأكاديميين وصحفيين على أن العولمة غيرت طبيعة العلاقة بين الشؤون الداخلية والسياسة العالمية واثرت بعمق على السيادة الوطنية إلا أن هناك القليل جدا من الدراسات حول آثار العولمة على وزارات الخارجية . وقد أدت عوامل: ثورة المعلومات وتطور تقنيات الإتصال والمواصلات، الأزمة المالية العالمية التي أفضت إلى إنهيار مؤسسات برتون وودز، فشل الولايات المتحدة في الإنتصار في حرب فيتنام، فعالية المقاطعة العربية البترولية، وظهور قضايا جديدة كقضايا البيئة العالمية، إلى إهتزاز أسس النظرية الواقعية وظهور مفهومات الإعتماد المتبادل والإعتماد المتبادل المركب والتي حددها بعض خبراء العلاقات الدولية في ثلاثة أبعاد:

1- تميز السياسة الخارجية بقنوات إتصال عديدة تصل المجتمعات وهي شديدة التعقيد والتنوع بما يؤثر على سيطرة الدولة وسيادتها وفقاً لمنظور المدرسة الواقعية.
2- غياب التراتيبية بين الموضوعات بما يلغي مفهوم السياسة العيا والدنيا السابق.
3- تناقص أهمية القوة العسكرية نسبة للتشابك الواسع في مصالح الدول ومستويات الإعتماد المتبادل .
دور وزارة الخارجية كحارس للبوابة قد إنتهى وصارت معنية بالتنسيق بين الفاعلين الوطنيين
ورصفائهم في الدول الأخرى . وتصنف دول العالم حالياً بين دول دبلوماسيتها تميل نحو الإدارة المركزية، تختصر فيها الدبلوماسية في أنشطة وزارة الخارجية وبعثاتها في الخارج في الغالب والأخرين غير فاعلين في العمل الدبلوماسي بصورة واضحة. ودول أخرى دبلوماسيتها تكاملية مكونة من قطاع واسع من الفاعلين الحكوميين وغير الحكوميين الذين ينسق الدبلوماسيون الرسميون أدوارهم .
ومن الفاعلين المهمين جداً في الساحة الدبلوماسية مؤخراً الدبلوماسية الإقتصادية لأسباب النمو الكبير في التجارة العالمية وأنفتاح إقتصادات دول كبرى كالصين وروسيا وزيادة التنافسية الإقتصادية بين الدول الأمر الذي جعل القرارات والخيارات الإقتصادية محدداً للقرارات السياسية .
وحدث ما أطلق عليه البعض بالتدويل Internationlization للعمل الخارجي من خلال أجهزة أخرى في الدولة بدأت في ممارسة عمل خارجي مباشر كدبلوماسية القمم وزيادة أنشطة الوزراء الآخرين غير وزراء الخارجية مستفيدين من تقلص المسافات والزمن للقاء بنظرائهم من الدول الأخرى، وزيادة دور مكاتب رؤساء الوزراء في تنسيق العمل الخارجي الذي تشارك فيه وزرات مختلفة .
وفي ظل العولمة تعزز نفوذ ما تعرف بالدبلوماسية الدقيقة Micro Diplomacy والدبلوماسية الموازية Para Diplomacy وهي تستخدم للإشارة إلى أنشطة لوحدات إقليمية داخل الدولة لا تحمل الصفة القومية الجامعة. وقد تنامت النزعة لدى الولايات والوحدات الفديدرالية للتعامل الدبلوماسي المباشر مع نظرائها في الدول الأخرى، وتبادل أشكال من الممثليات الدبلوماسية بينهما. وبالنظر إلى أمكاناتها وإسهامها الكبير في الإقتصاد العالمي فإن المدن والولايات تتمتع بمقدرات كبيرة لتعزيز نفوذها في العلاقات الدولية
ويعتبر النظر إلى وزار الخارجية كمسؤولة عن تخصص معين كوزارة الزراعة أمراً عفى عليه الزمن وكان صحيحاً عندما كان مفهوم السيادة الوطنية وأضحاً ومعرفاً بدقة، وكانت الإتصالات العالمية في غالبها تتم من خلال القنوات الرسمية والدبلوماسية وكانت المسائل الأمنية أو ما يعرف بالسياسة العليا تهيمن على أجندة السياسة الخارجية. واليوم هناك في المقابل فاعلين جدد ووسائل إتصال جديدة وقضايا عالمية ومجالات إتصال دولية جديدة تساهم كلها في تغيير نمط عمل وزارات الخارجية.
كما أن دور القطاعين الخاص والمدني توسع جداً في السياسة الخارجية في السنوات الأخيرة ونتيجة لذلك أحست كل مؤسسة حكومية أن مجالات عملها قد أصبح مسرحاً لتدخل العديد من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية .
من حارس البوابة إلى قائد الأوركسترا
