مغتربون بلا حدود: حوار مع مطوع
بسم الله الرحمن الرحيم
ترجل الدكتور يوسف من سيارته أمام بوابة الرئاسة العامة لتعليم البنات بالرياض . . هذه القلعة السلفية الحصينة التي تحرسها وتدير شئونها ثلة من التربويين والمطوعين ...
والمطوع إنسان عادي ككل الناس : يأكل ويشرب وينام ويتزوج ويداعب لحيته العشوائية من حين لآخر تارة بالمسح الخفيف عليها وتارة بشدها.. والمطوع لايدخن أثناء ساعات الدوام الرسمي ولا يتكلم مع عامة الناس "والمراجعين" خاصة إلا آمراً أو ناهياً أو زاجراً أو واعظاً .
الواقع الكلمة نفسها ـ مطوع – والوظيفة ذاتها – تطويع- توجب التلفح برداء الحزم والتجهم والغلظة والاستعاذة بالله أحياناً . ..
دار الحوار التالي في مكتب مدير إدارة التعليم الابتدائي داخل هذه القلعة بين الدكتور يوسف والمطوع / المدير:
د.يوسف : صباح الخير
المطوع: يا رجال.. هداك الله.. قول السلام عليكم ... هادي تحية الإسلام !" ارتبك يوسف وأثر الصمت هنيهة ... أثر الصمت الغاضب المشوب بالحرج علي الامتثال لآمر المطوع ولبث واقفا حتى جاءه الأمر الثاني عندما أشار عليه المطوع بالجلوس في السرا أي في الصف قائلا: " أستريح ..."
جلس يوسف في السرا.. نعم جلس في الصف ، ولأول مرة يجلس في صف جالس فهو لم يعرف أو لم يألف من قبل الصفوف الجالسة علي كثرة تجاربه مع الصف السوداني فهو دائما صف واقف بطيء سلحفائي ... كان ذلك صف محطات البنزين أو الغاز أو المخابز أو صف الجوازات وتوثيق الشهادات وضرائب المغتربين ... الخ
لاحظ يوسف وهو يمعن النظر في السرا.. وفي الجالسين من المراجعين انه صف مختلط : وطنيين وغير وطنيين وهذه الفئة الثانية ( غير الوطنيين) يعرفهم المصطلح الرسمي بالمقيمين .. ومن نافلة القول انه النمط الوحيد من الاختلاط الذي تسمح به الأنظمة في مملكة النحل والعسل .
واسترعي انتباه يوسف أن عدداً من المراجعين يرتدون زياً يكاد يكون موحداً وهو اقرب إلي البيجامة منه إلي الآفريكان سفاري الذي يرتديه هو . لاحظ يوسف أن هؤلاء هم أكثر الجالسين في السرا إذعانا واستسلاماً وانصياعاً لتوجيهات وأوامر المطوع المدير بل تعلو وجوههم الابتسامات كلما اختلس النظر إليهم .. انه انصياع وإذعان اقرب إلي الانكسار منه إلي التهذيب واللطف .
سمع يوسف احد هؤلاء "الهوانين" ( من يهن يسهل الهوان عليه ) يخاطب المطوع المدير : " أنت تؤمر سيادتك .. بس يا سعادة البي هي معاها الثانوية العامة" .. هكذا انشغل يوسف بهذه التأملات في السرا أو الصف الجالس حتى جاء دوره للمثول أمام المطوع لاستئناف الحوار .
المطوع : ايش تبغي يا سوداني ؟
أمتعض يوسف وانتابه شعور بالضيق والقهر فلأول مرة في حياته يستاء من إطلاق صفة سوداني عليه .. فقد ظل طوال عمره ... سنوات طفولته وشبابه الباكر والمتأخر يعتز بأنه سوداني (سوداني الجوه وجداني ) ... بل يتباهي ويفاخر بهذا الانتماء لأرض المليون ميل مربع ( سابقاً ) ... يفاخر بهذا الانتماء الوجداني والجغرافي أين ما ذهب وسافر خارج السودان .. في أمريكا وفي بريطانيا كان يجيب بثقة وزهو واعتزاز بأنه سوداني ومن السودان متى ما سأله الخواجات عن هويته ووطنه ..
