التعلق بتراث مهجور: دراسة حالة سواكن في السودان .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
Attachment to abandoned heritage: the case of Suakin, Sudan
جون قيبلن John Giblin
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لغالب ما ورد في عرض لكتاب الدكتورة شادية طه الموسوم "التعلق بتراث مهجور: دراسة حالة سواكن في السودان" نشره الدكتور جون قيبلن عام 2013 في العدد الثامن والأربعين من مجلة Azania: Archaeological Research in Africa. والكتاب (207 ص) من منشورات دار Archipress.
وسبق لكاتب العرض أن عمل بمعهد الثقافة والمجتمع في جامعة غرب سيدني بأستراليا، ويعمل الآن بالمتحف البريطاني، بحسب سيرته الذاتية المبذولة في الأسافير.
أما مؤلفة الكتاب فهي عالمة آثار تعمل باحثةً في جامعة كمبردج البريطانية.
المترجم
***** ***** ***** *****
استلت شادية طه هذه الدراسة من أطروحة الدكتوراه في علم "الاثنوجرافية / الأجناس البشرية Ethnography" التي أجرتها بين عامي 2007 و2011م (في جامعة كمبردج). ويدور بحثها حول طبيعة التراث، أي التعلق البشري بالماضي، واستكشاف تلك العملية عن طريق تحليل ذلك "التراث المهجور" افتراضا، وهو في هذه الحالة سواكن بالسودان. وتشمل المسألة الرئيسة في البحث كيفية عرض العلاقات مع البقايا المادية، وكيفية استخدام تلك البقايا، و"تأثير الزمن والفراغ على الصلة بالتراث" (الصفحة الأولي من الكتاب).
ويعد "التعلق" مفهوما أو فِكْرة مهمة لفهم التراث في المجتمعات المعاصرة. بل يمكن القول بأن التراث (بحسبانه عملية ثقافية) لا يظهر للوجود إلا عبر التعلق البشري بآثار الماضي، التي قد تكون مادية محسوسة أو غير محسوسة. وبعبارة أخرى يمكن القول بأنه يمكن تعريف آثار الماضي بأنها "تراث" عبر تثمين / تقويم (valorizing) التجارب الإنسانية التي تخلق حالات التعلق العاطفية والسياسية بالأشياء المادية والأماكن والذكريات والممارسات التقليدية، وغير ذلك من "أشياء" التراث. وبذا تضع شادية طه بحثها في قلب المناقشات والحوارات حول معنى ووظيفة التراث. وبالإضافة لذلك تناولت الكاتبة طبقة "خادعة" ولكنها مهمة للتراث المادي المحسوس الذي نصادفه عند اكتشاف آثار قديمة، ألا وهو "التراث المهجور". وفي الواقع ينحصر غالب البحث في مجال الآثار في أفريقيا في آثار الماضي المهملة. غير أن كلمة "مهملة" هذه كما أوضحت الكاتبة تخفي / تحجب التجارب المحلية المعاصرة التي قام بها البعض. ولذا فإن "تثمين / تقويم" تلك الآثار الباقية يؤدي إلى تحويلها إلى مجرد أشياء/ أجسام لمواقع أثرية ميتة (objectification) عوضا عن اعتبارها أماكن (كانت حية)، امتلكها وعاش فيها حينا من الدهر بشر أحياء. لذا فإن الاستكشاف والبحث لمفهومي "التعلق" (وهو يضمر وينطوي على مشاركة حية) و "الهَجْر"، الذي كثيرا ما يستخدم أحيانا دون تبصر ليعطي معنيً مضاداً لمفهوم "التعلق"، يعطي منصة مفاهيمية شديدة الثراء يمكن للمرء أن يقوم من عليها باستكشاف طبيعة التراث، وإعادة فحص أو دَفْع بعض الافتراضات الموجودة.
وتناولت شادية طه ذلك التحدي المفاهيمي عن طريق دراستها الاثنوجرافية هذه عن سواكن، ذلك الميناء التاريخي والمعاصر، وتلك المدينة الواقعة على البحر الأحمر، التي وضعتها منظمة اليونسكو في القائمة المؤقتة لمواقع التراث العالمي منذ عام 1994م.
ومعظم الأماكن في جزيرة سواكن، خاصة تلك الجزيرة المركزية التاريخية المسورة هي الآن منطقة مدمرة، إلا أن شادية طه أفلحت باقتدار في إيضاح أن حالة الجزيرة تلك لا تعني أن السواكنيين قد "هجروها" عاطفيا. ووضعت الكاتبة في بحثها ثلاثة أسئلة تتعلق بموقع المدينة ومجتمع سكانها:
1. هل لسكان الجزيرة تعلق بتراثها الأثري؟
2. كيف يقوم هؤلاء السكان بتكوين "تعلق" بمكان أو أمكنة معينة بها؟
3. كيف يظهرون مثل ذلك "التعلق" ويحافظون عليه وينشرونه؟
وشرعت الباحثة في محاولة الحصول على إجابات عن تلك الأسئلة عن طريق تناولها عبر ثلاثة مواضيع أو نقاط رئيسة هي الهوية، والشعور بالمكان وبالانتماء له، والذكريات والمأثورات. وقامت الكاتبة بالحصول على نتائج عن اسئلتها تلك عن طريق اجراء مقابلات شخصية (مع السكان)، وملاحظاتها الشخصية عن طيف واسع من نشاطات ثقافية (في المدينة). وابتدعت الكاتبة في هذا الجانب بعض الطرق والمقاربات المبتكرة مثل سؤالها للأطفال أن يقوموا برسم أشيائهم المفضلة في سواكن. وختمت شادية طه هذا الجانب الخاص بالتعلق بسواكن بالقول إن ذلك التعلق: " يظهر، ويُحافظ عليه، ويُنشر بين الناس عبر طرق متعددة شملت القصص والخرافات والاستعارات والأنساب والطقوس والشعر والعروض والفخر والإجْلال والإكْبار والزيارات والتجارب والذكريات الشخصية والجماعية والقيام بزيارات ورحلات للنزهة فيها. وزيدت ودعمت كل تلك الطرق عن طريق البيئة المبنية حضريا (صفحة 138 في الكتاب).
