سلطنة المساليت (2/2) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
The Masalit Sultanate (2 – 2)
ريجلاند ديفيز R. Davis
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الثاني والأخير من ترجمة وتلخيص لمقال عن المساليت نشر في العدد السابع من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" عام 1924م، بقلم ريجلاند ديفيز (1887 – 1971م).
التحق ديفيز بخدمة حكومة السودان عام 1911م، وعمل في وظيفة باشمفتش في الجنينة بين عامي 1924 و1924م.
وكنت قد ترجمت من قبل عددا من المقالات عن المساليت منها مقال بعنوان " حول التاريخ السياسي للمساليت "، وآخر عن حركة "أبو جميزة" بين عامي 1888 و1889م، ومقالين للمؤرخة الهولندية الأصل بروفيسورة ليدوين كابتجنز بعنوان “العقيدة المهدوية وإضفاء الشرعية على الثورة الشعبية في غرب السودان" و"ظهور دولة سودانيوية: دار مساليت بين عامي 1874م – 1905م"، من رسالتها لنيل الدكتوراه المقدمة لجامعة أمستردام عن تاريخ المساليت بين عامي 1870 و1930م.
المترجم
***** ***** *****
سلطنة محمد تاج الدين إسماعيل 1905 – 1911م
استدعى السلطان تاج الدين أندوكا من أبشي لمقره في تمتمة، وأخبره بأنه قرر أن يتولى إدارة شؤون سلطنة المساليت بنفسه، ورعاية مصالح ابن أخيه الصغير. وقال له أيضا بأنه يعتقد بأن الله لم يبارك له في قراره السابق بالتخلي عن زعامة السلطنة. ولم يجد أندوكا بداً من الموافقة على رأي عمه.
وفي تلك الأيام كان الفور ما زالوا يحتلون مناطق المساليت، حيث بقي محمود الديدنقاوى في كوقيرني، وأدم في كراك في وادي كاجا. وتم تنصيبهما كملكين على بعض مناطق وقرى المساليت التي رضي سكانها بالتبيعة لهما.
وعند نهاية موسم الأمطار تحرك تاج الدين إلى الجنوب من تمتمة إلى قرناي (أرض أسلافه)، ومنها عبر مستري عائدا إلى قيلاني (جيلاني في بعض المصادر) في وادي اسنقا. وجمع الرجل في كل المناطق التي مر بها عددا مقدرا من الأتباع.
وكان تاج الدين في أثناء رحلته تلك قد كتب للفور خطابا خادعا يخبرهم فيه بأنه ذاهب للفاشر للانضمام لوالده أبكر، وإنهم إن لم يسمحوا له بالوصول إليه فسوف يشق طريقه عنوةً للفاشر. وبالفعل ردوا عليه بأنهم لن يعترضوا طريقه، ولن يمسوه بسوء، وضربوا له موعدا يأتي فيه إلى موغريني.
وانطلق تاج الدين في حملة لقتل أو اعتقال وسلب كل مسلاتي تعاون مع الفور أو قبل بالعمل معهم ملكاً تحت رايتهم. وازدادت مع مرور الأيام حُظْوَة ونفوذ وقوة تاج الدين في كل المناطق التي طاف بها.
وبلغت أنباء تاج الدين مسامع محمود الديدنقاوى، فأطلق خلفه فرق استطلاع من فرسانه لتتعقب آثاره وتأتيه بأخباره. وقام المساليت من جانبهم بالتعامل الحاد والصارم مع تلك الفرق، وقالوا بأنهم أفلحوا في القبض على ثلاثين فارسا من رجالها وهم على ظهور خيولهم، واستولوا من إحدى الفرق على سبعة عشر بندقية.
وفي سبتمبر من ذات العام رد الفور على ما قام به تاج الدين ضد فرق استطلاعهم فأرسل آدم علي (الذي كان مريضا) نائبه قمر الدين على رأس قوة كبيرة إلى قيلاني. غير أن رجال المساليت دحروهم مما أضطرهم للتراجع شرقا.
