يحدث في الخرطوم الآن … بقلم: طلحة جبريل

 


 

طلحة جبريل
20 December, 2009

 

talha@talhamusa.com

أقول من السطر الاول إن ما تطالب به أحزاب المعارضة بشأن تعديل القوانين بغرض "التحول الديمقراطي" مطلب منطقي وواقعي، ويفترض أن يتم في إطار توافق وطني ودون إبطاء.

قبل الحديث عن ما تعرفه الخرطوم الآن من أحداث ، في وقت تتجه فيه بلادنا نحو استحقاقات انتخابية رئاسية وتشريعية يقال إنها ستجري في ابريل المقبل، أظن ان من المفيد رسم صورة للوضع السياسي كما وجدته ومازلت اتابع  بعض تفاصيله عن كثب.

عندما وصلت البلاد لم يكن هناك حديث الا عن "مسيرة الاثنين" ، وبعد أن سمعت وقرأت وجهة نظر الطرفين أي السلطة الحاكمة والمعارضة ، وجدت أن المسيرة التي لم تتم أو تلك المرتقبة، تبدو تحركاً طبيعياً لأحزاب تعتقد أن الظروف ليست مهيأة بعد لاجراء انتخابات نزيهة بعد أربعة أشهر.

كان من الممكن أن تتم "مسيرة الاثنين" وبالتالي تفادي كل ما حدث في يوم المسيرة أو تداعياته ، لو أن السلطة الحاكمة تبحث فعلاً عن انتقال ديمقراطي بعد ما يربو على 20 سنة من الحكم الشمولي، وليس مجرد تكتيكات للالتفاف على الانتقال الديمقراطي، وبقاء الأوضاع كما هي.

 إذ ماذا يضير أن يشارك حوالي 30 الف شخصاً في مسيرة كما قررت المعارضة، تحمل قيادتها مذكرة الى برلمان معين تطالبه بتعديل القوانين المقيدة للحريات.

30 الف رقم متواضع إذا كان فدر للمسيرة أن تتم ، رقم لا يمكن أن يتطلب كل الاستنفار الأمني الذي شاهدته شخصياً ، ووجدته أمراً مثيراً للدهشة ويبعث على الاستغراب. رقم  يمكن أن يوجد في ملعب لكرة القدم لمتابعة مباراة، لذلك سيبدو من العبث القول بإنه يهدف الى " إسقاط حكومة" .

وإذا كانت اية حكومة ترتعد فرائصها وتخشى أن تسقطها مسيرة سلمية يشارك فيها 30 الف شخص وربما لم يكن العدد يصل أصلاً الى هذا الرقم ، فإنها قطعا تعاني حالة "فوبيا سياسية".

قيل في معرض التبرير للتصدي للمسيرة إن أحزاب المعارضة لم تحترم القانون وتطلب إذناً لتنظيمها واكتفت بالاخطار ، وهذا كما يقول الفقهاء يدخل في إطار " التشغيب "، إذ كثيراً ما سمعنا بالمسيرات والمظاهرات المليونية التي تخرج " عفوية" و دون إخطار أو استئذان أو طلب لهذه الجهة أو تلك، وموافقة من طرف السلطات، ولم يقل أحد أن تلك الموكب والمسيرات غير قانونية، لانها ببساطة كانت مواكب ومسيرات ومظاهرات " مع" وليست " ضد" ، وهذا حال الأنظمة الشمولية كل تحرك معها عمل مطلوب ومرغوب ، وكل عمل ضدها مخالف للقانون ويدخل في إطار " التخريب والأجندة الخفية".

وقيل أيضاً إن المسيرة كانت ستتحول الى مواجهة مع قوات الشرطة وتتعمد القيام باعمال تخريبية وخلق حالة من الفوضى ، وما حدث يؤكد أن هذه فرية أخرى، لان الشرطة هي التي لجأت للعنف لتفريق من تجمعوا، إذ لايمكن اعتبار رمي الناس بقنابل الغاز المسيلة للدموع "عملاً ترفيهياً" أو استعمال العنف الجسدي ، وقد شاهدت ذلك بنفسي ، يعبر عن مودة ومحبة قوات الأمن للمتظاهرين.

