Colonial education and the shaping of Islamism in Sudan, 1946 – 1956 (2 -2) Willow Berridge ويلو بيريدج ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي تقديم: هذا هو الجزء الثاني والأخير من ترجمة وتلخيص مقال طويل نشره الدكتور ويلو بيرديج في أبريل من عام 2018م في "المجلة البريطانية لدراسات الشرق الأوسطBritish J. Middle Eastern Studies “، وهي دورية عالمية ظلت تصدر عن دار نشر "تايلور وفرانسيس" منذ عام 1964م. ويعمل كاتب المقال محاضرا بقسم التاريخ في جامعة نيوكاسل البريطانية. وكان قد درس وعمل من قبل في قسم التاريخ بجامعتي درم ونورثهامتون، حيث نشر عددا من المقالات المحكمة عن أجهزة الأمن والشرطة والسجون في السودان، ومقالا عن الثورة المصرية على نظام حسني مبارك، وكتابين صدرا حديثا هما "حسن الترابي: السياسة الإسلامية والديمقراطية في السودان" و"الثورات المدنية في السودان الحديث في عامي 1964م و1985م"، ولديه تحت الطبع كتاب جديد بعنوان Islamism in the Modern World: A Historical Approach. وكانت أطروحة الكاتب المقدمة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة درم هي بعنوان: "تحت ظل النظام: تناقضات حفظ النظام في السودان بين عامي 1924 و1989م". أشار الكاتب في مقاله إلى العديد من المراجع السودانية والأجنبية منها كتاب عبد الوهاب الأفندي "ثورة الترابي" وكتاب عبد الله جلاب "جمهوريتهم الثانية" وكتاب نوح سالمون "في حب النبي"، وكتاب حسن مكي "الحركة الإسلامية في السودان"، ومقال للترابي عن "الإسلام كحركة عالمية" نشر عام 1992م في مجلة .Royal Society of Arts Journal الشكر موصول للكاتب لمدي بنسخة من المقال. المترجم **** **** ****
التعليم الاستعماري والوطنية والخلافات الإقليمية لطالما عبر الإسلاميون عن غضبهم وامتعاضهم من الدور الذي أداه التعليم الاستعماري في عزلهم عن ثقافتهم وتاريخهم. فقد أشار محمد الخير عبد القادر في كتابه "نشأة الحركة الإسلامية في السودان 1946 – 1956م" إلى أن استخدام "تاريخ الإسلام" باللغة الإنجليزية لمؤلفه اللبناني – الأمريكي فيليب حتي ككتاب دراسي رئيس في كلية غردون التذكارية هو أبلغ دليل على عزل الطلاب عن ثقافتهم وفصلهم تماما عن جذورهم. وفي الواقع، كان تدريس مادة "التاريخ الإسلامي" في مقررات التعليم الاستعماري محدودا جدا. وكان النظام التعليمي بأكمله يعتمد على مدرسين كانت معرفتهم بالتاريخ الأوربي تفوق بكثير معرفتهم بتاريخ العثمانيين أو الشرق الأوسط. ولاحظت المؤرخة سيري هيرشي أن المدارس في عهد الاستعمار كانت تقوم بتدريس تاريخ الإسلام الباكر بأفضل مما تفعل في عهوده المتأخرة – وقد يتساءل المرء إن كان ذلك هو سبب التماس الاسلاميين الأيديولوجي للعزاء والنجدة في تاريخ الإسلام البعيد، وليس القريب. وكان للإسلامين رأي سالب جدا فيما يدرس في تاريخ السودان، خاصة تدريس المهدية (تلك الحركة الصحوية الدينية التي أفلحت في طرد المصريين والبريطانيين من السودان لقرابة عقد ونصف من الزمان في نهاية القرن التاسع عشر) وزعم عبد الله محمد أحمد (أحد أعضاء "حركة التحرر