ولما سمع السلطان علي دينار بهزيمة جنده في قيلاني، أفرغ جام غضبه في أسراه من قادة المساليت وقتلهم جميعا.
وفي بدايات أيام شهر رمضان (في أكتوبر 1905م) آب قمر الدين إلى قيلاني بقوة أخرى، غير أنه لقي هزيمة أخرى، وقتل مع كثير من جنده في كاجا كيجي. وكانت تلك آخر محاولات علي دينار لإخضاع المساليت لحكمه.
وألف المساليت أغنية في تراجع الفور عنهم تقول معاني كلماتها:
عند القتال، رجال قصر السلطان ليسوا سوى جواميس
اهجموا على الكفار! اجعلوا منهم أكوام لحم!
الفاشر بعيدة جدا
رددوا الشهادة!
ووجه من صاغ الكلمات الأخيرة في تلك الأغنية للفور لتذكيرهم بأنهم سيقتلون حتما وهم في طريق انسحابهم من أرض المساليت للفاشر (البعيدة).
ومع بداية موسم الأمطار في عام 1907م أرسل السلطان علي دينار شيخا كبيرا اسمه عبد النبي الحاج إبراهيم إلى دارجيل ليفاوض تاج الدين إنابة عنه. واستقبل تاج الدين موفد السلطان دينار خير استقبال، وبعث معه برجل من خاصته لعقد صلح مع سلطان الفور. غير أن أندوكا وبدوي لم يرضيا بمفاوضة قاتل والدهما، فخططا لإبعاد السلطان عن عمهما. وسمع تاج الدين بتدبيرهما فخدعهما بالقول بأنه يدعوهما للاشتراك في غزوة ضد وداي. وبذا أفلح في إخراجهما من دارجيل إلى معقله ومركز قوته في تادولانا بمسترى. وهنالك قبض عليهما رجاله وكبلوهما بالأغلال وألقوا بهما في السجن لثلاثة أشهر. وسجل أحد شعراء المساليت تلك الحادثة بالقول:
"لدينا عداوة مع علي دينار".... هكذا قالا
"لن نعقد سلاما معه"... هكذا قال ولدا قرجنق
إلا أن تاج الدين سمع ما قالاه، ووضع الحديد في يدي أندوكا
وهكذا انتهت الحرب بين المساليت والفور، غير أن عددا من الحروب الصغيرة (غير المعلنة) والمناوشات بينهما تواصلت بين حين وآخر، ولم تتوقف تماما إلا بعد وقت طويل.
وفي تلك الأيام كان هناك قادم أسوأ إلى دار مساليت من جهة الغرب. ففي سبتمبر من عام 1909م قام الفرنسيون بقيادة آدم أصيل (وهو عضو ساخط من أعضاء العائلة الحاكمة في وداي ومتمرد عليها) بالزحف على ابشي، ففر سلطان وداي (دود مُرَّة) إلى دار السنوسيين أولا، ثم لجأ، كما سنرى، إلى دار مساليت، والذين لم تسبق لهم تجربة الدخول في حرب مع الأوربيين.
