9 يناير .. يوم العار والانتصار في السودان

 


 

 


Khidir2008@hotmail.com

يوم التاسع من  يناير في السودان هو بالفعل يوم خزي وعار .. وكذا يوم فرح وانتصار.
ربما يكون في العنوان تناقض .. اذ لا يمكن للعار والانتصار ان يجتمعان يوما .. ولكنه تصوير لواقع حقيقي يعرش فوق أرض السودان اليوم .. فهو بحق يوم عار وخزي لمن فشلوا في ادارة تنوع كان مصدر فخر واعتزاز لكل سوداني منذ ان ظهر على خارطة الوجود هذا الوطن بمساحاته الشاسعة .. تنوع في كل مناحي الحياة .. تنوع اجتماعي وعرقي واثني وثقافي وديني .

انه عار في جبين حكومة الخرطوم وقادتها الذين رفعوا – عقب انقلابهم المشؤوم – انقاذ الوطن شعارا والاسلام راية يعملون تحت مظلتها من اجل سودان واحد . نظام عاش – بعض حين – مزهوا بما أسماه ( التوجه الحضاري ) والذي قاد السودان الى المصير الذي يعيشه اليوم وهو متجه نحو المقصلة لنحر جزء عزيزمنه بعد ان توالت – في ظل نظام ظل على مدى اكثر من عشرين عاما يبحث له عن شرعية مفقودة – توالت عليه نكبات وكوارث لم ولن يكون انفصال الجنوب آخرها لو بقي هذا النظام على سدة الحكم قابضا على انفاس شعبه ومهيمنا على مقدرات البلاد والعباد .. نظام ظل – وما زال – يتنقل بالسودان من محنة لمحنة بلغت ذروتها بالوصول الى هذا اليوم .. يوم العار والخزي المبين .. يوم اقتطاع جزء غال من وطن كان يؤمل ان يكون جسرا فاعلا وحيويا بين الثقافتين العربية /الاسلامية والافريقية / الزنجية .. فضلا عن كونه سلة غذاء العالم بأسره لما يملكه من امكانيات طبيعية وبشرية هائلة شهد بها العالم كله وعول عليها الكثيرون  .. كل ذلك زائدا موقعه الجغرافي المتميز .

ان انفصال جنوب السودان في هذا اليوم الأسود يعد فشلا ذريعا للنخبة الحاكمة في الشمال على اختلاف حقب حكمها ولكنه حتما وصمة عار في جبين حكام اليوم من حزب المؤتمر الوطني والذي جاء بما لم يسبقه عليه نظام منذ استقلال البلاد مطلع 1956 .

ولكنه – اي التاسع من يناير – بالمقابل يعتبر انتصارا كبيرا  لمواطني جنوب هذا الوطن القارة وتتويجا لنضال وكفاح استمر لأكثر من ستين عاما .. كما انه حق دستوري ومشروع لكل مواطن جنوبي .. انه تاريخ أوجد واقعا جديدا يحتاج لمن يكون بحجم المسؤولية والتعامل معه بواقعية دون تشنج او مكابرة خشية تداعيات قد تقود الى ما لا يحمد عقباه .

المؤكد ان انفصال جنوب السودان كان نتاجا طبيعيا لسياسات عرجاء اتبعها الاسلامويون الحاكمون في الخرطوم استندت – في مسارها – على اقصاء الآخرين وتجاهلهم ازاء قضايا البلاد المصيرية .. كما ان اختيار الجنوبيين للاستقلال لم يكن خيارا اعتباطيا وانما جاء في اطار بحثهم المستمر عن وطن يسعهم - دون تهميش او اضطهاد - مع اخوانهم الشماليين .