الإسلامي" الذي انضم لاحقا لحزب الأمة) بأنه جاهد – بالاشتراك مع بابكر كرار- كي يصحح أو يعيد تفسير الصورة الخاطئة الزائفة التي رُسمت للمهدية بحسبانها ظاهرة أتت من غرب السودان، وهي صورة وتفسير حرص الاستعمار على تشجيعه وترسيخه في أذهان طلاب المدارس السودانية. وأتاح بابكر كرار (وهو من أسرة أنصارية) المجال لطلاب مدرسة حنتوب القادمين من الغرب ومناطق نهر النيل أن ينظروا للمهدية باعتبارها محاولة وجهد سياسي وديني مشترك بين سكان غرب السودان والقاطنين لمناطق النيلين الأزرق والأبيض، وإعادة تشكيل ذاكرتها لتغدو أداة مهمة من أدوات السياسة الوطنية. وبمعنى من المعاني فقد لا يكون هذا أمرا ثوريا جديدا بالكلية – ومن المفارقات الساخرة أن المدارس الأولية الاستعمارية كانت قد شرعت في تقديم منهج لتاريخ المهدية يشابه ما يعتقد به الوطنيون، رغبةً منهم في تقوية الجناح الداعي لاستقلال السودان عن مصر، خاصة عندما بدأت مصر في شن حملة قوية من أجل إقامة وحدة وادي النيل. وفي الواقع سميت واحدة من داخليات مدرسة حنتوب باسم القائد المهدوي الشهير "حمدان أبو عنجة". لقد عملت المدارس الاستعمارية كـ "بوتقة انصهار" أذابت الفوارق العنصرية بين الطلاب. وكان المستعمرون البريطانيون قبل تحالفهم مع المضادين لمصر والأنصار وحزب الأمة (في الأصل المهدويين الجدد) يحرصون على فصل مناطق بعينها في البلاد (مثل المناطق الغربية من المناطق النيلية) حتى لا يتكرر ما حدث إبان الثورة المهدية. غير أن لويس براون ناظر حنتوب الثانوية خالف بذرة سياسة المستعمرين المعتمدة على "فرق تسد" بتوزيع الطلاب على الداخليات والفصول متخطيا حواجز العرق والجهة. ولعل هذا هو السبب في سكن بابكر كرار مع عبد الله محمد أحمد في نفس الداخلية. وكان عبد الله (القادم من غرب السودان) قد ذكر في كتاب صدر لتخليد ذكرى بابكر كرار أن جهود الأخير ساهمت في إخراج طلاب الغرب من عزلتهم الاختيارية. وأنضم كثير من الطلاب القادمين من كردفان إلى "حركة التحرر الإسلامي" في حنتوب عند إنشائها، خاصة طلاب مدرسة خور طقت الذين نقلوا لحنتوب ريثما يكتمل تشييد مدرستهم قرب الأبيض. وأدى عبد الله زكريا (أحد الطلاب القادمين من الفاشر عاصمة دارفور)، وأحد أعضاء "حركة التحرر الإسلامي" دورا كبيرا في سد الفجوة الثقافية والجهوية بين طلاب الغرب وطلاب المناطق النيلية. ولا غرو، فقد درس الرجل الأولية بالفاشر، وانتقل للمدرسة الوسطى بالدويم، على النيل الأبيض، ثم جاء إلى حنتوب حيث أطلعه كرار على مؤلفات البنا وقطب والغزالي (بحسب ما جاء في لقاء للرجل مع غسان علي عثمان في 13/ 9/ 2009م، منشور في مدونة "مثاقفة"). وكان زكريا يقوم بتجنيد الطلاب في غرب السودان عند عودته من عطلات المدرسة السنوية. وقد قام بتنظيم مظاهرة ضد المستعمر في فبراير 1951م أحرق فيها العلم البريطاني، مما جعل حكمدار الشرطة يهدده بالسجن لتسعة أعوام (بحسب ما جاء في كتاب عيسى مكي عثمان أزرق "من تاريخ الإخوان المسلمين في السودان"). وقد لا تخلو رواية عبد الله زكريا حول دوره في تلك المظاهرة من مبالغة، إذ أن الرواية الرسمية تزعم أن من قام