(من أجل مزيد من التوضيح نقتطف هنا من مقال عن تاريخ المساليت بقلم الأستاذ عبد المنعم خليفة نشر في صحيفة "الصحافة" يوم 24 /9/2010م. المترجم):
***** *****
"في الثاني من يونيو 1909م احتل الفرنسيون أبشي، مما جعل سلطان وداي (شرق تشاد) يفر إلى الشمال لتنظيم المقاومة المستقبلية، ونصب الفرنسيون آدم اصيل سلطاناً مكانه. وكان غزو الفرنسيين لسلطنة وداي تحقيقاً لسياسة سبق أن تم إقرارها في عام 1906م، والتي تخلت فرنسا بموجبها عن السياسة الدفاعية التي كانت تنتهجها نحو (وداي)؛ وتبنت بدلاً عنها سياسة هجومية، تمثلت في ممارسة الضغط بثبات في اتجاه الشرق. وكانت هناك عدة أسباب وراء هذا التغيير في السياسات، من بينها تعزيز سلطة فرنسا في المناطق الغربية لدارفور، خاصة وأن (الوداويين) كانوا كثيراً ما يخرقون استقرار الحدود. سبب آخر هو تخوف الفرنسيين من احتلال عثماني/ سنوسي مشترك لـ (وداي) من الشمال، أو احتلال اقتصادي لها وتحويل تجارتها للشمال (بواسطة العثمانيين)، أو للشرق (بواسطة البريطانيين. وبعد غزوهم لأبشي، نزع الفرنسيون سلاح السكان، ودعوا رعايا سلطنة (وداي) وفروعها للاستسلام. وفي الخامس من يونيو 1909م كتب آدم أصيل إلى سلاطين المناطق الحدودية معلناً نفسه السلطان الجديد لـ (وداي). وكان أول المتجاوبين مع رسائله سلطان دار تاما، وتبعه سلاطين دار سلا ودار قمر. أما السلطان تاج الدين والسلطان علي دينار - وإن كانا قد أرسلا تهنئة - إلا أن رسالتيهما اشتملتا على تحذير واضح لأصيل. بل كانت رسالة تاج الدين إعلانا مبطنا عن استقلال سلطنته. وقد أدرك أصيل تماماً ما عناه كل من علي دينار وتاج الدين. غير أن الفرنسيين لم يكونوا على نفس الدرجة من الإدراك، حيث أنهم واصلوا اندفاعهم نحو الشرق".
**** ****
وجاء دور دار مساليت بأسرع مما يظنون. ففي بداية عام 1910م قام الكابتن (النقيب) الفرنسي جين - جوزيف فايجنشو Jean-Joseph Figenshu بقيادة رَتَل من الجنود الفرنسيين ودخل أراضي دار مساليت وعسكر في جبل كانداري. فأرسل إليه تاج الدين رسولين من عنده ليستفسرا القائد الفرنسي إن كان قد جاء مسالما أم محاربا (أو كما قال: لوضع الحبل حول عنقه كما فعل مع سلاطين المنطقة الآخرين). لم يرد الضابط الفرنسي على سؤال تاج الدين، بل قام باعتقال رسوليه. وعلم تاج الدين بذلك من أشخاص آخرين بعث بهم إلى معسكر الفرنسيين ليتقصوا سبب تأخير وصول رد القائد الفرنسي.
جمع تاج الدين جنده، في انتظار قدوم الفرنسيين عليهم تحت شجرة جميز ضخمة (يسميها المساليت كريندينق) بالجنينة، على الشاطئ الشرقي من وادي كاجا، وعند الطريق المؤدي إلى زالنجي. وأمر جنوده بعدم البدء بأي هجوم. ونأى تاج بنفسه عن القدوم لمركز تجمع جنوده كإجراء احترازي، حتى تتبين له نوايا القوة الفرنسية، واكتفى بإرسال أندوكا وقادة آخرين عند بلوغه للجنينة.
ولما قدم النقيب الفرنسي على قوات المساليت سألهم عن أيهم السلطان، فأشاروا إلى أندوكا. فسألهم بعد ذلك عن الطريقة المعتادة لتحية السلطان عند المساليت. ولما أخبروه بها، ترجل عن حصانه وصفق بيديه برفق. ثم عرض على أندوكا أن يصافح يده، ولكن أندوكا سارع بسحب يده، وكان ذلك التصرف مما أثار امتعاض الضابط الفرنسي.
قال أندوكا للقائد الفرنسي أن هنالك ثلاثة مخابئ (أو استراحات) في الوادي كانت مخصصة لاستخدام السلطان، وأنه يدعوه لرؤيتها، وأنه سيجلب له فيها بعض الأغنام ووسائل الترفيه إن رغب في احتلالها. وبينما كان أندوكا يتبادل ذلك الحديث مع الرجل الفرنسي، كان تاج الدين يراقب من تحت شجرة الجميز كل ما يحدث تحته في الوادي، وكان معه 200 إلى 300 من الفرسان، بينما اختبأ الكثير من جنود مشاته خلف أشجار الوادي.