الشاهد ان غياب مشروع وطني مجمع عليه من قبل كافة التيارات السياسية والاتجاهات الفكرية والاتحادات الفئوية من عمال وطلاب وشباب ومرأة وخلافها أدى بالسودان الى ان يصبح بلدا طاردا لأهله الذين يعيش اليوم نحو 25% منهم خارج حدوده . وقد فضل البعض من هؤلاء حياة التشرد والتسكع على أرصفة المدن في  دول الخليج أوالبقاء  بمعسكرات الذل في أوروبا على العيش في دفء الوطن في حين تكابد الأغلبية ممن بالداخل شظف العيش ومرارة الفقر والحرمان في وقت تعيش فيه قلة من رموز النظام والموالون له في رغد بصورة أضحت محل تندر في مجالس السودانيين الذين لايملكون الا اطلاق النكات تنفيسا عما يكابدوه وتخفيفا لعبء حياة أثقل كاهلهم وجعل منهم ترسا في دوامة حياة يومية تبدأ منذ الصباح الباكر وحتى وقت متأخر من المساء حتى أن البعض منهم صار لا يرى في مجالسة أبنائه ومؤانستهم الا  ترفا لا يليق الا بمن هو جزء من السلطة أو عالق بثيابها .

في 17 ابريل من العام 1946 دعا الحاكم البريطاني أنذاك (هيوبرت هدلستون)  لما عرف بـ ( مؤتمر ادارة السودان ) للبحث في كيفية اشراك السودانيين بشكل أكبر في ادارة شؤون بلادهم .. وكان من أبرز توصيات ذلك المؤتمر اتخاذ قرار لادارة السودان كقطر واحد لأن مستقبله – كما جاء في نص التوصيات - يتوقف على دمج أهاليه ليكونوا شعبا واحدا كما طالب المؤتمرون بانهاء سياسة المناطق المقفولة الاستعمارية التي كانت تعزل الجنوب عن الشمال واتباع سياسة تعليمية واحدة في كل السودان وادخال اللغة العربية في مدارس الجنوب وتحسين شبكة المواصلات بين شمال البلاد وجنوبها وتشجيع تنقلات الموظفين بين شطري البلد وكذلك توحيد نظام الدرجات التوظيفية . ولكن الجنوبيين لم يكونوا طرفا في ذلك المؤتمر الأمر الذي أدى الى عقد مؤتمر آخر بجوبا في 21 يونيو العام 1947 لاستطلاع وجهة نظر الجنوبيين تحديدا في توصيات( مؤتمر ادارة السودان) السابق .

انتهى مؤتمر جوبا - الذي شارك فيه نحو عشرين من قادة بعض القبائل الجنوبية وشريحة المتعلمين منهم - انتهي باعلان رغبتهم في سودان موحد والمشاركة في الجمعية التشريعية كما كان من أبرز مطالبهم مساواتهم في الحقوق والواجبات مع اخوتهم في الشمال والعمل على ردم الفوارق التنموية بين الجانبين ولم يكن لديهم – يومها – أي مطلب يعد خصما على وحدة السودان .

ظلت تلك المطالب معلقة في الهواء دون ان يأخذها الساسة الشماليون مأخذ الجد حتى كان مؤتمر جوبا الثاني الذي انعقد في 15 اكتوبر 1954 والذي دعا اليه حزب الأحرار الجنوبي للبحث اساسا في موقف الحكومة من الجنوب وتشكيل كتلة برلمانية جنوبية متحدة اضافة لمستقبل السودان .

ما أن انفض هذا المؤتمر حتى بعث رئيسه ( بنجامين لوكي ) ببرقية الى وزيري خارجية مصر وبريطانيا ( ثنائي الحكم بالسودان ) وكذا الحاكم العام ورئيس وزراء السودان آنذاك ( اسماعيل الازهري ) برقية دعا فيها للاعتراف بالفوارق الماثلة اثنيا وثقافيا ودينيا مؤكدا أن هذه الفوارق لا يمكن أن تفضي الا لأحد أمرين : قيام اتحاد فيدرالي بين الجنوب والشمال وفي حالة لم يكن ذلك مقبولا لدى الشماليين يتم تقسيم السودان الى دولتين مستقلتين .