بالمظاهرة هم "الفلاتة" الذين درسوا بالأزهر وعادوا من مصر في تلك الأيام. ولا يُستبعد أن يكونوا هؤلاء الطلاب هم أنفسهم أعضاء في حركة الإخوان المسلمين، بحسب ما ذكره علي الحاج من أول أخ مسلم من دارفور كان قد أتى من الأزهر. وتم تجنيد علي الحاج نفسه لـ "حركة التحرر الإسلامي" في غضون سنوات دراسته بنيالا الوسطى في عام 1953م، على يد أحد أساتذته الذي كان أحد أعضاء "حركة التحرر الإسلامي". لذا يمكن القول بأن الإسلاميين السودانيين ربطوا مشروع الاحياء الإسلامي بشخصية سودانية شديدة الرمزية الوطنية لتخليد ذكرى المهدية. ولا ريب أن المؤسسات التعليمية الاستعمارية ساهمت في "توطين / تجنيس" الإسلاموية في السودان بتشجيعها على نشوء "ذاتية سودانية" مضاد لفكرة "وحدة وادي النيل"، بجمعها لطلاب من كل المناطق والأعراق السودانية المختلفة في مكان واحد، وتطويرها لعقلية وممارسة تعليمية شجعت الطلاب على التفكير المستقل كرواد وطنيين. الازدواجية الاستعمارية وظهور الفكر الإسلامي (الإسلاموية) لم يخل المشروع الاستعماري من ازدواجية أساسية، تمثلت في أمرين متناقضين: الرغبة في تغيير المُسْتَعْمَرين، مع خشية أن يفضي مشروعهم إلى استيعاب هؤلاء للمُثل الغربية، وهذا مما شأنه أن ينقض منطق الفروقات بين المُستَعمِرين والمُسْتَعْمَرين، الذي قام عليه الاستعمار أصلا. وكان القائمون على النظام التعليمي الاستعماري (خاصة في كلية غردون، معقل المشروع الاستعماري) يخشون من أن يؤدي تعريض الطلاب للكثير من تاريخ الاوربيين وحياتهم، مما قد يجعلهم يتعرفون ويؤمنون بأيدولوجيات معادية للاستعمار مثل الوطنية. وركز المعلمون البريطانيون في تلك الكلية على تطوير شخصية الطالب من خلال المناشط الرياضية والأدبية والاجتماعية، على افتراض أن ذلك سوف يغرس في نفوس تلك النخبة الصفوية قيما أخلاقية أفضل. وأدخلوا في المناهج أعمال شكسبير وكبلينغ، وشجعوا الطلاب على "التفكير الحر" والنقاش في الجمعيات الأدبية، وعلموا الطلاب ما سيحتاجونه لأداء وظائفهم الحكومية المقبلة مثل مسك الدفاتر، وترتيب المعلومات بحسب الطرق البريطانية المعتادة. غير أن المُستَعمِرين كانوا يخشون من مغبة افراط المتعلمين السودانيين في التشبه بالإنجليز (ِAnglicization) الذي قد يفضي إلى تشجيعهم على المطالبة بنفس الحقوق السياسية التي يتمتع بها البريطانيون. وفي أعقاب حركة اللواء الأبيض الوطنية عام 1924م منعت الحكومة الاستعمارية طلاب كلية غردون من ارتداء الملابس الغربية. وصار زي طلاب الكلية في أوج شغف المستعمرين بـ “التراث" واستحواذ فكرته عندهم هو الجلباب والعمامة. غير أن الطلاب كانوا بعد تخرجهم يعودون لارتداء الملابس الغربية، ربما من باب تحدي السياسة الاستعمارية، وللتعبير عن مظهر التعليم الحديث الذي تلقوه. وشجع الطابع الصفوي/ النخبوي للتعليم الاستعماري الطلاب على جعلهم يعتقدون بأنهم جيل من الرواد الذين تمت تهيئتهم بصورة لا نظير لها لنقل الحضارة الحديثة إلى باقي سكان البلاد. وكان يطلق على هؤلاء كلمة "الأفندية" – وهي كلمة غدت تحمل دلالات تَمَيُّز عندما يستخدمها المسؤولون الاستعماريون. وكانت