السؤال التقليدي : ويرآر يو فروم ؟ ولكنه ولأول مرة الآن تتملكه مشاعر الغبن والمرارة عندما ناداه المطوع بقوله " سوداني " بنبره فيها ثمة سخرية واستهانة !
ولكن علي غير عادات السودانيين في مثل هذه المواقف التي يحسون فيها بإهدار الكرامة .. تجاوز يوسف ردود الأفعال العفوية وآثر أن يحتفظ بهدوئه وتذكر نصيحة أسداها له من قبل في مملكة العسل والنحل احد أقربائه عندما تناول معه وجبة العشاء ( كبسة ) في شقته بحي غبيرة .. قريبه هذا – واسمه قريب الله – من عتاة المغتربين طويل الاغتراب ، متعدد ومتنوع الاغتراب وله تجارب ثرة في التعامل مع البيروقراطيات النفطية في دول النفط .. بدأ قريب الله مسيرته الاغترابية منتدباً في أبو ظبي في مطلع سبعينات القرن الماضي رغم أن الجنيه السوداني كان يساوى آنذاك دولارين ونصف الدولار ( لماذا الاغتراب إذن ؟ ) .. ثم انتقل قريب الله معاراً إلي الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمي للتدريس في مدرسة الفاتح من سبتمبر الإعدادية بمدينة سبها .
امضي فيها أو بالأحرى أهدر فيها زهرة شبابه عطاءاً تربويا متميزاً بعد أن أعده وصقله لهذا الدور معهد التربية ببخت الرضا .. ولكن لكل بداية نهاية : أنفعل يوماً وغضب غضبة مضريه في مشادة مع مدير المدرسة ورئيس اللجنة الشعبية في المنطقة وصف أثناءها المدير بالغباء والجهل .. كان المدير قد اصدر توجيهاً للمعلمين بتخصيص الحصة أو الدرس الأول صباح يوم الفاتح من سبتمبر للحديث للتلاميذ عن الكتاب الأخضر فاعترض قريب الله قائلاً إن مقولات الكتاب الأخضر يستعصى شرحها وأدراك معانيها لا علي التلاميذ وحدهم وإنما علي الأستاذة أنفسهم
إلا أن انفعال قريب الله له ما يبرره في الأعراف والتقاليد والقيم السودانية السمحة إذ أن هذا المدير " البدوي الجاهل " قد عيره بان قال له " روح يا براني !"
وبراني هذه مصطلح ليبي معادل ل " مقيم " ( أجنبي ) في مملكة العسل والنحل
دفع قريب الله ثمن انفعاله وشتمه للمدير : تأشيرة خروج بدون عودة .
خرج قريب الله من الجماهيرية وعاد للسودان ليقنع المسئولين في وزارة التربية السماح له بإكمال سنوات انتدابه وإعارته في السعودية ليواصل مسيرته الاغترابية في متوسطه ابن مكتوم بحي غبيرة بالرياض حيث قرر إتباع سياسة جديدة وسلوك جديد مع مديري مدارس دول النفط الخليجية ... سياسة الامتثال والإذعان ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين .
تذكر يوسف هذه القصة وما تنطوي عليها من موعظة وتجربة المغترب قريب الله : فآثر إلا ينفعل ويرد الصاع صاعين للمطوع / الذي سخر من سودانيته .. وقرر أن يستأنف الحوار الهادي معه :
يوسف : " والله طبعاً في الحقيقة ( وهذا قسم وجملة ناقصة غير مفيدة يستهل بها معظم السودانيين الحديث ... اى حديث وكل حديث ) عاوز تسجيل بنتي سوزان في المدرسة الحادية والعشرين بالسليمانية ... " خطر ليوسف في تلك اللحظة سؤال لم يفكر فيه من قبل : لماذا تطلق الرئاسة العامة لتعليم البنات أرقاما وليس اسماءاً علي مدارس البنات ؟
ففي كل البلاد العربية والإسلامية بل حتى في بلاد " النصارى " تحمل كل المدارس أسماء الشخصيات السياسية والاجتماعية الهامة أو المواقع التاريخية أو أسماء الصحابة والصحابيات أو حتى أسماء الأحياء السكنية ... الخ .. والغريب في الأمر انه حتى هنا في مملكة العسل والنحل تحمل مدارس البنين أسماء لها معني لا أرقاما عددية ... مثلاً ابتدائية الأحنف بن قيس أو متوسطة منفوحة أو ثانوية النجاشي .. الخ .
