يا حليلنا الفول نجح!

 


 

 

نشرت الأستاذة نسيبة عبد القادر، بنت دار حمر، الناشطة في السوشال ميديا، قبل وقت قصير، مقطعاً عن رقصة كدنداية أو الهسيس وهي رقصة من تراث دار حمر ودار حامد وغيرهم. هذا الضرب من التراث يتميز بدرجة عالية من التطريب والمشاركة الفعالة والحماس من الحضور، فثمة شخص يغني وآخر يرقص وآخرون يصفقون، فهي بالتالي نموذج ممتاز للفن الشعبي في بوادي كردفان وقراها. والهسيس شائع ايضاً لدى أهلنا المعالية في شرق دارفور، والزيادية في شمال دارفور. ويتميز هذا الفن أيضاً بالإيقاع الراقص الذي يزيد المناسبة ألقاً ورونقاً ويتيح لكل شخص فرصة المشاركة والتعبير عن ذاته في ذلك المشهد الإبداعي. ومما لفت نظري في الفيديو المشار إليه هو روعة أداء الراقصين، وتلك العبارة الرائعة المستخدمة في الأغنية ألا وهي: يا حليلنا الفول نجح! ولعلي قد أسرتني كلمة "يا حليل" أكثر من غيرها لأنها مترعة بالحنية والتفاؤل، وذات دلالة عاطفية في اللهجة السودانية وغيرها من اللهجات العربية من المشرق إلى المغرب؛ فعندما تسمع عبارة "يا حليلك يا ود أمي" وأنت مغادر الديار أو عائد إليها لا تملك إلا أن تجهش بالبكاء! وكلمة يا حليلنا جاءت مقترنة بضمير الجماعة في هذا السياق وذلك لأن موسم نجاح الفول يحمل بشريات كثيرة لأهلنا في دار حمر؛ سيما وأن منطقتهم تتميز بإنتاج معظم محصول الفول الذي يرفد الخزينة العامة بملايين الدولارات، إن لم نقل المليارات، ولذلك حق لمغني الكدنداية أن يقول يا حليلنا الفول نجح.

هذ الكلمة لها وقع خاص في نفسي فهي ترتبط إما بحالات الفراق، أو الحنين، أو اللقاء المفعم بالأحاسيس والمشاعر الفياضة مثلما نجد في كثير من الأغاني السودانية كرائعة الفنان الراحل حمد الريح التي تؤرخ لترحيل أهالي وادي حلف فقد جاء فيها:

حليل أرض الجزاير والمراكب والطنابير الترن

حليل ناس ليلى ساعة الليل يجن

يا غالية يا تمرة فؤادي

الليلة ما عاد المراكب شرقن

والقمري فوق نخل الفريق فاقد الاهل

يبكي ويحن

حليل الراحو خلو الريح
تنوح فوق النخل

حليل الفاتو لدار

الاهل بدون أهل

ولعلكم تلاحظون الدفق الوجداني المترع والشوق الفائق الذي يحدثه تكرار استخدام كلمة يا حليل في هذه القصيدة. وهنالك أمثلة كثيرة لاستخدام "يا حليل" فكم شدا العشاق برائعة عبد العزيز محمد داؤود التي تجسد أسمى معاني الشوق والهيام:

يا حليهم دوام بطراهم

من قلبي ذكراهم انا بريدوم

ديارهم وين

يا حليل ناسهم ناسنا..

وذكريات ديما في راسنا

شالوا نومنا وشالوا نعاسنا

والشاهد هو أن كلمة يا حليلهم ترتبط دوماً بالمشاعر النبيلة والذكريات الخالدة في نفس الإنسان الذي لا ينفك يحن لشخص أو مكان أو ذكرى طيبة فتجدده يعبر عن ذلك بتكرار كلمة يا حليل!

وبشكل عام نستطيع القول إن الفولكلور أو الأدب الشعبي يرتبط بمعاش الناس فهو الذي عبر عن نشاطاتهم وأحاسيسهم تجاه مستجدات الفصول والمواسم التي ترتبط بمعاشهم بشكل مباشر؛ ولذلك تعتبر مواسم الحصاد في كثير من بقاع السودان؛ خاصة في الريف هي مهرجانات فرح يصاحبها أداء كثير من الرقصات وغناء أهازيج تشجع على العمل الدؤوب. والإنسان السوداني يتغنى بشعره الشعبي وهو يسحب الماء من البئر فيما يعرف "بالشاشاي" وهنالك أهازيج دق العيش التي يرددها الرجال وهم يدقون الذرة أو الدخن قبل يدخل استعمال الآلة في عملية الحصاد. وكل ذلك ما هو إلا تعبير صادق عن ارتباط الإنسان بالمكان والزمان وجدانياً وهذا ما جعل أهلنا في دار حمر يستخدمون عبارة يا حليلنا في هذا السياق، فهي عبارة تحمل دفق عميق وتعبر عن فرحة عارمة بموسم حصاد الفول. ويا ليت أن شبابنا يهتمون بدراسة مثل هذه الأشياء من أجل معرفة بعض الجوانب الفنية والاجتماعية من خلال تناول فننا الشعبي ونماذج الشعر الشعبي الذي يعبر عن مثل هذه المواسم الخيرة.
ويقودنا الحديث في هذا الصدد إلى التنويه إلى أن لجهاتنا المحلية في مختلف بقاع السودان تستخدم عبارات ومفردات هي من صميم لغتنا العربية لكنها في عامية أهل السودان تتميز بخصوصية متفردة مثل كلمة "يا حليل" وهي شائعة في كثير من لجهات الدول العربية من الخليج إلى المحيط. وفي نجد كلمة "حليل" تعني الشخص اللطيف والمحبب إلى قلوب الجميع، كما أنها تطلق للتعبير عن استلطاف الأطفال بقولك مثلًا: يا حليل ها الولد، أو يا حليلها البنية كما تعني الشخص طيب القلب.
وقد صارت مفردة متكررة في كثير من الأغنيات السودانية كما في رائعة الكاشف:
حليل زمن الصبا الماضي
وحليل زهر الحياة الزاهر
حليل زمن الحبيب راضي
وحليل زمن الهوى الطاهر
حليلو الأبلج الباسم
حليلو الكاحل الناير
حليل قمر السماء القاسم
فكم مرة استخدمت الكلمة لتعبر عن مدى حنين الشاعر ومن منا لا يحن لزمن الصبا الباكر يا ترى؟ وحليلو قال ناوي السفر يا حليلو كيف الوداع لا من يحين وقت السفر؟

gush1981@hotmail.com
///////////////////////

 

آراء