ثم القول بان " الحركة الشعبية" على وجه التحديد كانت ستعتمد العنف خلال المسيرة ، مسألة تجعل السياسة في بلادنا أمراً عصياً على كل فهم.

هذا الحزب، أي الحركة الشعبية،  شريك فيما يسمى "حكومة الوحدة الوطنية" لكنه، على حد قول السلطة الحاكمة، يريد زعزعة نظام هو شريك فيه ، ولم يقل لنا أحد أو نسمع أن الحركة الشعبية ترغب في الانسحاب من الحكومة ، أو انها قررت الانتقال الى المعارضة بل واختارت الشارع من أجل التعبير عن هذه المعارضة وبالتالي زعزعة النظام. واذا كان الأمركذلك كيف يستقيم عقلاً أن يتهم الشريك شريكه بانه يتآمر ضده مع أحزاب معارضة، ثم يجلسان يومياً في جميع المؤسسات لادارة شؤون البلاد والعباد.

وقيل أيضاً إن الشارع ليس هو المكان المناسب الذي يمكن من خلاله تعديل القوانين ، لكن المنبر الملائم هو البرلمان ، وهذا الكلام كان سيكون منطقياً لو أن هذا البرلمان منتخب ، لكننا أمام برلمان فريد من نوعه ، إذ كل ما وقعت " اتفاقية سلام" الا وزاد عدد نوابه بعد ضم نواب جدد، برلمان بهذه التركيبة ليس هو إطلاقاً المؤسسة الملائمة للتوصل الى توافق وطني.

وحتى على افتراض أن البرلمان منتخب، فإن التظاهرات أمام  البرلمانات في جميع أنحاء العالم ممارسة عادية ولا تتطلب حشد قوات أمنية وسد الطرق المؤدية نحو المؤسسة التشريعية. والذين يتظاهرون في كل العالم جماعات تشارك في انتخاب أعضاء هذه البرلمانات على غرار باقي الناخبين.

واذا كانت السلطة الحاكمة جادة بالفعل في التوجه نحو بناء دولة مؤسسات ديمقراطية ، وهو أمر تحيط به الكثير من الشكوك وليس قليلاً من الظنون، لايمكن ان تصم آذانها عن دعوات الحوار ، ولان المعارضة لم تجد أذنا صاغية أتجهت الى الشارع ، ولم يكن امامها بدائل أخرى.

ازاء ذلك دعونا نطرح الامر على بلاطه، كيف يمكن أن تجري انتخابات نزيهة بقوانين كلها مقيدة للحريات، وعندما يطالب الناس بتعديل هذه القوانين يقال لهم إنكم اخترتم الشارع للتخريب، وكان عليكم ان تتوجهوا الى البرلمان.  وهو ليس سوى مجلس معين، يوجد فيه بعض المعارضين.

على الجانب الآخر ، اي جانب أحزاب المعارضة التي يطلق عليها تارة أحزاب "التحالف الوطني"، وتارة اخرى "تحالف جوبا " هناك بعض الأمور اللافتة للانتباه .

تعتقد أحزاب المعارضة في الشمال  أن الحركة الشعبية يمكن أن تمضي معهم الى نهاية الشوط في معركة القوانين، لان صوتها الآن ارتفع أكثر من الآخرين ولان بعض قادتها تعرضوا للتوقيف، وهذا خطاً في التحليل و الفهم .

 إن أي "توافق"  بين حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ، وهو احتمال وارد ، سيقود حتماً الى تعطيل دور الحركة الشعبية  داخل "تحالف جوبا" الذي لعبت دوراً رئيسياً في بلورته، وربما لن تترك لاحزاب المعارض سوى الاسم أي "جوبا".