لماذا هذه التمييز السلبي والتفرقة بين الجنسين حتى في أسماء المدارس ؟ لماذا البنت مجرد رقم .. مجرد خانات رقمية آحاد ، عشرات واصفار ؟
طاف هذا الخاطر السريع العابر بذهن يوسف وهو ينتظر رد فعل المطوف المدير علي طلبه تسجيل سوزان في المدرسة الحادية والعشرين ...
المطوع : ويش قلت اسم البنت ... هداك الله ؟ !
يوسف : " سوزان ... سوزان " نطقها مرتين بصوت مرتفع .
همهم المطوع بكلمات غير مسموعة كانت فيما يبدو استعاذة بالله من الشيطان الرجيم ثم ارتفع صوته ليقول : " يارجال أنت مسلم تسمي بنتك بأسماء النصارى ؟ ! يارجال اتقي الله .. "
امتعض يوسف للمرة الثانية ولكنه تذكر نصيحة صديقة وقريبة قريب الله بالا ينفعل فآثر أن يرد علي المطوع رداً موضوعياً كأن يقول له مثلاً : إن حرية إطلاق الأسماء علي الأبناء حرية شخصية من الحريات التي نص عليها ميثاق حقوق الإنسان .. أليس من حق اى من الوالدين إطلاق ما يحبان من الأسماء وما يحلو لهما علي أبنائهم وبناتهم ؟ ثم أن السودانيين من أكثر شعوب العالم تمسكاً بهذه الحرية .. حرية إطلاق الأسماء والمسميات علي من وما يحلو لهم ويحبونه من البشر والأشياء منذ القدم ... منذ أيام ملوك السودان القدماء .. بعانخي وتهارقا وشبيكتو وأماني شخت .. وللسودانيين أسماء نوبية ومسيحية وإسلامية وعربية وافريقية بل ووثنية وتسموا أيضا بأسماء الحيوانات والجمادات . الم يسمع المطوع بإبراهيم نمر وعلي غراب والاسيد وسيد الفيل ونصر الدين تمساح ، ومحمد شجر ويحي ود حجر وود الجبل ، وكمال خشم الموس وسكينة بت بعشوم ... ؟
وبينما يوسف يحاور نفسه ويثير هذه التساؤلات انكب المطوع علي فحص ملف سوزان " النصرانية ".. قلب أوراق الملف ورقة ورقة .. دقق فيها كلمة كلمة وأطال النظر وبطريقة سلحفائية في التوقيعات والتواريخ والأختام عله يكتشف تزويراً ما أو مجرد شبه تزوير فالعرف السائد في دواوين البيروقراطية الصحراوية أن المقيم ( الأجنبي ) متهم حتى تثبت براءاته .. أجهد المطوع ذهنه واعمل ذكاءه المنقوص عله يكتشف اى نوع من أنواع الغش ... اى خطأ في توثيق الشهادات أو سهو في التاريخ الهجري أو حتى الميلادي ... وفجأة تهللت أسارير المطوع وابتسم ابتسامة هي اقرب إلي السخرية منها إلي الفرح .. ولو أن هذا المطوع قد سمع بعالم الفيزياء قاليليو لصاح " وجدتها ... وجدتها ! ! " ولكن علت صوته نبرات النشوة فقال : ها البنت عمرها اقل من ست سنوات .. وحنا ما نقبل للابتدائية اقل من ست سنوات .. بنتك هادى عمرها – يا طويل العمر – خمس سنوات وحداشر شهر ؟ ما يصير ... !
يوسف : والله طبعاً في الحقيقة عمرها ستة بالضبط .. مولودة في أغسطس 1978 ، ودا أغسطس 1984 .
المطوع : ايش تقول .. اوغوسطوس ؟ يارجال هداك الله ... هادا تقويم النصارى وحنا علينا بالتقويم الهجري !