لبعض أفراد الجيل الأول من الإسلاميين علاقات أسرية مع أبكار خريجي الكلية الذين مثلوا الموجة الأولى من الوطنيين في السودان. فقد حكى عبد الرحيم حمدي (وزير المالية في أوائل سنوات حكم الإنقاذ) في حوار معه في "النيلين" في 28 مايو 2009م عن أن عمه كان أحد قادة اضراب الكلية عام 1931م، وأن والده وجده كانا يكتبان في المجلة الأدبية الوطنية "الفجر". وكان والده يعد عائلته قد تحدت التقاليد السائدة حينها بقبولها لـ "السفور" (ذكر حمدي في تلك المقابلة ما نصه: "كان والدي مع السفور باعتباره ...؟ الجيل الجديد، لكن السفور طبعاً مسألة نسبية، وعندما واجه أول اختبار بعد أن تزوج والدتي كان أقصى ما فعله أن البسها «الطرحة والروب» بدلاً عن «التوب» وكان هذا هو مفهومه عن السفور". المترجم). وانعكست الازدواجية عند الاستعماريين والوطنيين في النظرة للعالم في أن الاسلاميين الذين تعلموا في مؤسسات الاستعمار التعليمية (مثل كلية غردون ومدرسة حنتوب الثانوية) كانوا يحملون تقريبا نفس روح المعتقدات والتطلعات والثقافة (ethos) التي كان يحملها باقي الطلاب العلمانيين والأفندية، الذين كانوا يعدون أنفسهم " رُسُل الحداثة" في المجتمع، خاصة في جوانب شملت الأدب والرياضة وغيرهما. وقد عرف عن بعضهم بالتميز في هذه الجوانب. فقد كان بابكر كرار على سبيل المثال مجيدا للسباحة وكرة القدم، وكان يتميز باتباعه لقواعد "السلوك العام"، بحسب زميله الإسلامي عبد الله محمد أحمد. وأتى حسن الترابي على ذكر الفوائد التي جناها من كرة القدم التي علمته إياها مدرسة حنتوب. غير أن بعض زملائه لم يقروا له بأي براعة رياضية. وكان القسم الذي يؤديه من يقبل الانضمام لـ "حركة التحرر الإسلامي" يتضمن التعهد بمحاربة، ليس فقط الاستعمار، بل "الفقر والتخلف" أيضا. وكان الإسلاميون يتشاركون مع غيرهم من "الأفندية" والمستعمرين التنمويين في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في الايمان بدور الكلمة المكتوبة في نشر الوعي والتمدن. وجعل الإخوان المسلمون من "نادي أم درمان الثقافي" مركزا لحملتهم لمحو أمية السكان، خاصة الجنوبيين. وكانوا لا يختلفون عن المستعمرين البريطانيين والوطنيين العلمانيين في اعتبار جيل خريجي كلية غردون بعد الحرب العالمية الثانية روادا مثقفين يمكنهم قيادة بقية الأمة. وكان الإخوان المسلمون (مثلهم مثل المستعمرين البريطانيين) قد رسخوا احساسهم وفهمهم الخاص بقدراتهم، وذلك في قراءة شديدة الخطية للتاريخ. فعلى سبيل المثال استشهد محمد خير عبد القادر في كتابه "نشأة الحركة الإسلامية" بمذكرة كتبها بينس – بيمبروك الباشمفتش البريطاني بدارفور كان قد عبر فيها عن رغبته في التوسع في التعليم الغربي، وتقليل الاعتماد على المتعلمين في الإدارة، وزيادة توظيف صفوة رجال القبائل (التقليدين) عوضا عنهم، لتخوفه من ذلك التعليم الغربي على "الجيل الجديد" الشديد الاهتمام بالموضات والصرعات الغربية. واستخدم عبد القادر منطق الرجل البريطاني ليؤيد زعمه عن خطر التعليم الاستعماري على تدين المسلم، ورأى أن ذلك التعليم مسؤول عن انتشار الأفكار السياسية