يا أيها البروفسير: قم بواجبك: د/ ستانلي فيش .. عرض: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 




نشر الأستاذ الدكتور ستانلي فيش مقالا طويلا في مجلة Policy Review  التي تصدر عن مؤسسة هوفر التابعة لجامعة ستانفورد الأميركية في عدد أغسطس / سبتمبر 2008م  وجه فيه سهام نقد حادة لمؤسسات التعليم العالي ولأستاذتها الذين يعدون أنفسهم مبعوثي العناية الإلهية لبث أفكارهم الثورية أو الإصلاحية أو الدينية والذين يسيئون استغلال مناصبهم ومراكزهم وإمكانيات مؤسساتهم التعليمة لبث معتقداتهم وآرائهم وتجنيد طلابهم وغسل أدمغتهم. اختار ستانلي فيش لمقاله عنوانا حادا يصور ضيقه الشديد بما وصفه بتطاول أساتذة الجامعات (البروفسيرات) ومحاولاتهم المستميتة لخلق أجيال من الطلاب تنحوا منحاهم وتسلك سبيلهم وتتبع أهوائهم.
سخر الكاتب من الجامعات (الأميركية) التي ترى وتحس وأنت تقرأ شعاراتها وأهدافها المعلنة أن بمقدورها معالجة سائر أدواء الدنيا وإبراء كل جروحها وكافة نوائبها. لا تقف دعاوى تلك الجامعات على محاربة الأمية والجهل العلمي والثقافي، بل تتمدد لتشمل محاربة العنصرية والحروب والتحيز الجندري والتفرقة وعدم التسامح وتلوث البيئة ومخازي الرأسمالية الباغية والإمبريالية الأميركية وطغيان وول مارت (أكبر متجر في العالم) والقائمة لا حصر لها من الدعاوى العريضة والأهداف المفرطة الطموح.
يقوم اعتراض ستانلي فيش على أن الجامعات تتصدى لمهام ليست من اختصاصها وعلى أنها تدعي أشياءا وتتبنى أهدافا ليست من صميم عملها، فهو يعترض مثلا علي جامعة ويزليان التي  تزعم في كتيبها الدعائي أن من أهدافها "خلق بيئة جامعية يقوم فيها الطلاب بالتفكير النقدي والمشاركة في حوارات بناءة، مع التقيد باحترام التعددية وتنوع التجارب والاهتمامات والمعتقدات والهويات...". يتسأل الدكتور فيش: "لماذا يجب أن نعلم الطلاب "احترام" كل ما سبق ذكره دون أن نعلمهم قبل ذلك تمحيص وتدقيق وتقويم ما تدعوا الجامعات لاحترامه؟   أليس الأولى أن تحل كلمة "تقويم/تقييم" محل كلمة "احترام" هنا أو علي الأقل تسبقه". الجامعة في نظر الدكتور فيش مكان للعمل الثقافي العقلاني وليس للخطب والشعارات والاحتفالات.
يسخر الكاتب من جامعة ييل المشهورة وهي تدعوا إلي بناء القدرات الأخلاقية (moral capacities) للطلاب . يتسأل: كيف يمكن لأستاذ جامعي أن يقوم ببناء "قدرات أخلاقية" لطلابه إن لم تكن لديهم أصلا هذه القدرات، وكيف يمكن للطلاب الحصول على تلك القدرات من دراستهم في مختبر للعلوم أو قراءة رواية ما أو التدريب علي برامج إحصائية؟! يمكن لطالب ما أيها البروفسير أن يحرز الدرجات الكاملة في مقررات العلوم السياسية والسياسة العامة ثم يهجر من بعد ذلك الدراسة والجامعة والمجتمع وأن ينزوي في مكان ما أو ينضم لمجموعة إرهابية مجرمة.
يقول الكاتب أنه لا ينكر بالكلية أي صلة بين ما يدرسه البروفسيرات من مقررات مثبتة في كتيبات الجامعات التعريفية وبين التطبيق الناجح للفضائل الأخلاقية والاجتماعية والعملية. فقد يحدث فعلا في بعض الحالات أن ينقر بعض ما يقوله أحد البروفسيرات في المحاضرة في قلب طالب ما فيغير وجهته – وإلى الأبد- إلي وجهة لم يكن ليصوب نظره إليها لولا ما سمعه من ذلك البروفسير. بيد أن ذلك لا يحدث دائما، بل قلما يحدث في الواقع، ولا يمكن التعويل عليه أبدا.