وقبل القائد الفرنسي بعرض أندوكا ومضى ليتفقد المخابئ الثلاثة، ولكنه لم يعجب بأي منها. وخرج من المخبأ الثالث ولسبب لا يفهمه راوي قصة تلك الأحداث، رمى الفرنسي فجأة بخوذته على الرمل وصاح في رجاله بأمر ما، فقاموا على الفور بإطلاق النار فقتلوا الكثير من رجال المساليت.
وهنا أمر تاج الدين بالهجوم على الفرنسيين فأردى الكثيرين منهم قتلى. وقُتل القائد الفرنسي نفسه في تلك المعركة. وفر بعض جنده، غير أن فرسان المساليت قبضوا عليهم وقتلوهم. وغنم جيش تاج الدين الكثير من البنادق والذخيرة وبعض الآلات. وجرح أندوكا في تلك المعركة (التي وقعت في 3 يناير من عام 1910م).
ومن الأغاني التي خلدت تلك المعركة أغنية جاء فيها:
للنصارى ذيل مثل الشال
قال قائدهم: "الحرب ضد السلطان مثل حرب ضد جاموسة"!
أين مكان المواجهة؟
في كريندينق جعلناك مجرد "ساتر / بويه"
وفي السطر الأول كان الشاعر يقصد بـ "الشال" الكنفُوس الذي ترتديه البنات، أي أن الشاعر يريد أن يقول بأن النصارى تعوزهم الرجولة. وفي السطر الأخير تعنى كلمة "بوية" قطعة قماش كبيرة تُنسج محليا، وتُربط وتُنشر على عصا طويلة لتحمي من الرياح. ويرمي الشاعر إلى أن المساليت أحاطوا بالجنود الفرنسيين من كل الجهات.
وربما كان نجاح المساليت في تلك المعركة ضد الفرنسيين هو سبب توافد لاجئي وداي إلى "داروتي" بالقرب من دارجيل في غضون شهور عام 1910م. ثم وفد إليها أيضا وزير سلطان وداي واسمه جاتينيي، ثم سلطان وداي (دود مُرَّة) نفسه. ولحقت أم السلطان بولدها وهي في غاية القلق. وارتفعت أصوات آلة الكيتا مثيرة الحماسة في وسط الجنود.
ولم يدع الفرنسيون كارثة هزيمتهم ومقتل قائدهم جان – جوزيف فيقنشو تمر دون رد انتقامي. ومثلما حدث في وداي، قادهم إلى أبشي آدم أصيل (الذي يجب أن نذكر أنه لم يحتفظ طويلا بحكمه للسلطنة، وكان قد ناله عن طريق الخيانة على كل حال). لذا قاد العقيد الفرنسي مول (Moll) ورتله في دار مساليت رجل خائن آخر هو توجا (أحد كبراء المساليت من فرع القارنجق الذين كانوا يسعون لتولي حكم السلطنة). وفي ذلك تقول أغنية المساليت:
تركت داروتي منطقة مهجورة
يا توجا... يا لعظم الذنب الي ارتكبته!
يا رجال السلطان ... هبوا سراعا!
ليس عند النصارى أدنى رحمة... لا تلتفتوا للوراء!
وبلغ الرتل الرئيس من جنود العقيد الفرنسي مول داروتي (الواقعة على بعد ميل ونصف جنوب غرب دارجيل) في يوم 9 نوفمبر من عام 1910م، وكانت هنالك قوة صغيرة بقيادة ملازم تتجه نحو المكان الذي يقع فيه الآن الطريق الرئيس الرابط بين الجنينة ودارجيل. وكان لجيش مول مدفعان وضعها في وسط ميدان. وأمر القائد بتسريح جمال حمل الأثقال في البرية لترعي في حراسة عدد محدود من الجنود.
لقد بدا القائد الفرنسي شديد الإهمال في تدابيره العسكرية، حيث فاجأهم المساليت في عصر ذلك اليوم بهجوم عنيف ومباغت قتل فيه العقيد مول وضابط آخر، مع عدد كبير من الجنود، بينما فر من نجا منهم في كل الاتجاهات.