الماركسية في أوساط "الأفندية" السودانيين. وبذا اتفق بينس – بيمبروك وعبد القادر في استغلال لغة التقليد والأصالة الدينية ضد مخالفيهم السياسيين (الوطنيين والماركسيين، على التوالي). وكتب عبد القادر في "السودان الحديث" عام 1953م أن التعليم البريطاني الحديث قد نشر بين الطلاب أفكارا سامة تفوق في ضررها ما سببه غزوهم العسكري. وكتب أيضا ببعض التفاؤل مؤملا أن تنجو طبقة المثقفين السودانيين من "جاهلية" النظام البريطاني التعليمي، لا سيما وأن هنالك "فئة كريمة" قد ظهرت، وهي لا تعترف بذلك النظام التعليمي، بل تتبع الثقافة الإسلامية الصحيحة، ولها القدرة على خلق ثقافة وتعليم عصري حر يوافق تعاليم دينهم. وكتب في ذات السياق رئيس تحرير الصحيفة، صادق عبد الله عبد الماجد في 30 أغسطس من عام 1954م مقالا بعنوان "حتام هذه التماثيل" خلص فيه إلى أنه إن لم تعد الصفوة السودانية المتشبهة بالإنجليز للإسلام، فلن تحدث "سودنة" حقيقية، وسترتد البلاد مجددا إلى "جاهلية انجليزية". وهذه هي الفكرة الإسلامية التي عرف بها الأخ المسلم المصري سيد قطب (والذي كان قد نشر بعض المقالات في "السودان الحديث"). ويبدو من مقال عبد القادر وعبد الماجد أن للإسلاميين نظرة نخبوية / صفوية تجاه العالم لا تختلف كثيرا عن جماعات المثقفين السودانيين الآخرين، أو المستعمرين البريطانيين أنفسهم. ويلاحظ أن الإسلاميين كانوا يوجهون نقدهم الصريح والأشد للأفندية (في السودان وبقية دول المنطقة) بأكثر مما يفعلون مع المعلمين البريطانيين، أي أن نقمتهم ربما لم تكن حصرا على الحضارة الغربية. وجاء في قول ليوسف حسن سعيد (أحد مؤسسي الحركة الإسلامية) في موقع اسفيري للإخوان المسلمين عن الصائم محمد إبراهيم أستاذهم الذي جندهم أنه كان يحب "الأصالة" ويكره "الأفندية". وذكر مالك بدري أن إجباره على دراسة أعمال الفلاسفة المسلمين في العصور الوسطى (مثل الكندي وابن سينا) ضمن مقررات الجامعة الأميركية ببيروت كانت إحدى الأسباب التي حَضّته على الانضمام للإخوان المسلمين. وكان بدري قد قضى في تلك الجامعة عاما واحدا مبتعثا من كلية غردون التذكارية في عام 1953م. وتعرض أحد الأفندية المصريين الذي عمل محاضرا للغة العربية بكلية غردون (واسمه عبد العزيز اسحق) لنقد وإساءة من الطلاب الاسلاميين بسبب ما كان يدرسه من نظرة جديدة للدراسات الإسلامية، وهي نظرة روج لها طه حسين في تلك السنوات، وكانت تُتهم بأنها تمثل نظرة العلمانيين (الساخرة) نحو الإسلام والصحابة. وفي إحدى المحاضرات ثاروا عليه عندما بدأ في شرح نص أدبي يفيض في محاسن الخمر، ونسب للرسول فعلا لم يعجبهم فثارت ثورتهم، وقذفه عبد الله محمد أحمد وزميل له بكتبهم، ففر عدوا إلى مكتبه وأغلق بابه عليه. وعلى الفور ذهب عبد الله محمد أحمد إلى بابكر كرار وأخبره بما جرى من ذلك المحاضر، فسارع كرار بالاتصال هاتفيا بقادة الإسلاميين من إخوان مسلمين (مثل طالب الله) وأنصار السنة (مثل محمد الهاشم الهدية) وعوض عمر (إمام جامع أم درمان) ومحمود محمد طه (زعيم الإخوان الجمهوريين) وعبد الله نقد الله (من كبار الأنصار). وقاد كل هؤلاء مظاهرة اشترك