وتتبع هذه الأفْرودَة (دِراسَةٌ في مَوضوعِ واحِدmonograph ) التنظيم والبنية المعتادة في كتابة أطروحات الدكتوراه مثل الإطار النظري، الذي يشمل مقدمة تتناول مفهوم التعلق والتراث والهوية والمكان والشعور بالانتماء، وطرق البحث التي اختارتها الكاتبة (الجزء الأول). وأعقبت ذلك بوضع سياق تاريخي لسواكن، ومكانها في تاريخ السودان، وعن التشريعات السودانية الخاصة بالتراث (الجزء الثاني). وقدمت بعد كل ذلك نتائج بحثها وتحليل ومناقشة لها، خاصة فيما يتعلق بتأثير صيانة التراث والحفاظ عليه والتطوير الحديث للمدينة على التعلق بها (الجزء الثالث). ورغم أن مثل تلك البنية قد تجعل من ذلك الجزء من الأطروحة جامدا وثقيلا بعض الشيء، ولا يخلو من التكرار، إلا أن هذا مما لا مفر منه في سياق كتاب هو في الأصل أطروحة دكتوراه.
ومما يجدر ذكره عن هذه الدراسة أنها كتبت بصيغة المتكلم، وهذا من شأنه أن يجعل السرد في بعض الأحيان يبدو أخرقا ومتعجرفا awkward and overbearing بعض الشيء، رغم أنه يمكن أن يقال أيضا أن استخدام صيغة المتكلم هنا أمر عملي يؤكد دور الكاتبة بحسبانها "ممثلة سياسية" في هذه الرسالة. ووفقت الكاتبة جدا في نقاشها لآراء الأطفال جنبا إلى جنب آراء البالغين من سكان المدينة عن طريق رسوماتهم، وكذلك في الجزء الذي تناولت فيه الدراسات التاريخية عن التراث عبر العصور، وما يخص منه التراث في السودان، وفي سواكن بوجه خاص. ووفقت كذلك في الحصول على معلومات قيمة من المقابلات الشخصية مع بعض سكان سواكن، وفي تفريقها المهم بين "التعلق" و"الذكرى"، وما وجدته من اختلاف بين الذكور والإناث الذين قابلتهم في أمر "الذكرى"، وعدم الاختلاف بين الجنسين في "التعلق". وأحسنت الكاتبة صنعا بتحاشيها للتفريق بين التراث المادي المحسوس وغير المحسوس، وإدراكها لأنهما لا ينفصلان عن بعضهما.
ورغم كل ما ذكرناه من ذكر لمحاسن الدراسة، إلا أنها لم تخل من بعض العيوب. فهنالك الكثير من الأخطاء الطباعية، والغموض في بعض التعابير المستخدمة، والاستخدام (المفرط) لصيغة المتكلم، الذي برغم فائدته في بعض الأحيان، يجعل صوت الكاتبة يطغى على صوت سكان سواكن، وبالتالي يصعب أحيانا التفريق بين آراء "السواكنية" وآراء الكاتبة نفسها.
وما ابتكرته المؤلفة من "جولة تعريفية سيرا على الأقدام" لتعريف القارئ بتراث المدينة ومبانيها أمر مبدع فعلا، ولكنه لم يكن دقيق الترجمة. وهنالك فروقات عديدة في المقاربات النظرية بالكتاب، فقد تناولت الكاتبة بعضها بصورة مملة، وغابت بعضها تماما مثل "نظرية التأثير".
أما أكبر عيوب الدراسة فهو قصورها المنهجي، وما يعوزها من تفكير نقدي في بعض المواضع مثل طرق البحث، وتحليل المعلومات ومناقشتها، وتفسيرها، وتقديم ذلك أحيانا كحقائق من غير طرح لإشكالية البحث على نحو كافٍ.
وختاما يمكن القول بأن هذه الدراسة تقدم مساهمة ملهمة ومثيرة – ولكنها محدودة – في مجال استكشاف عمليات "التعلق" بآثار الماضي. غير أن هذا البحث سيكون بلا ريب مفيدا بصورة خاصة للمهتمين بالسياق العصري لسواكن، ولهموم مجتمعات سكانها وآرائهم حول تشريعات وممارسات التراث السوداني. وتقدم الدراسة أيضا تجميعا مفيدا لتاريخ سواكن وتاريخ استكشاف الآثار فيها، وممارسات إدارة التراث. ولذا ستكون هذه الدراسة مفيدة جدا للباحثين في آثار السودان، وتراثه بصورة عامة. ويمكن القول أيضا بإن هذا البحث يمكن أن يعد وثيقة باعثة على التفكير، وقد شجعني شخصيا للبحث بصورة أعمق في موضوع "التعلق العاطفي"، وفي مفهوم "الهجر" في دراسات التراث. لذا فأنني رغم ما ذكرته من انتقادات للدراسة، إلا أنني أعدها دراسة حالة عالية القيمة، خاصة في عدم وجود أعمال مماثلة تتناول الدراسات الإفريقية في مجال الآثار، وفي نقد دراسات التراث. وهذه ما يجعل دراسة شادية طه مساهمة معتبرة في هذين الفرعين من الدراسات.
alibadreldin@hotmail.com
///////////////////