وعوضا عن إكمال ذلك الانتصار، انشغل المساليت بجمع الغنائم والبحث عنها في حقائب الجيش الفرنسي، في الوقت الذي كان الملازم الفرنسي قادما نحوهم. وأطلقت قوات ذلك الملازم أربع طلقات مدفعية على المساليت قضت على الكثيرين منهم. وقتل في تلك المعركة السلطان تاج الدين وأصيب دود مُرَّة بجرح بالغ.
وبعد أربعة أيام أعاد المساليت تنظيم صفوفهم، وهاجموا الفرنسيين مجددا في منطقة تقع بين داروتي وموغريني، لكنهم هزموا هذه المرة أيضا.
ويشير كثير من الكتاب خطأً إلى معركة داروتي بحسبانها نصرا مبينا للمساليت على الفرنسيين (للشاعر محمد مفتاح الفيتوري قصيدة مشهورة في رثاء السلطان تاج الدين. المترجم). وعلى الرغم من أن نتيجة المعركة كانت بالفعل كما يشتهي المساليت في البداية، إلا أنهم أدركوا أن نهايتها كانت هزيمة لهم. وتوجد في أغانيهم إشارات للأسى والأسف على ذلك:
لا سحر يجدي مع "بندقية الطيرة"
دعوا بذورهم لسكان قريناج
يا أيها النصارى، لا تقطعوا دابرهم
يا جماعة أمين داؤود، أين أنتم؟
والمقصود ببندقية الطيرة هي بندقية الجيش الفرنسي، وأمين داؤود هو وزير السلطان تاج الدين، وقد قتل معه في داروتي.
وعبرت إحدى نساء (حكامات) المساليت عن امتعاضها من بعض رجال القبيلة حين أنشدت:
القادة لا يعرفون غير الكلام فيما لا يفيد
الذين قتلوا مع أمين داؤود، من هم؟
النيرينق لهم ذيول
وقصدت المرأة في السطر الأخير ذلك الفرع الآخر من القبيلة.
السلطان محمد بحر الدين أبكر (أندوكا): من 1910 – الآن (أي 1924م)
ورث محمد بحر الدين أبكر، أكبر أبناء والده الحكم بعد وفاة والده، وكانت أولى قرارته مميزة وشديدة الدلالة على شخصيته.
وكان المساليت قد قبضوا على الوزير (الخائن) توجا في داروتي. غير أن أندوكا قام بالعفو عنه، بل وعينه أمينا، أي أحد المقربين من دائرته الخاصة. ولكن كان الرأي العام في أوساط المساليت كارها للرجل، مما أضطر السلطان لسجنه.
وبعد شهر أو اثنين من معركة داروتي أرسل الفرنسيون رتلا آخر من جنودهم إلى أبشي. وواجههم السلطان بجنوده في "هبيلة"، غير أن جنوده لاذوا بالفرار عند سماع أول وابل من الرصاص، مما اضطره للانسحاب.
وأطلق الفرنسيون سراح توجا، فأنضم إليهم. إلا أنه لم ينعم بثمار خيانته طويلا، إذ سرعان ما ألقت قوة من فدائي المساليت القبض عليه مجددا وقتلته.
وكانت أغاني المساليت قبل الفرار من "هبيلة" لا تخلو من بعض التحدي.
لقد تركوا الأرض للقادمين
أتوا للسلطان حبوا على ركبهم
وهَدَرَ أزيز البنادق
ساووا النصارى بالأرض
غير أن ذلك التحدي تحول بعد تلك الهزيمة إلى نوع من "اليأس الفلسفي".
إذا لم توفق في المعركة، دعها وأرجع
أدرتم هنالك ظهوركم للسلطان أندوكا
وتركتم الأرض للنصارى
وبعد تلك الحادثة انسحب الفرنسيون إلى أبشي. وبعد ذلك بقليل بدأ "دود مُرَّة" في رحلة حملته في رفقة سلطان المساليت. ولكنهما منيا بالهزيمة في معركة شيكونق Shekiung، على مسيرة يومين من أبشي. وعاد سلطان وداي السابق إلى مغريني، حيث يقيم أندوكا. ورفض أندوكا مد يد المساعدة مجددا لـ "دود مُرَّة"، فآب الأخير إلى دار وداي وسلم نفسه للفرنسيين في خريف عام 1911م. وعده الفرنسيون لاجئا (أو مسجونا) سياسيا وهو يقيم الآن فورت لامي على معاش كافٍ من الحكومة الفرنسية.