فيها عدد كبير من السودانيين الغاضبين، وهم يطالبون بطرد المحاضر المصري وإلا سيقومون بحرق الكلية. ولم تتعرض السلطات الأمنية لتلك المظاهرة. وعلى الفور قام لويس فيلشر عميد الكلية بعقد اجتماع طارئ لإدارة الكلية، تقرر بعده فصل ذلك المحاضر وتسفيره في أول طائرة مغادرة للقاهرة. وكانت تلك هي رواية عبد الله محمد أحمد. أما جريدة الكلية الرسمية فقد ذكرت أن المحاضر قد استقال في عام 1954م. وتدل تلك الواقعة على قدرة طلاب "حركة التحرر الإسلامي" على الاتصال والتنسيق مع الرموز الدينية والسياسية بالبلاد. وتدل أيضا على قدرتهم على تشكيل موقف الإدارة الاستعمارية، إذ قامت تلك الإدارة على الفور بطرد المحاضر المصري واستبدلته بأستاذ سوداني هو عبد الله الطيب، الذي غدا في مقبل السنوات أشهير أديب بالبلاد. وبدا من سرعة رد فعل المستعمرين البريطانيين على تلك الحادثة أنهم كانوا يخشون من مغبة التسامح مع المرتدين الملحدين، مثلما كانوا يخشون (في بداية عهدهم) من ثورة محتملة قد يقوم بها السودانيون إن تم السماح للمبشرين النصارى بالعمل في أوساط مسلمي الشمال. وليس واضحا تماما إن كان قرار طرد المحاضر المصري قد جاء بسبب العداء للأفندية، أم بسبب الخشية من العنف الذي قد يقع في الكلية إن ترك المصري في وظيفته. ولكن، مهما يكن من سبب، فمن الواضح أن الكلية لم تكن ترغب في مواجهة الإسلاميين. غير أنه من الثابت أيضا أن البريطانيين كانوا لا يعدون الطلاب الإسلاميين قوة سياسية ضخمة مثل منافسيهم الشيوعيين، الذين بدأ نفوذهم يتمدد في الكلية وفي البلاد بصورة عامة في تلك السنوات. ورغم ذلك فقد سيطر الإسلاميون (بقيادة الرشيد طاهر) على اتحاد طلاب الكلية في عام 1953م، وحصلوا على 9 من 10 من مقاعد اللجنة التنفيذية للاتحاد. ثم عادوا للفوز على أغلبية المقاعد في عام 1955م (بالتحالف مع المستقلين)، وترأس الاتحاد في ذلك العام دفع الله الحاج يوسف. وفي ديسمبر من ذلك العام حدثت هجمة عنيفة على الإخوان المسلمين في مصر أدت لإعدام عدد منهم. ووافق إسماعيل الازهري وعدد من أعضاء البرلمان لاتحاد طلاب كلية غردون بالصلاة من أعدموا في تلك الحملة الحكومية المصرية. وزعم بعض الكتاب أن تلك الأحداث في مصر قد دفعت بالأزهري للمناداة باستقلال السودان عن مصر. الجيل الأول من الإسلاميين بعد عام 1956م لقد كانت مساهمة الجيل الأول من الإسلاميين في السياسة السودانية مساهمة كبيرة ومحورية، خاصة الذين درسوا في المؤسسات التعليمية الاستعمارية في أخريات سنوات الاستعمار، وبصورة أخص أفراد "حركة التحرر الإسلامي". وكان هذا على الرغم من تضاؤل تأثير "الاشتراكية الإسلامية" التي كان ينادي بها قادة تلك الحركة بعد عام 1954م، عندما أيد قادة التوجه "الاشتراكي الإسلامي" البارزين، الذين كانوا خارج السودان، النظام الناصري في مصر في حملته ضد الإخوان المسلمين. فبعد أن هجر بابكر كرار تنظيم الإخوان في عام 1954م التحق في السبعينات بمعمر القذافي في ليبيا، التي كانت تنادي بالاشتراكية الإسلامية، وتوفي هنالك. ولكن كان هنالك عدد كبير من قادة "حركة التحرر الإسلامي" الذين برزوا في