هذه الفرضية ستبدو منطقية ومتوقعة اذا عدنا الى أيام مفاوضات نيفاشا، حين قررت الحركة الشعبية عدم قبول حلفائها في التجمع ليس على طاولة التفاوض فحسب ، بل مجرد حضورهم المفاوضات حتى ولو بصفة مراقبين ، وهو موقف لم يكن مفهوماً أو مقبولاً من حزب حليف ، موقف تنقصه المروءة السياسية.

الآن تريد أحزاب المعارضة من الحركة الشعبية أن تضغط من داخل الحكومة ومن خارجها في إطار "معركة القوانين" . من داخلها عبر المؤسسات التنفيذية ومن خارجها عبر مسيرات الشارع، وكأن تاريخ الأخطاء يعيد نفسه، عندما اعتقدت أحزاب التجمع  في الماضي أن الحركة الشعبية ستسقط لها النظام وستأتي بهم عبر فوهة "بندقية الجنوب " الى الحكم، لكن ما قد حدث يعرفه الجميع ، إذ لم تجد أحزاب التجمع الا الفتات وتجرعت المهانات .

الان لنتحدث عن المستقبل، عبر قراءة في قرائن ووقائع الحاضر.

لا يمكن للسلطة الحاكمة أن تقفز على مسألة الانتخابات ليس لانها  لا تريدها، لكن لأنها لا تستطيع أن تقاوم الضغوط الدولية على اعتبار ان هذه الانتخابات جزءً من اتفاقية نيفاشا، ولان امريكا تريد اجراء الانتخابات باعتبارها مجرد "بروفة" عملية من أجل تنظيم الاستفتاء المحطة النهائية لنيفاشا، وهي باتت مقتنعة أكثر من اي وقت مضى أن انفصال الجنوب هي الفرضية المرجحة، لذلك تحاول تقديم مساعدات عسكرية لقوات الجيش الشعبي و قد شرعت بالفعل في ذلك، على أساس أن تكون الدولة الوليدة ضمن منظومة منطقة البحيرات ، حيث يفترض ان تنسق في وقت لاحق مع قيادة "افريكوم" التي تتولى تنسيق الأنشطة العسكرية الامريكية في القارة الافريقية.

يمكن ان تتلكأ السلطة الحاكمة في تحديد مواعيد الانتخابات ، لكن تجاوز الانتخابات في حد ذاتها مسألة صعبة ومعقدة دولياً.

يبقى بعد ذلك ما يمكن أن تسفر عنه الانتخابات في ظل متغيرات عرفتها البلاد خلال عقدين.

هناك مؤشرات عديدة ، تؤكد أن عملية تسجيل الناخبين شابتها الكثير من العيوب ، وأن حزب المؤتمر الوطني استطاع أن يستفيد استفادة واضحة من العملية وقام بتعبئة واسعة النطاق من أجل الحصول على "اغلبية" وسط قوائم الناخبين قبل الاقتراع.

يملك حزب المؤتمر الوطني الآن الامكانيات المالية والماكينة الاعلامية.

في الجانب الاعلامي ، الدلائل قائمة كل يوم على هيمنة الحزب على الاعلام المسموع والمرئي والمكتوب.

وهكذا تبدو شروط المنافسة بين المعارضة والحزب الحاكم مختلة اختلالاً واضحاً. الحزب الحاكم يعتمد على واقع ولديه معلومات دقيقة عن هذا الواقع  توفرها له الأجهزة ، وأحزاب المعارضة تعتمد على "ذكريات سياسية".

 وشتان ما بين "المعلومات" و "الذكريات".

واذا اضفنا الى هذه العوامل، اصرار السلطة الحاكمة على موضوع القوانين، تبدو الصورة قاتمة أمام أحزاب المعارضة التي تفتقد التنظيم والاعلام والمال. هذا هو الواقع وهذه هي مآلاته ، وهذا ما يحدث في الخرطوم الآن .  

 

عن "الأحداث"

 

 

مقالات سابقة

جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى  يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط

http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1

 

آراء