ثم كتب الفرنسيون للسلطان أندوكا عارضين عليه السلم. وقبل السلطان بالعرض وقابلهم في الجنينة، ثم عاد معهم لاحقا إلى تمتمة حيث عقد معهم اتفاقا منحهم بموجبه السلطان ذلك الجزء من دار مساليت الذي يقع غرب وادي أسونقا وكاجا، وهي منطقة يقع فيها جبل قرناي (وهي منطقة القرانج Gernyang التي تنمي لها عائلة السلطان نفسه).
وساد السلام علاقات المساليت الخارجية عقب عام 1912م وما تلاها من أعوام. غير أن تلك الفترة لم تخل تماما من غارات من المساليت على الفور. وعُد هذا أمرا طبيعيا، مصدره ومبعثه النساء (الحكامات؟ المترجم) اللواتي كن يؤلفن الأغاني الساخرة ممن يتقاعس عن الإغارة على الأعداء، أو يشارك في الإغارة عليهم دون أن يجلب غنيمة ما. وظل جبل كونيو (الواقع في أرض الفور) هو الهدف الدائم لهجمات المساليت. وفي ذلك تقول أغنية المساليت:
الشباب لا يعرفون غير الثرثرة
يا من جبنتم عن الإغارة على الوادي
سيطر عليكم الفور بسحرهم
يلوح لكم جبل كونيو في الأفق
الشباب لا يعرفون غير الثرثرة
جبل كونيو يلوح بين السحب
ازحفوا!
وكان السلطان أندوكا عند توليه الحكم قد تخلى عن "المهدية" وأتخذ من "التجانية" طريقة صوفية له، وذلك بتأثير شيخ له أتى من الغرب. وأظهر السلطان حماسا للدين والتدين بأكثر مما كان شائعا عند أقربائه وكبراء الدولة من حوله، لدرجة أن بعضهم كان يشير إليه ببعض الاحتقار بـ "الفكي" أو "الجلابي" (يمكن النظر في مقال اسفيري بعنوان " دارفور معقل التجانية" بقلم إبراهيم الدلال الشنقيطي. المترجم)
وفي غضون سنوات حكمه عكرت صفو الأمن الداخلي لسلطنة المساليت أربع ثورات دينية متعصبة يقودها أنبياء مزيفون. وكان من حرض أحد هؤلاء عم السلطان واسمه علي سنان (Sennan)، وقيل إنه كان يطمع في حكم السلطنة. وقام بدوي، أخ السلطان، بقمع تلك الحركات في حزم وهمة عالية، بمعاونة وزيره أحمد الجبير (الشهير بأبي شلوخ).
وأبدى السلطان أندوكا لأعدائه ذات التسامح الذي أظهره من قبل لتوجا الخائن. فسمح لعمه علي سنان باللجوء إلى دارفور، حيث أكرمه السلطان علي دينار وعينه قائدا في جيشه.
وعَقَّدَ انتصار حكومة السودان (الإنجليزي – المصري) في عام 1916م من علاقات سلطنة المساليت الخارجية. فقد قام الفرنسيون (والذين كانوا قد استقر بهم المقام في تمتمة بعد مفوضاتهم السابقة مع السلطان أندوكا) في العام التالي بالتحرك إلى منطقة "أدري" وبنوا لهم فيها قاعدة. وتلك المنطقة لا تبعد سوى سبعة عشر ميلا غرب الجنينة، التي غدت عاصمة للسلطنة في عام 1914م بعد أن قلت مصادر المياه في ديرجيل.