في ظل ما وصفه البعض بالمسرح الدبلوماسي المختلط Hybrid Diplomatic Arena يحتاج الدبلوماسي أن يكون قائداً للأوركسترا ومنسقاً لجميع الأصوات والميول، وأن يعتمد نموذج شبكة التواصل الدبلوماسي Network Model of Diplomacy عوضاً عن نموذج دبلوماسية النادي لأن الدبلوماسية صارت فن إدارة التعقيدات . ففي ظل العولمة تظل الوسيلة المثلى لإستعادة وزارة الخارجية لدورها الطليعي في العمل الخارجي هي تطوير شبكة من الفاعلين الآخرين في العمل الخارجي .
ولابد من قيام وزارات الخارجية بالإشراف على وتنسيق عمل وحدات العمل الخارجي بالوزارات الأخرى بما يفضى إلى تطوير وتدريب متخصصين ومهنيين في الوزارات الأخرى يكونوا جزءاً من التمثيل الخارجي والمقيم في البعثات الخارجية والتمثيل من خلال المؤتمرات والإجتماعات. الأمر الذي يساعد على رفع الكفاءة الفنية وتكاملها عبر إختصاصات مختلفة في مختلف الوزارات وهيئات الدولة والقطاع غير الحكومي المعنى حسب طبيعة كل إختصاص وبما يمكن من تزويد متخذي القرار بمعلومات أفضل وأسرع في كل مجال. وتشكو العديد من المجالات في العديد من الدول من تهميش الكفاءة الفنية بواسطة الدبلوماسية التقليدية وتأخذ إستشاراتها وقتاً أطول للوصول إلى متخذي القرار .
خاتمة
بقاء الدول في نمط دبلوماسية سيطرة الدولة لم يعد ممكناً نسبة للتحول الكبير في البيئة العالمية والأثر الحاسم والكثيف لذلك على جميع الدول، بما يجعل عدم إنتقالها الفعال والحاسم إلى نمط الدبلوماسية التكاملية الذي تنسق فيه مساهمات جميع الفاعلين الوطنيين في الساحة العالمية، سبباً للتناقض والتضارب وإهدار الموارد وضعف الفاعلية في ملفات العمل الخارجي للدولة. ومثال ذلك الدبلوماسية الإقتصادية التي ينبغي أن تنسق ملفاتها بين مختلف مؤسسات الدولة والقطاع الخاص بما يضمن تكامل الإدوار وتناغمها.
فملف مثل ملف إنضمام السودان لمنظمة التجارة العالمية والذي تمثل وزارة التجارة نقطة الإرتكاز فيه وتتابعه وزارة الخارجية عبر بعثتها الدائمة في جنيف يعتبر قاسماً مشتركاً معنية به تقريباً جميع وزارات ومؤسسات الدولة والقطاع الخاص لذلك لابد من درجة عالية من التنسيق بين مختلف الفاعلين والشركاء المعنيين بشروط وتبعات إنضمام السودان إلى المنظمة. كذلك لابد من تطوير كوادر مؤهلة ومتخصصة للمشاركة في مفاوضات الإنضمام بغالب مؤسسات الدولة والقطاع الخاص خاصة وزارات التجارة والزراعة والمالية والصحة، وأن تعمل تلك الكوادر في حماية مصالح السودان في مرحلة صيران السودان إلى عضو كامل العضوية بالمنظمة.
وينطبق ذات المثال على ملف حقوق الإنسان الذي تعنى به كآفة مؤسسات الدولة والقطاع غير الحكومي في جوانب حقوق الإنسان الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والمدنية والذي تنشط فيه شبكات واسعة من المجتمع المدني المحلي والإقليمي والدولي. تتفاعل كلها مع سكرتاريات منظمات حقوق الإنسان الحكومية الإقليمية كاللجنة العربية لحقوق الإنسان واللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب وآليه حقوق الإنسان بمنظمة التعاون الإسلامي على المستوى الإقليمي. والمفوضية العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بجنيف على المستوى الأممي.
الأمر الذي يحتم التنسيق المحكم والوثيق بين مختلف الفاعلين في ذينك الملفين وغيرهما من ملفات العمل الخارجي بما يضمن كفاءة إداء الدولة وتناغم وتناسق أدوار متلف الفاعلين لتحقيق أقصى فوائد شراكات العمل الخارجي وبما يعزز من مكانة الدولة وسمعتها وصدقيتها في المحيط الإقليمي والدولي. وعلى الرغم من وجود نقطة إرتكاز Focal Point حسب طبيعة كل ملف إلا أن الدور التنسيقي والإشرافي العام لوزارة الخارجية على كل تلك الملفات يبقى عاملاً مهماً نسبة للوجود الخارجي لوزارات الخارجية عبر بعثاتها في الخارج وأن المهمة التنسيقية والمترتبات السياسية للملفات تعتبر من صميم عمل ومسؤولية وزارة الخارجية، فضلاً عن تولى الخارجية للتنسيق بين الملفات المختلفة التي تتداخل قضاياها وتتشابك من قضايا إقتصادية تجارية وبيئية وصحية وهي كلها ذات إرتباط ومن صميم حقوق الإنسان وغير ذلك.

murtada235@gmail.com
///////////////////////////

 

آراء