النظام الذي جاء عام 1989م. أما عبد الله زكريا، فقد هجر تنظيم "الإخوان المسلمين" وذهب إلى ليبيا لينضم لبابكر كرار و"الثورة الليبية"، ولكنه عاد بعد انقلاب الإنقاذ ليقدم لقادته المثال الليبي في "اللجان الشعبية" (بحسب ما صرح به لمزمل عبد القادر في "الأهرام اليوم" في 2/5/2012م). وكان من جيل الإسلاميين الأوائل في السودان علي الحاج وعبد الرحيم حمدي، وكانا قد التحقا بالمدارس الثانوية في بداية العهد الذي اندمجت فيه "حركة التحرر الإسلامي" مع "الإخوان المسلمين". وكان حسن الترابي (مهندس انقلاب 1989م) عضوا في "حركة التحرر الإسلامي" في كلية غردون التذكارية، على الرغم من أنه حاول الهرب من تراث تعليمه البريطاني الاستعماري بدراسته للدكتوراه في جامعة السوربون بباريس، مخالفا أمنيات كبار أساتذة القانون البريطانيين بكليته (معلوم أن الترابي حصل على درجة الماجستير في القانون من جامعة لندن عام 1957م. المترجم). وظلت للترابي علاقة جيدة بفرنسا بعد 1989م، وساهم في نقل نظام "الكنتوناتcanton system " الفرنسي إلى نظام الحكم المحلي بالسودان. غير أنه بعث لاحقا بمعظم من كانوا حوله من "حيران" protégés الإسلاميين الذين درسوا باللغة الإنجليزية في سنوات ما بعد الاستقلال للدراسات العليا في أمريكا وبريطانيا. وظل قادة الحركة الإسلامية بعد خروج دعاة "الاشتراكية الإسلامية" يدامون على استخدام طرق "لينينية – سرّية" منها استخدام "تكتيكات الجبهة"، واتباع سياسات الدولة الثورية. ورغم أن هذا الجيل من الإسلاميين كان ينتقد في السابق الوطنيين السودانيين "الأشد علمانية" لحكمهم للأمة بالقوانين والشرائع والنظرة الغربية للعالم، تلك التي تلقوها أثناء تعليمهم الاستعماري، فقد كانوا هم أنفسهم قد تعلموا في ذات المؤسسات التعليمية التي أنشأها الاستعمار لخلق موظفين أكفاء في الدولة السودانية في عهدي الاستعمار والاستقلال. ولهذا، ورغم حديث الإسلاميين المضاد للأفندية، فقد نجحوا في العمل في ذات الدولة. وبحسب عبد الله جلاب فقد كانوا "ورثة المجتمع الاستعماري في الدولة". وبرز الدور "المزدوج" للإسلاميين بصورة خاصة في "التعليم الاستعماري" – فرغم تعريبهم وأسلمتهم للتعليم في السودان فقد كانوا يبعثون بأولادهم لتلقي دورات خاصة في اللغة الإنجليزية في داخل البلاد وخارجها (ضرب المؤلف هنا مثلا بما جاء في كتاب منصور خالد الموسوم "الحرب والسلام في السودان: قصة بلدين" عن إرسال الترابي لأحد أولاده للدراسة في جامعة ويلز ببريطانيا في عهد "تعريب المناهج بالبلاد. المترجم). ولعل المقصود من تلك السياسة هو خلق طبقة نخبوية / صفوية لتحصد ثمار التعليم الغربي وتأتي لتدير شؤون البلاد، بينما تتم "حماية" بقية السكان من عملية الإجهاز على الثقافة deculturation التي قد تحدث عندهم نتيجة تعرضهم للتأثيرات الغربية. وبدأ الإسلاميون بعد عام 1989م في تنفيذ سياسات كان قد تبناها بعض الإداريين البريطانيين المعادين للدولة الحديثة مثل إعادة عقوبة الجلد، ودفع الدية بديلا لعقوبة السجن، وإعادة "الإدارة الأهلية" التي كان البريطانيون المستعمرون يرونها وسيلة فعالة لتقليل