وكانت قوة بريطانية قد أقامت قاعدة لها في بداية عام 1918م بـ "كيرنيك" في وادي باري على الحدود الشرقية لدار المساليت، وعلى بعد ثلاثين ميلا شرق الجنينة. وأحس السلطان حينها بأنه محاصر بالفعل، ولم يخف ارتيابه مما يحدث.
كان من المحقق أن أحد القوتين (الفرنسية أو البريطانية) ستفرض نوعا من السيادة على سلطنة المساليت. وكانت اتفاقية الحدود بينهما المبرمة بينهما في سبتمبر 1919م تعترف بتبعية كل أجزاء البلاد لـ "السودان الإنجليزي المصري" عدا الجزء الذي تنازل عنه السلطان أندوكا سابقا لفرنسا.
ولم يتم التصديق النهائي على تلك الاتفاقية إلا في أبريل من عام 1921م. وفي خريف ذات العام تم الاتفاق على احتلال الجنينة سلميا. واتخذ السلطان قرار حكيما بالموافقة على ذلك. غير أن ذلك "الاحتلال السلمي" تأخر، وتغيرت طبيعته السلمية بعد التمرد المسلح العنيف الذي وقع في نيالا بجنوب دارفور في سبتمبر من ذات العام.
كان تمرد نيالا المسلح بقيادة فكي أصله من المساليت، وتسبب في إحداث كثير من القلاقل في دار مساليت. ورأى فيها كثير من كبراء القبيلة فرصةً سانحةً لتحاشي الاحتلال القادم لديارهم، وكانوا بالطبع كارهين له، ولم يكن ليقبلوا به إلا بإحساسهم بالضعف وعدم القدرة على المقاومة. (المقصود هو التحرك المسلح الذي قاده الفكي عبد الله السحيني ضد البريطانيين. للمزيد عن تلك الحركة يمكن قراءة المقال المترجم بعنوان: "التمرد والعنف وتكوين الدولة في دارفور في سنوات الاستعمار الباكرة". المترجم).
ولحسن الحظ تم إخماد تمرد نيالا قبل أن تستفحل القلاقل في دار مساليت وتتحول إلى صدامات مسلحة. لذا تم احتلال الجنينة بقوة عسكرية كبيرة دون أدنى مقاومة في يناير من عام 1922م.
وقررت السلطات تطبيق نظام حكم غير مباشر في دار مساليت عن طريق سلطانها ومؤسساته الأهلية. وتم الالتزام بذلك القرار على الرغم من الأحوال المَشْؤُومة التي صاحبت احتلالنا لها.
وتم تعيين "ممثل مقيم" للحكومة في الجنينة، مع عدد قليل من الموظفين لإدارة شؤون المواطنين من غير المساليت المقيمين في دار مساليت. وكان هنالك أعداد مقدرة من هؤلاء نسبة إلى قرب المنطقة من تشاد، المستعمرة الفرنسية، ولوجود حامية في الجنينة، ولجود مجتمع كبير نسبيا من التجار الأجانب، وأن طريق الحج من غرب أفريقيا يجلب آلاف الأجانب عبر السلطنة سنويا.
وتم تقليص السلطات التي منحت لسلطان المساليت في بعض الجوانب، بينما أسندت في بداية الأمر بعض الوظائف (مثل شؤون السجون والمال العام) لموظف حكومي. غير أن تلك التجربة الإدارية أثبتت أن الذين عُهد لهم بتلك المهام كانوا يرغبون في أن تترك سلطات ومسؤولية مثل تلك الوظائف للسلطان نفسه ولبقية حاشيته.
وكان السلطان يدرك، بذكائه وحنكته، أن استبدال استقلال تحيط به المشاكل ويحيق به الخطر بالسلم والأمن الذي توفره الحماية البريطانية هو بلا شك أفضل. وتبدلت العداوة والصراع بين الحكومة وبين المساليت الذي حدث في 1918م الآن إلى قدر كبير من الصداقة والثقة المتبادلة. وهنالك الكثير من الأسباب التي تدعو للتفاؤل بمستقبل زاهر وآمن لسلطنة المساليت.
alibadreldin@hotmail.com
////////////////