وتماماً كما اسقط في يد يوسف عندما فاجأه المطوع بان اسم سوزان اسم نصراني ارتبك للمرة الثانية ورانت علي وجهه قسمات الحيرة واعتراه إحساس بالغباء والتبلد وكاد يتفوه بقول الشاعر السوداني " ملعون ابوكي بلد .. !" ولكنه كبح جماع النفس الحمقاء وشعر بأنه محتاج لزمن إضافي يستعيد به هدوءه وتماسكه ويملك أعصابه . وقد كان اذ رفع آذان صلاة الظهر فوقف المطوع مخاطباً المراجعين في المكتب : " الصلاة .. الصلاة .. صلوا هداكم الله " . وقف الصف الجالس ودلف بعضهم إلي المصلي في البهو المجاور بينما لاذ آخرون بحمي الممرات والحوش للتدخين وسفه صعوط !
اخذ يوسف مكانه في صف الصلاة الأول فوجد نفسه مصادفة ومن غير تدبير يصلي جوار المطوع .. رأى في المصادفة فأل خير أن يكون قريباً من الله ومن المطوع في آن واحد !
وعندما قضيت الصلاة بقي يوسف جالساً بجوار المطوع متعمداً التباطؤ للتنفل وليتمتم ببعض الدعية المأثورة . " الهم يسر امرى واجعلني من الفائزين برضاك ونصرك ... "
أما المطوع فقد أكثر واستزاد من الدعاء وبصوت مسموع " الهم انصر الإسلام والمسلمين ودمر أعداء الدين .. اليهود والنصارى والمشركين والملحدين .."
أحس يوسف وهو يسترق السمع لهذا الدعاء بأنه موجه له شخصياً .. انه المقصود به .. صحيح أن يوسف ومنذ أن حل بالأراضي المقدسة عود نفسه علي أداء الصلوات الخمس في مواقيتها وفي الجماعة وخاصة صلاة الجمعة .. وكان يردد مع المصلين أمين أمين عندما يدعو الإمام علي اليهود والنصارى ولكنه هذه المرة وهو يستمع للمطوع يدعو عليهم بالدمار شك في دوافعه فلم يقل أمين .. بل علي النقيض من ذلك قرر في تلك اللحظة الإيمانية حسم الموضوع برمته .. موضوع تسجيل سوزان في مدارس الرئاسة العامة للبنات ... قرر أن يعود لمكتب المطوع لا ليقنعه أو يستجديه في أمر قبولها وإنما ليسترد الملف ليسجل " سوزان " في مدرسة خاصة .. مهما كلفه ذلك من ريالات ووقع اختباره علي الأميريكان سكول .. مدرسة النصارى !
عاد يوسف إلي داره في حي منفوحة ليطلع زوجته هويدا ( لو كان المطوع سأله عن اسم زوجته لهاله الاسم واشتاط غضبا وقال أن هويدا اسم فارسي شيعي !) علي قراره بإلحاق ابنتهم بالمدرسة الأمريكية .. حكي لها قصة حواره مع المطوع وكيف انه اعترض علي اسم سوزان انه من أسماء النصارى فكان تعليق هويدا علي قول المطوع أن دعت عليه بقولها " الله ينصر قلبه التافه المعوق !! " .
لم يكن لهويدا ثمة إعتراض علي قرار زوجها تسجيل سوزان في المدرسة الأمريكية .. فهي تحب الأمريكان وأسلوب الحياة الأمريكية فقد درست هي نفسها في معهد الخدمة الاجتماعية التابع لجامعة أوهايو وحصلت منه علي دبلوم الرعاية الاجتماعية للمعوقين ... ولكن كان لها تحفظ واحد علي المدرسة الأمريكية هو أن رسوم التسجيل والمصروفات باهظة ( 7000 ألف ريال ) مبلغ كبير خاصة وان هويدا ظلت تمني نفسها منذ قدومها لمملكة النحل والعسل قبل أكثر من شهرين بزيارة لسوق الذهب ... كانت تحلم كما كل نسوان المغتربين أحلاما ذهبية ... كانت تحلم بقلادة " كرسي جابر " أو عقد " دقن الخميني " تزين به جيدها وصدرها .. ولكن ما دام الأمر يتعلق بتعليم فلذة الكبد الوحيدة سوزان فلا مناص من تجاوز الأحلام مؤقتاً وبالتضحية المؤقتة .. ولا باس من الاستعاضة عن كرسي جابر أو دقن الخميني بثياب الشفون الفرنسي والتوتل الانجليزي .. وارد بلاد بره .. بلاد النصارى " وكية في المطوع " !
حسن عابدين
hasabdin1939@gmail.com