نفوذ خريجي كلية غردون المنبتين ثقافيا. ومنع الإسلاميون بعض ممارسات السودانيين في المناطق الطرفية (مثل تناول المشروبات الكحولية)، وكانوا ينفذون بذلك بعضا من استراتيجيات المستعمرين التي هدفت لتحويل الأرقاء السابقين في أطراف المدن السودانية الذين يعيشون من ريع اقتصاد غير رسمي (في صناعة الخمور البلدية) إلى "مسلمين جيدين". غير أنه يجب أن نذكر أنه كان هنالك بعض قادة الحركة الإسلامية الذين استفادوا من التعليم الاستعماري بين عامي 1946 و1956م ولم يلتحقوا بـ "مدرسة الترابي السياسية". وكان من هؤلاء من عارض ونافس الترابي في النصف الثاني من القرن العشرين مثل الرشيد الطاهر وجعفر شيخ إدريس وصادق عبد الله عبد الماجد. بينما برز آخرون من هؤلاء القادة في العمل المهني والنقابي مثل الجزولي دفع الله وميرغني النصري، وقد كان لهما دور بارز في انتفاضة عام 1985م ضد نظام نميري دون أن يكون لهما أي ارتباط بالترابي. وانضم بعض قادة الحركة الإسلامية القدامى لبعض الأحزاب الطائفية، مثل عبد الله محمد أحمد الذي انضم لحزب الأمة، وحسين أبو صالح الذي أنضم للحزب الاتحادي الديمقراطي (وقد عادا للحركة الإسلامية بعد 1989م). ولعل في هذا ما يشير إلى أن الحواجز بين الأحزاب "الأيديلوجية" و"الطائفية / التقليدية"، أو بين الوطنيين الأوائل والإسلاميين، كانت أكثر نفاذية مما يظن. ولا يجب أن نرى ظهور قادة "حركة التحرر الإسلامي" الأوائل في النقابات المهنية والأحزاب "العلمانية" كخطة مدبرة من قبل "حركة التحرر الإسلامي"، على الرغم من جهود المنظمات الإسلامية لاختراق الاتحادات. وكما أسلفنا القول، كانت "حركة التحرر الإسلامي" حركة تفتقر إلى قيادة أيديولوجية. ولهذا ليس بالمستغرب أن يتفرق من التحق بها في أيام الطلب على الأحزاب المختلفة في عهود ما بعد الاستعمار. الخلاصة خلص الكاتب إلى أن رواد الحركة الإسلامية في المؤسسات التعليمية التي أقامها الاستعمار (مثل كلية غردون ومدرسة حنتوب الثانوية) صاغوا لأنفسهم مزيجا من "الحداثة" و"التقليد". ونتيجة لما تلقوه من تعليم استعماري، قدم الاسلاميون للناس خطابا شمل "التقدم" و"الاصالة الثقافية" يشابه بعض ملامح الجوهرية الاستعماريةcolonial essentialism* ، حتى وإن كانوا يعلنون قطيعتهم الحاسمة مع التاريخ الاستعماري. ولم يكن الإسلاميون (في السنوات المذكورة) يختلفون عن غيرهم من الوطنيين التقليديين في استخدامهم للمساحة المتاحة في المنشآت التعليمية التي أقامها الاستعمار في إنشاء مجموعة ايديلوجية تتجاوز التقسيمات والفوارق العرقية والجهوية الضيقة، التي كان المستعمر يحرص في سنواته الباكرة على تثبيتها. وفي ذات الوقت كان الإسلاميون يشتركون مع المستعمرين في ازدرائهم للماركسيين والأفندية المنبتين ثقافيا (أي الذين استدبروا / تجاوزوا ثقافتهم الأصلية. غير أنهم (خاصة الإخوان المسلمين) كانوا أيضا يأملون في تحاشي "جاهلية الإنجليز"، رغم أنهم كانوا يشتركون مع مسؤولي الحكم الاستعماري في رؤيتهم وسعيهم الحثيث لمنع ما كانوا يرونه من التأثير المفرط لعمليات التمدين (urbanization) والتعليم الحديث في السودان.