كان ذلك ابان فترة الحكم الانتقالي الذاتي ( حكومة الازهري) . وكان استقلال السودان قد تم بوعد قاطع بالنظر في المطالب الجنوبية أعلاه لضمان الاجماع داخل البرلمان على قرار اعلان الاستقلال حيث صدر قرار بهذا الشأن ينص على أن الجمعية التأسيسية – بعد انتخابها – ستعطي الاعتناء الكافي لمطلب الأعضاء من الجنوبيين بحكومة فيدرالية للمديريات الجنوبية الثلاث .. وبناءا على هذا الالتزام صوت الجنوبيون لصالح استقلال السودان الذي تم الاعلان عنه من داخل البرلمان في 19 ديسمبر العام 1955 .

ولكن يبدو ان ذلك الالتزام كان وعدا قد تبخر مما قاد الى بداية مأساة الجنوبيين والتي ظلت مستمرة لنحو ستين عاما لتفضي اليوم الى انفصالهم عن الوطن الأم في مشهد حزين كانت شرارته الأولى قد بدأت يوم 22 مايو عام 1958 عندما شرعت الجمعية التأسيسية في مناقشة مسودة خالية من الوعد الذي قطعه برلمان الاستقلال للجنوبيين باعطاء فيدرالية الاعتبار اللازم عند كتابة الدستور الدائم مما أثار حفيظة النواب الجنوبيين وارتفع صوت بعضهم بانه في حالة رفض مطلب الفيدرالية فان الجنوبيين سيبحثون عن خيار أخر  لتحقيق هذا المطلب .

وهكذا ظل الجنوبيون يطاردون هذا الحق كل هذه السنين دون ان يلحقوا به حتى شكلت لهم اتفاقية نيفاشا في 9/1/2005 كوة في ممر مظلم استطاعوا أن ينفذوا من خلالها الى تحقيق حلمهم الذي كان يمكن أن يتم في اطار سودان موحد لو أن حكومة الخرطوم الاسلاموية كانت جادة في جعل الوحدة جاذبة ولو لم تمارس سياسة رعناء خلت من اية دبلوماسية واعية كان من نتائجها عزم الجنوبيين – لا بل اصرارهم – على العمل من أجل نيل استقلالهم  عن وطن عجز القائمون على أمره عن ادارة ذلك الكم من التنوع في الأعراق والديانات والاثنيات والثقافات كما فشلوا في القيام – بشجاعة - بأي فعل من شأنه أن يكون حافزا لبقاء الجنوب جزءا من السودان .

ولا شك ان لعنة التاريخ ستظل تلاحق من كانوا سببا في انقسام السودان وانشطاره في عصر التكتلات .. كما أن التحديات التي أفرزها هذا الوضع الجديد يحتاج لقادة كبار وعقلاء عظام في السودان اليوم حتى يكونوا بحجم تلك التحديات التي ربما تجعل هذا البلد الشاسع  ينزلق الى حرب ستكون مختلفة حتما عن تلك التي كانت في السابق واستمرت واحد وعشرين عاما لتحصد ملايين الأرواح من الجانبين وتشرد مثلهم .   

ختاما فان التاريخ لن يرحم هؤلاء الاشاوس من رجالات  الانقاذ  الذين  قادوا بلد المليون ميل مربع الى هذا المصير الانقسامي المأساوي .. وسيظل التاريخ يذكر لهم جميعا ان ما جرى لم يحدث الا في  عهدهم الذي لم يكتفي بتقسيم المجتمع وحتى افراد البيت الواحد  وانما رفعوا راية لا اله الا الله وكان مصير وطنهم  كما  نرى اليوم !!!.


والسؤال : هل الاعتراف الاستباقي من  حكام الخرطوم بدولة جمهورية الجنوب الوليدة سيمحو  ذلك العار الذي لحق بثيابهم جميعا ودون استثناء ؟؟.
\\\\\\\\\\\\\\\\\\

 

آراء