إذن ما هو الواجب الملقي علي عاتق مؤسسات التعليم العالي؟ يجيب السيد فيش ببساطة أن على أساتذة هذه المؤسسات القيام بأداء شيئين لا ثالث لهما:
1.    تعريف الطلاب بجملة من المعارف والتقاليد البحثية التي لم تكن جزءا من خبراتهم في السابق، و
2.    تزويد هؤلاء الطلاب بمهارات تحليلية (مثلا في المناظرات والتجارب العلمية والطرق الإحصائية) مما يعطيهم ثقة كبيرة في القيام بأبحاث مستقلة لاحقا.
إن أساتذة الجامعات بما لديهم من خلفيات أكاديمية وإمكانيات علمية وتدريب وخبرة لديهم القدرة على تمليك الطلاب وسائل التحليل التي سيستخدمونها في أبحاثهم. بيد أنه ما من أستاذ جامعي يستطيع أن يخلق لدي الطلاب إحساسا باحترام الآخرين أو أن يغير من أرائهم الأخلاقية والاجتماعية أو يصنع منهم "مواطنين صالحين" يؤمنون بآراء "مقبولة" أو محددة. إن حاول الأستاذ الجامعي ذلك فإنه يكون بذلك قد تعدى حدوده وفشل في الالتزام بما نص عليه عقد عمله مع الجامعة التي يعمل بها. إنه إن حاول فعل ذلك فإنه يكون كالذي يمارس مهنة لا يحمل ترخيصا بممارستها ولن يفلح فيها على كل حال! كثيرا ما يحاول أساتذة الجامعة القيام بمهام ليست من اختصاصاتهم وبذا يخسر الجميع... يخسر الطلاب إذ أنهم لن يتلقوا من الدراسات ما قبلوا بالجامعة من أجل تلقيه، وتخسر الجامعة لضياع أموالها وممتلكاتها في أمور غير أكاديمية، ويخسر التعليم العالي إذ أن البروفسيرات عندما يتقمصون دور دعاة الأخلاق والسياسة والإصلاح والتغيير والمعالجين لأدواء المجتمع عوضا عن دورهم الرئيس كمدرسين فإنهم إنما يتيحون فرصة ذهبية للمتربصين بالتعليم العالي والنيل من صدقيته ونفعه.
هل يعني كل ما سبق أن الكلام في السياسة وطرح الأسئلة في الأمور الحادثة في المجتمع لا مكان له في قاعة الدرس؟ ينفي السيد فيش أنه ينادي بذلك، بل يزعم أن ما من موضوع أو سؤال أو مشكل ما ينبغي أن لا يناقش في قاعات الجامعات، شريطة أن يكون طرح ذلك السؤال أو الموضوع أو المشكل طرحا أكاديميا صرفا وليس طرحا تهييجا سياسيا أو أيدلوجيا. بيد أن الكثيرين يجدون التفريق بين هذه الأمور عسيرا إن لم يكن مستحيلا. ليس الأمر كذلك عند السيد فيش!
يشيد الكاتب برئيس جامعة شيكاغو والذي أعلن ببساطة أن جامعته لم توجد إلا لغرضين محددين لا ثالث لهما: التدريس والبحث، وأن مهمتي الجامعة لا تترك لها فرصة – و ما ينبغي لها- أن تتخذ موقفا من الحوادث اليومية دون أن تغامر بوضع نفسها في موضع خطر قد يهدد قدرتها علي القيام بمهمتيها المحددتين: التدريس والبحث. يخلص الرجل إلي أن الجامعة وأساتذتها ينبغي فقط أن يهتموا بالشأن العام إن كان له علاقة مباشرة برسالة الجامعة التعليمية والبحثية مثل الأمانة العلمية وضرورتها والسرقات الأدبية والعلمية وقيم الحرية الأكاديمية وغير ذلك. بيد أن الجامعة وأساتذتها ينبغي أن لا يدافعوا علنا عن آراء شخصية أو سياسية أو أخلاقية وأن لا يعلنوا عن أي نوع من الآراء غير الآراء الأكاديمية.
قد يخشى البعض من أن آراء الكاتب (المخالفة لما هو سائد ومألوف في جامعات العالم المختلفة) ستجعل من قاعة الدرس مكانا بارد الشعور متبلد الإحساس دون حماس أو شغف (passion) حقيقي. ينفي دكتور فيش ذلك بالقول بأنه لا يعترض على تدريس الموضوعات السياسية في الجامعة، بيد أنه يرفض أن يتم تدريس تلك المواضيع "سياسيا"، وهنالك فرق!
يخلص الكاتب إلي القول بأنك أيها البروفسير قد تنجح في خلق باحثين مجيدين ولكنك لن تنجح في خلق أناس صالحين، و لا ينبغي أن تحاول ذلك، فما لهذا خلقت الجامعات.
لم أجد شخصيا في خطاب الدكتور فيش (ولأسباب تتعلق بالنشأة والمنطق والحس (السليم؟!) وطرائق التفكير وغير ذلك) ما يدفعني لتفهم أو قبول آرائه التي تناقض أغلبها كل ما أؤمن به من دور مفترض للجامعة ولأساتذتها، ليس فقط في عالمنا المتخلف ولكن في عالمهم المتقدم أيضا. بيد أن الدهشة عقدت لساني وأنا أقرأ بالصدفة المحضة – بعد أن عثرت (أقرأها عترت) علي هذا المقال الأمريكي مقالا آخر في صحيفة الوطن القطرية (16/9/2008) بقلم الدكتور المصري إبراهيم عرفات يتبنى آراء السيد فيش ويعربها بعد أن يزعم أنه بعد أن فرغ من كتابة مقاله (و الذي عنونه: عزيزي أستاذ الجامعة: قم بواجبك) وجد علي مكتبه المقال الأمريكي الذي عرضنا الآن لقليل مما جاء فيه!  والدكتور إبراهيم عرفات يرى أن البروفسيرات في العالم العربي قد خلطوا بين واجبهم الأكاديمي (وهو بحسب رأيه واجبهم الأوحد) ومواقفهم السياسية وبذا فسدت كثير من الجامعات العربية!!!و هذا قول بائن الخطل واضح الفساد، ففساد كثير من تلك الجامعات نتيجة منطقية لعشرات الأسباب ليس هذا محل تفصيلها ولا يمكن – عقلا-  أن يكون سببه الأوحد تسييس الأساتذة للجامعات! لا مشاحة أن بعض الأساتذة يتخطون الحدود بين مسؤولياتهم الأكاديمية ومواقفهم الذاتية والتي كثيرا ما يحاولون فرضها علي طلابهم، وربما يكون الدكتور إبراهيم قد صدق في هذه الجزئية، بيد أن هذا لا يبرر – بداهة- أن تنكفئ الجامعة علي نفسها وتعيش كجزيرة معزولة لا صلة لها بالحياة والناس. إن فعلنا ذلك لما حدث أي تغيير اجتماعي أو سياسي (21 أكتوبر 1964م في السودان خير مثال) و لتخرج في الجامعات أناس لا صلة لهم بجذورهم وبمجتمعهم، ولا بمن دفع - و بصعوبة بالغة- تكاليف تعليمهم وإعاشتهم.
من عجب أن مقال د/ إبراهيم عرفات يقتبس (هل أقول يكرر) وبلسان عربي مبين نفس تعابير السيد فيش دون كبير تحوير أو تبديل، فأعجب لـ "توارد الخواطر" هذا الذي يجعل الأول يقول: "أستاذ الجامعة واجبه أكاديمي لأنه ليس مصلحا دينيا أو ناشطا سياسيا" و في موضع آخر يقول: " أما إذا حاول إقناعهم بـ.....فإنه يقع في مخالفة صريحة. سيكون أشبه بمن يمارس مهنة دون أن يحصل علي تصريح بمزاولتها..." وهذه هي تقريبا نفس كلمات الرجل الأمريكي مع تباين الخلفيات الثقافية والمنطلقات الفكرية والظروف الاجتماعية و و و         
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء