The Story of Suakin & Domestic Life in Suakin Jean – Pierre Greenlaw جان – بيير قرينلو ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي تقديم: هذه ترجمة لغالب ما جاء في الفصل الثاني والثالث من كتاب نشره جان – بيير قرينلو (1910م - ؟) بعنوان "مباني سواكن المرجانية The Coral Buildings of Sukain"، الصادر عام 1976م عن دار نشر أوريل Oriel Press. ويُعد هذا الكتاب من أهم الكتب التي صدرت عن تراث سواكن المعماري، ونشر كثير من المختصين عروضا عنه في المجلات المحكمة في مجالات التاريخ والمعمار والتراث. اعتمد الكاتب فيما سجله في هذا الفصل عن تاريخ سواكن (حرفيا في كثير من الأحايين) على مقال جي. أف. أي بلوس المعنون "قصة سواكن"، الذي نشر عام 1937م بالعدد العشرين من مجلة "السودان في مذكرات ومدوناتSNR . والمؤلف هو أول رئيس للقسم العالي للفنون في المعهد الفني (يسمى الآن كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بجامعة السودان للعلوم والتكنلوجيا). المترجم ***** ***** ***** ***** بدأ تاريخ سواكن المدون بعد ظهور الإسلام، وفتح العرب لمصر والشام (سوريا في الأصل) في عام 641م. وكان أحد أبناء الخليفة الأموي مروان الثاني (بن محمد) قد فر جنوبا عبر النيل عقب اغتيال والده في مصر عام 750م، وبلغ مدينة أكسوم في الحبشة عبر سواكن وعقيق، ومن هنالك عبر مناطق تقع على شاطئ البحر الأحمر كانت تشهد مناوشات متكررة بين قبائل البجا والمصريين. ولعل اسم "سواكن" كان قد ظهر لأول مرة في الفترة بين عامي 750 و969م، عندما ذكره الرسل الذين بعث بهم السلطان التركي إلى تلك المنطقة ليدعوا سكانها المسيحيين للدخول في الإسلام. وغزا صلاح الدين (الأيوبي) أرض النوبة، واستولى على القدس في عام 1172م. وكان هذا ما لفت نظر أوروبا إلى منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. وذكر ياقوت (الحموي) في عام 1213م أن سواكن كانت مأهولة بالزنوج المسيحيين. وفي عام 1215م أرسل سلطان مصر حملة عسكرية إلى سواكن لمصادرة أملاك التجار المصريين الذين توفوا بها. وكانت تلك هي المرة الأولى التي خضعت فيها المدينة لحكم مصر المباشر. وفي تلك السنوات ظهر وصف لأربعة من أنصار مكة لسواكن بأنها "قرية صغيرة يسكنها أفراد من قبيلة الهمج". وكان ذلك في عام 1255م. وكان لسواكن بين عامي 1048م و1300م منافس قوي هو ميناء عيذاب، الواقع على بعد بعض مئات من الأميال شمالا، وهو الأقرب لميناء جدة. غير أن تلك المنافسة انقضت بسقوط عيذاب (ثم جدة) بسبب ما زُعم عن سرقة الأهالي فيهما لبضائع التجار المصريين التي كانوا ينوون بيعها في مكة. ومنذ ذلك التاريخ غدت سواكن الميناء الرئيس لمصر على ساحل البحر الأحمر الأفريقي، إلى أن تم بناء ميناء بورتسودان في بدايات القرن الحالي (تم افتتاح الميناء رسميا في 1/1/ 1909م على يد وينجت والخديوي عباس حلمي الثاني. المترجم). وفي عام 1451م قدم من مكة إلى السودان أفراد من الأشراف (سليلي العترة النبوية) واستقروا في شرق السودان بالقرب من كسلا. وكانوا يقضون جزءً من العام في سواكن وسنكات، وفيهما بنوا لهم بيوتا ما تزال قائمة إلى الآن ولا تزال مسجلة بأسمائهم (رقم 66 و93 في الجزيرة، وبيت واحد في البر "القيف"). وتمتعت سواكن وجدة بفترة قصيرة من الاستقلال والرفاهية مع سقوط / فتح القسطنطينية في عام 1453م، وبروز امبراطورية الأتراك العثمانية، وما أعقب ذلك من أفول نجم مصر كقوة عظيمة. وصار الإبحار عبر البحر الأحمر من الميناءين طريقا أكثر أمانا لحجاج مكة من الطريق الشمالي عبر مصر. ثم ظهر عاملان جديدان في القرن السادس عشر: أولهما إبحار البرتغاليين عبر ميناء رأس الرجاء الصالح (الكيب)، ومنها شمالا عبر الساحل الإفريقي، واستقروا مع الأحباش، وثانيها هو تكوين عمارة دنقس لسلطنة الفونج (وعاصمتها سنار) في شرق البلاد. وقام الفونج بضم سواكن، غير أن قبضتهم عليها لم تكن قط محكمة. وفي عام 1516م هزم الأتراك مصر، وبعثوا فيما أعقب من سنوات حملات عسكرية جنوبا لاحتلال مصوع وجدة وسواكن. وفر ممثلو سلطان الفونج من المنطقة عقب تلك الحملة على سواكن. وبعد ذلك بقيت سواكن تحت السلطة التركية دون انقطاع. وفي فترة سيطرة الأتراك على سواكن أقيمت قواعد وأساسات كل المباني (إن لم يكن هياكلها الفوقية super - structure) التي تُرى الآن. وقام الأتراك بتحسين وتوسيع الميناء، والمنازل المبنية بالصخور المرجانية، وتركوا فيها أحد الباشوات ليحكمها، وزودوه بقوة صغيرة. وكان أشهر البيوت في سواكن هو ما يسمى "بيت الباشا"، وقد يكون ذلك المبنى هو مقر سكن حاكم الجزيرة. غير أنه لم يكن بتلك الفخامة التي تناسب سكن باشا في العهد العثماني، إلا إذا وضعنا في الاعتبار أنها كانت "محطة" صغيرة بعيدة للأتراك في منطقة جديدة احتلوها قبل فترة قصيرة نسبيا. ورست في عام 1540م سفن اسطول البرتغاليين بقيادة استفانو دي غاما على شاطئ سواكن وهي في طريقها لمهاجمة الأتراك في السويس. ودخلوا في معركة صغيرة مع حاكم سواكن واستباحوا المدينة. وكلفهم ذلك كثيرا فيما بعد، فقد طارت أخبار ما فعلوه بسواكن وأهلها وبلغت مسامع الأتراك في السويس، وعلموا أنهم سيأتون إليهم، فاستعدوا لهم وصدوهم خائبين عندما بلغوا السويس وحاولوا حرق العلم التركي. وعاد الأسطول البرتغالي للحبشة وعزز مواقعه على شاطئ المحيط الهندي. وفي عام 1629م استخدم الأتراك سواكن كقاعدة لهم عند غزوهم لليمن. وفي تلك الفترة بنيت في سواكن العديد من المنازل الأكبر مساحة والأفضل معمارا. ومن أمثلة تلك المباني دار خورشيد أفندي، وربما دار الشناوي بيه. وفي غضون القرنين السابع عشر والثامن عشر ظل الأتراك يمارسون سلطة اسمية على سواكن. غير أن ممارستهم الابتزازية القاسية جعلت من وضعهم فيها متزعزعا ولا يخلو من خطورة. هذا بالإضافة للخطر المترتب على وجود القراصنة الأتراك في المنطقة، واكتشاف طريق ملاحة جديد إلى الشرق الأقصى (عبر الكاب). وقلل كل هذا من أهمية البحر الأحمر، خاصة ميناء سواكن، وسبب كسادا شديدا فيها. ووصف لورد فالينتيا (Valentia) المدينة بأنها "مدينة مدمرة في غالب أجزائها". غير أننا يجب أن لا نأخذ بكلام اللورد حرفيا، فقد واصل القول وذكر أن "بالمدينة منارتين تعطيانها منظرا بديعا من على البعد، ... وتبدو مباني المدينة أجمل من بعيد بأكثر مما هي عليه في الواقع. وتغطى هذه المباني كل أجزاء الجزيرة الصغيرة كما كان الحال عليه على أيام دا كاسترو ...". وما زالت المنارتان المذكورتان في مكانهما إلى الآن، وليس هنالك من سبب لجعلهما يكونان في مكانهما في عهد دا كاسترو (هناك لوحة بقلم الرصاص لتوماس ليلون لهاتين المنارتين يعود تاريخها إلى 1828 – 1834م، يمكن رؤيتها في الموقع: goo.gl/gD99nk المترجم). وزار الرحالة السويسري بركهارت سواكن وقدر أن هنالك 600 بيتا في الجزيرة، كان ثلثاها مهدما. غير أن "القيف" كان يزداد في المساحة، وهو الآن أكبر من الجزيرة – المدينة. وأرسل سلطان تركيا فرمانا إلى إسماعيل خديوي مصر في عام 1865م أعطاه بموجبه أولاده حق وراثة عرش مصر، ومعه ميناءي مصوع وسواكن في مقابل إتاوة سنوية. وكانت سواكن شديدة الأهمية لمصر، لا سِيّما وهي ميناء السودان الوحيد. وبالإضافة لذلك كانت لسواكن ميزة إضافية وهي وقوعها في الوسط بين مصر والهند والحبشة والجزيرة العربية واليمن مما يجعل لها أهمية تجارية كبيرة لهذه البلدان. وكانت سواكن أيضا هي الميناء الرئيس لحجاج السودان وغرب أفريقيا. لذا فقد قامت الشركات المصرية بتنمية مصادر الميناء بقدر استطاعتها. وفي غضون الخمسين عاما التالية تطور الميناء وازدادت أهميته. وتم تعيين ممتاز باشا أول حاكم لميناء سواكن في بدايات عام 1866م. وقام ذلك الباشا بتوسيع عدد من المنازل في الجزيرة، وأصلح بعضها وبنى عددا من البيوت الجديدة. وكان من أهم تلك المباني التي قام بتوسيعها ممتاز باشا هو "قصر" محفوظ. ويرجع تاريخ الطابق الأول من ذلك المبنى إلى تلك الفترة. وتوافد التجار المصريون على سواكن واستقروا فيها وبنوا لأنفسهم بأموال استدانوها بيوتا كبيرة. ومنذ تاريخ بنائها، كان أصحابها قلما يحاولون إصلاح ما تخرب منها بسبب قلة الأموال اللازمة لصيانتها. وأفضى ذلك الى أن تغدو تلك المباني غير آمنة للعيش فيها. وزار البريطاني صمويل بيكر (المستكشف والضابط وحاكم جنوب السودان وشمال أوغندا) سواكن في عام 1869م، ولاحظ أن عدد سكان الجزيرة لا يتجاوز 8,000 نسمة. وهو عدد يقل كثيرا عن تعداد السكان قبل الغزو المصري. وكان الرجل قد قدم لسواكن على ظهر زَوْرَق حربي مصري، وأقام في دار ممتاز باشا. وافتتحت في ذات العام قناة السويس، وصار البحر الأحمر هو "الطريق السريع" إلى الشرق، بعد أن كان لا يزيد عن كونه طريقا جانبيا صغيرا للتجارة البحرية. وكان من المتوقع أن تزداد أهمية سواكن تحت تلك الظروف الجديدة، فتوافد عليها بعد وقت قصير من افتتاح القناة التجار الأوربيون، وأقام فيها الكثير من المصريين. وذكر وايلد (الذي عمل قنصلا لبريطانيا في جدة)، عندما كان بعدن في 1874م أن تجار سواكن ومصوع كانوا مجرد وكلاء استيراد وتصدير للبيوتات التجارية في جدة، وأن تجارتهم لم تتعد في كل الأحوال تجارة الرقيق، الذي يبعث به بطريق غير مباشر إلى القاهرة والقسطنطينية. ولم تكن هنالك من تجارة "شريفة" إلا القليل. غير أن الطلب على الرقيق لم يكن يحده حدود، ولم يكن حتى أكبر مسؤول (في سواكن) يتورع عن أن يحشو جيوبه من أرباح تلك التجارة التي كان الخديوي قد وعد بإلغائها. أما البضائع الأخرى التي كانت تصدر عبر سواكن في تلك السنوات فقد كانت هي ذات بضائع الماضي: الصمغ العربي والعاج والبن (من الحبشة) والذهب (من سنار) والسنامكي، وريش النعام (من كردفان ودارفور)، والجلود (من كسلا) والقطن وزيت السمسم والماشية (من القبائل المحلية). وزادت الواردات بالطبع، وشملت عددا كبيرا من البضائع الأوروبية مثل السكر والشموع والصابون والأرز والأقمشة من مانشستر، وأدوات المطبخ وأدوات المائدة، والبضائع المعدنية من بيرمنجهام. وبعد وصول تلك البضائع إلى سواكن، تنقل بالقوافل إلى بربر وكسلا، اللتين كانتا أكبر مركزين للتوزيع للحبشة والسودان. وكانت تلك القوافل تغادر سواكن للدواخل مرة كل ثلاثة أشهر، وبعد إنشاء "الوكالة" كان تحميل البضائع يتم خارج مبناها، وكان ذلك الحدث المتكرر يجذب أعداداً كبيرة من النَّظَّارَة. وكانت كل قافلة تتكون من 500 – 1000 من الإبل، وكان يوم مسيرة القوافل لبربر أو كسلا واحد من أهم مظاهر احتفالات الجزيرة. وكانت البواخر (من نوع screw steamers) في أبريل عام 1874م تعمل على نقل البضائع والركاب بين موانئ البحر الأحمر. وكان جيسي (1831 – 1881م، المقصود هو الضابط والرحالة الإيطالي رومولو جيسي باشا، والذي عاش بين 1831 و1881م، والذي عينه غردون حاكما لجنوب السودان بعد أن كان قد تعرف عليه أثناء حرب القرم. المترجم) قد وصل إلى سواكن على ظهر الباخرة "الزقازيق". وكان المسافرون يترددون في السفر بالباخرة لسواكن، لعدم ثقتهم في رجوعهم من حيث أتوا عن طريق البحر، وذلك لقلة البواخر في الميناء. غير أنه مع زيادة الطلب على البضائع الأجنبية، وانتعاش فرص تصدير البضائع المحلية، تحسنت الأحوال وزادت حركة البواخر من وإلى سواكن بين عامي 1874 و1883م، وازداد بالتالي ثراء المدينة. وازدادت تدريجيا حركة التجارة الأوروبية عبر سواكن عوضا عن سيرها عبر مصر. وكان حاكم الجزيرة والمسؤولون البريطانيون والمصريون وكبار التجار يقطنون في الجزيرة. أما الأهالي فكانوا يقطنون في عدة أحياء في "القيف"، والذي كان أيضا مقرا للسوق (الذي كان يضم شارعا مخصصا لمحلات الحلاقة لرجال البجا). وفي عام 1877م تم تعيين الجنرال غردون حاكما عاما للسودان، فسافر للخرطوم من مصر عن طريق سواكن. وأمر غردون ببناء جسر من الحجارة والرمل يربط الجزيرة بالبر، وقد تم الانتهاء من عمل ذلك في النصف الثاني من العام التالي، بعِمَالَةُ المساجين في الجزيرة. وفي عام 1881م أصدر الخديوي في مصر مرسوما قضى بجعل شرق السودان مديرية منفصلة يرأسها حاكم عام مستقل عن بقية السودان، وعين علاء الدين باشا حاكما عاما لها بدءً من عام 1882م. وفي عام 1883م اقترحت لجنة فنية مصرية أن يمر الخط الحديدي المقترح من سواكن إلى كسلا ثم إلى قوز رجب ومنها للخرطوم. وميزة ذلك الخط الحديدي المقترح أنه يمر بمناطق إنتاج القطن. غير أن المعترضين أشاروا إلى صعوبات فنية جمة تعترض إقامة ذلك الخط. ثم أقترح أن يمتد الخط الحديدي من القاهرة إلى الخرطوم محاذيا للنيل. ولكن سرعان ما تم التخلي عن ذلك المقترح بعد أن روجعت التجارب السابقة عند إنشاء خط حديد من القاهرة لأسوان. وأخيرا أقترح أن يمتد الخط الحديدي من سواكن إلى بربر ومنها إلى الخرطوم. ولم تنفذ توصيات تلك اللجنة بإقامة ذلك الخط الحديدي، ليس بسبب أي خطأ من اللجنة، بل لعدم الاستقرار الذي بدأ ينتشر في أصقاع البلاد، وظهور عثمان دقنة في مشهد الأحداث بشرق السودان. وبدأ تأثير ذلك الرجل، ومنذ عام 1883م، يُحس في سواكن. وفي حوالي عام 1880م بدأ التمرد المهدوي بالقرب من الأبيض بغرب السودان (هكذا! المترجم)، وتوسع شرقا نحو الخرطوم وتمدد حتى بلغ تلال شرق السودان. وأقام المهديون معسكرهم (ومدينتهم) في أم درمان على النيل الأبيض مقابلة للخرطوم عاصمة العهد السابق. وغدت عاصمة دولة المهدية الدائمة وازداد عدد سكانها. وكان حصار الخرطوم (وسقوطها) ومقتل الجنرال غردون في 1885م أحد أشهر أحداث تاريخ القرن التاسع عشر، ولا حاجة لنا الآن بترديده هنا. غير أن الصراع في الشرق بدأ في التأثير على سواكن مباشرة. ولقي عثمان دقنة الهزيمة في المعارك الباكرة التي خاضها، مما أدى لانفضاض عدد من المقاتلين من حوله وفقدانه لشعبيته وسمعته باعتباره قائدا حربيا مؤزَّرا. غير أنه أفلح في نوفمبر من عام 1883م في استعادة هيبته وسمعته المفقودة قائدا منصورا لجيش أنصار المهدي بعد أن تعرضت حملة عسكرية لسليمان باشا نيازي حاكم عام شرق السودان، وهي في طريقها لسنكات، لكمين نصبه لها من تبقى لعثمان دقنة من جند، وتم القضاء على كل رجالها. وبقي سليمان باشا نيازي في حماية من كان بسنكات من جنود الحكومة. وأعاد ذلك الانتصار لعثمان دقنة هيبته وسمعته قائدا منصورا لجيش أنصار المهدي، فانضم لصفوفه قاضي سواكن مع آخرين من علية القوم فيها، وتوجه من بعد ذلك بجيشه نحو طوكر. ونجح عثمان دقنه في العالم التالي في القضاء على نصف جنود الجنرال بيكر (وكان عددهم يبلغ 4000، وجاءوا من مصر) في معركة التيب، وفي دخول مدينة سواكن. غير أن وصول المزيد من التعزيزات للقوات الحكومية (وكان من بينها جنود بريطانيون) أفلحت في صدهم واخراجهم منها بعد مقاومة عنيفة من محاربي البجا في معركة تاماي. وبعد ذلك ساد الهدوء (الظاهري) ميناء سواكن. غير أن عثمان دقنة حاصر المدينة مرة أخرى في نهاية ذلك العام، وكان يطلق عليها الرصاص في كل ليلة، محدثا خسائر في أرواح وممتلكات المواطنين. وفي عام 1885م (العام الذي سقطت فيه الخرطوم وقتل غردون) كانت سواكن (ومنذ سنوات سبقت) قاعدة عسكرية لحملة عسكرية حكومية قوامها 15,000 من الجنود كان هدفها الدفاع عن المدينة ضد هجمات جيش عثمان دقنة وسحقه، وأيضا بناء خط حديدي بين بربر وسواكن. غير أن الحملة كانت سيئة التنظيم، وأفشلت هجمات "الدراويش" المتكررة عليها عملية مد الخط الحديدي، فهجرت الفكرة في أبريل من ذات العام وسحبت الحملة. وعلى الرغم من وفاة المهدي في يوليو عام 1885م فقد واصل عثمان دقنة في حصار سواكن، واكتسب بفعله هذا ثقة بالنفس وهيبة وسمعة حسنة في أوساط الأهالي. وتكبدت الحكومة البريطانية مبلغا كبيرا (بلغ 3,345,483 من الجنيهات الإسترلينية) في حملة انتهت بالفشل الذريع. وبقيت بالمدينة حامية صغيرة لتحميها، وساد بين سكانها القلق والتوتر لقرابة عامين كاملين. لم يكن تجار سواكن يجدون بدا في تلك الأيام في التعامل التجاري مع العدو. وجعل الجنرال كتشنر الطريق بين سواكن وبربر آمنا للقوافل المتجهة لداخل البلاد، وازدهرت التجارة إلى ما كانت عليه في أيام السلم. وأفلح كتشنر أيضا في غضون فترته في الشرق في إعادة هيكلة دفاعات المدينة باستبداله للسور الطيني حول المدينة بسور من الطوب ارتفاعه 3.6 من الأمتار وله بوابة (لا تزال موجودة إلى اليوم)، وبنى أيضا ست قلاع. وأتخذ كتشنر من بيت محفوظ مركز قيادة له، بينما سكن ضباط جيشه في بيت جديد يقع مباشرة خلف مكتب البريد. وكانت سنة 1889م سنة كارثية للدراويش الذين كانوا قد فقدوا من الرجال بسبب المجاعة والأمراض بأكثر مما فقدوه في الحرب نفسها. ووجد عثمان دقنة نفسه في موقف عسير وقد أنفض الناس عنه. وقامت الحاميتان البريطانيتان بحملات ناجحة في عامي 1890 و1891م استعادت فيهما طوكر، مما اضطره للانسحاب إلى التلال لفترة من الزمن. وكان هذا مما جعل الأمن في سواكن يستتب، ولكن ظلت المدينة تحت قانون الطوارئ (العسكري)، وبقيت محرومة من تجارتها مع العالم. وفي عام 1897 بدأ الجيش المصري في التحرك جنوبا عبر النيل. وفي سبتمبر من ذلك العام أحتل مدينة بربر. وكان هذا إيذانا لقبائل البجا لتحدد موقفها. واختارت تلك القبائل الوقوف إلى جانب الحكومة، على الأقل اسميا. وصار حاكم سواكن هو حاكم ساحل البحر الأحمر حقيقية اسميا وفعليا. وتم فتح طريق سواكن – بربر مرة أخرى للتجارة. وسقطت أم درمان في العام التالي، وانقضى عهد المهدية (الدراويش في الأصل) في السودان. وتولي الحكام الجدد (البريطانيون والمصريون) منذ عامهم الأول دراسة إمكانية تطوير ميناء سواكن باعتباره الميناء الوحيد بالبلاد. وبدا واضحا أن المدينة والميناء تواجهان مشكلات عويصة. فقد كان مدخل الميناء ضيقا ومتعرجا ولا يصلح لولوج السفن الكبيرة. وكانت امدادات المياه ضعيفة وغير كافية، وحالة المباني سيئة جدا، وفي حاجة ماسة للإصلاح. وكان يلزم بناء حي جديد لإقامة الأوربيين الذين سيقيمون بالمدينة إن عاجلا أو آجلا. ووُضعت خطط في عام 1903م لإعادة بناء المدينة، وحدد مكان لبناء حي أوروبي بها، ورصيف جديد على طول الجانب الجنوبي من الميناء بالقرب من المكان المقترح للمدينة الجديدة. وشملت الخطة أيضا بناء محطة سكة حديد. وكان كل ذلك يستلزم إعادة تخطيط وبناء المدينة. وفي عام 1904م قام العقيد رالستون كنيدي (من مصلحة الأشغال) بإعداد تقرير، اشتمل نصفه على معلومات تؤكد كيف أن "مرسى برغوث" سيكون مكانا أكثر ملائمة لبناء ميناء جديد، على بعد نحو أربعين ميلا شمال سواكن. وتمت الموافقة أخيرا على إقامة الميناء الجديد في ذلك المرسى (يمكن النظر في مقال مترجم بعنوان "قصة بناء مدينة بورتسودان" بقلم كولن رالستون باتريسون. المترجم). غير أن بناء ميناء جديد كان سيستغرق وقتا، لذا استمر ميناء سواكن في العمل والازدهار لفترة من الوقت. واكتمل في عام 1905م بناء خط سكة حديد من أتبرا إلى مكان الميناء الجديد (الذي أطلق عليه بورتسودان) في يناير من العام التالي. وفي ذلك الأثناء تواصلت حركة التجارة في ميناء سواكن، واُفتتحت فيها عدد من المكاتب الجديدة للبنك الوطني المصري، وشركة التلغراف الشرقية وشركات الشحن والتفريغ، وشركات تجارية مختلفة أخرى. وسكن موظفو الحكومة والأوربيون الآخرون في البيوت القديمة بالجزيرة. وأقيم فيها أيضا نادي ومكان للألعاب المختلفة والنشاطات الاجتماعية الأخرى. وانتقلت إدارة المديرية والميناء إلى بورتسودان في عام 1910م، أي بعد عام من افتتاح الميناء على يد خديوي مصر. غير أن حركة التجارة لم تنتقل من سواكن لبورتسودان بسهولة، وظلت سواكن هي الميناء الرئيس لعدد من السنوات. وتأخرت عمليات تطوير ميناء بورتسودان بسبب الحرب العالمية، وكان هذا مما أطال في عمر ميناء سواكن. ولم تنتقل كل الشركات والأعمال الهامة من سواكن إلى بورتسودان إلا في عام 1922م. ومنذ ذلك التاريخ بدأت سواكن في التدهور السريع وبدأت مبانيها في الانهيار بسبب عدم الاستخدام. واختفت أرصفة الميناء تماما في عام 1936م، وتهدمت حواجزه وتساقطت في وسط الشعب المرجانية على شاطئي الميناء، ولم يعد الميناء صالحا لاستقبال أي سفينة كبيرة. أما اليوم فالمدينة في الغالب عبارة عن كمية كبيرة من الأنقاض، حيث تساقطت الجدران الداخلية لجميع المنازل فيها. **** **** **** تطرق المؤلف في الفصل الثالث للحياة المنزلية في سواكن، وهذه شذرات مما سجله الكاتب عن تلك الحياة: النوم كانت هنالك شُرفة (terrace) للنوم في الليل في كل طابق علوي وسطح في منزل. وكان نصف الشُرَفة لرب المنزل وزوجه، والنصف الآخر لبقية أفراد العائلة. وكانت تربط بينهما صالة / "ضروة" أو في بعض الحالات "مجلس" ومخزن ومرحاض. وكان يطلق على تلك الشُرفة اسم "خارجة". وكان الأسِرَّة (العناقريب) المصنوعة من الحبال المستخدمة في سواكن هي ذاتها المستخدمة في باقي السودان وفي مصر منذ العصر الفرعوني. وكانت توجد في الطابق العلوي من غالب المباني مطابخ واسعة، وعدد من المخازن. أما خدم المنازل، فكانوا ينامون عادة بالليل في الطوابق السفلية أوفي خارج البيت.
المداخل عادة ما نجد مدخلين في كل بيت، واحد للنساء، وآخر للرجال والزوار. كثيرا ما تجد أن الطوابق العليا للمنازل كانت تتصل ببعضها البعض. وفي بعض الأحيان نجد أن هنالك بين بيت وآخر جسر (يسمى منور) عبر الشارع. ولعل هذا الجسر العلوي كان مخصصا لاستخدام الحريم (الأقارب في غالب الأحيان) في البيوت المتجاورة دون الحاجة للخروج من البيت. ولم تكن النساء يظهرن في المناسبات الاجتماعية. غير أن النساء في البيوت الكبيرة كان بإمكانهن مراقبة ما يجري أسفلهن من نوافذ خاصة في الطوابق العليا. وخير مثال لتلك الدور هو بيت الشناوي بيه، وفي كثير من المنازل في جدة والقاهرة.
الطعام تتميز العادات الإسلامية الخاصة بالطعام وطرق تقديمه بالبساطة. وتتميز أيضا بالاستعداد لاستقبال أي أعداد من الضيوف يظهرون فجأة دون توقع أو دعوة مسبقة في أوقات تناول الوجبات. ولا حاجة لطاولات أو كراسي لتناول الطعام، فالعادة هي جلوس القُرْفُصاء جماعيا على السَجَّاد عند تناول الطعام الموضوع على صواني، واستخدام الأصابع عوضا عن أدوات المائدة (عدا المعالق الكبيرة لشرب الشورية). ولا تستخدم من أدوات المائدة إلا السُلْطانِيَّات والأطباق التي يؤتى بها على صينية، وتوضع على الأرض. وإن كان عدد الضيوف كبيرا، فقد تُحضر صينية أخرى. وبعد فراغ الرجال من تناول الطعام يُترك باقيه لتأكله النساء والأطفال والخدم. وبذا يستهلك كل الطعام ولا تكون هنالك أي بقايا لترمى في سلة النفايات. وعند الفراغ من الطعام تقدم القهوة في أواني جميلة الزخرفة. ثم تجمع أواني الطعام والشراب وتغسل وتعاد إلى رفوف مجوفة ومثبتة داخل كوة في حيطان كل الغرف. وتوضع تلك الأواني النظيفة في الرفوف للتخزين وللعرض مثلما كانوا يفعلون في أوروبا بخزائن المطبخ kitchen dressers.
الأثاث على الرغم من أن أهالي الشرق لم يكن يستخدمون الكراسي في الجلوس، إلا أنهم يجلسون عادة على السجاجيد والبُسُط وجلود الحيوانات (وليس على الأرض العارية). وتجد في بيوتهم الكثير من البُسُط والسجاجيد للسير عليها حُفاة الأقدام، ولوضعها على المقاعد (الكراويت) الخشبية وللنوم أيضا. وتُصف تلك المقاعد (الخشبية أو الطينية أو الحجرية) متجاورة على أرضية الغرفة أو في خارجها في "المسطبة". وتوضع مساند على تلك جوانب المقاعد، و"مخدات" ليضع الجالسون عليها رؤوسهم عند النوم، وقد يضعونها تحت آباطهم عند الاتكاء. أما في جناح الحريم، فتجد أن كل أرضيات الغرف به مغطاة بالسجاجيد، وكل من في الجناح يسرن فيه حافيات. وتبدو الغرفة في الجناح وكأنها أريكة أو مُضْطَجَع كبير، وبإمكان الواحدة أن تستلقي فيها أو تتحرك كما تشاء. وعادة ما تكون النوافذ أو "المشربيات"، وحواف الرفوف المجوفة والمثبتة داخل كوة في الحيطان أقرب إلى أرضية هذه الغرف العلوية.
الطبخ تتميز احتياجات المطبخ في سواكن بالبساطة. فالطعام يُطهى على موقد صغير يرتفع عن الأرض بنحو 35 سم، وله ثلاثة أو أربعة فتحات للنار عليها مشابك. ويستخدم الفحم الخشبي كوقود، ويُحفظ في مخزن كبير بالطابق العلوي، وتحت السلم في الطابق الأرضي. وتجلس الطاهية على مقعد منخفض وحولها صواني وضعت على الأرض، أو على حصير من سعف النخيل، وفوقه القدور والمقالي والأطباق. ولا يقدم الطعام حارا جدا كما هو الحال في أوروبا، ولكنه يأتي متبلا بكثير من البهارات الحارة والفلفل. ولا يتخثر أو يتجمد الطعام بسهولة، وقد يُسخن ما يبقي من الطعام مرة أخرى.
الاغتسال إن الاغتسال والاستحمام عند المسلمين أمر مبسط، فهم – على وجه العموم – لا يستحمون في المياه الراكدة. فحتى في غسلهم للأيادي، فهم يستخدمون الماء المصبوب من إبريق أو كوب أو صحن. ولا يحتاج المرء لكبير عناء في الاغتسال أو الاستحمام والبحر على بعد ياردات قليلة من المنازل. وفي كل منزل توجد مساحة صغيرة للاستحمام، أرضيته تسمح بتصريف المياه، وبه مقعد منخفض، و"زير" واسع الفتحة يمكن أخذ الماء منه بسهولة بكوب أو قَرْعَة، ونتوء في الحائط توضع عليه صابونة و"ليفة". وهذا كل ما يحتاجه المرء للاستحمام.
التخزين تُخزن الأغراض المختلفة بطرق ثلاثة. فالأشياء الكبيرة الحجم (مثل السروج والصناديق والجوالات) تحفظ في مخازن كبيرة في الطابق الأرضي، وأحيانا في الطابق العلوي. أما الملابس والأغطية والأسرة والسجاجيد فتحفظ في صناديق مزخرفة. ولا تعلق ملابس الناس بسواكن في دواليب / خزائن نسبة لطبيعتها الخفيفة الفضفاضة. أما الطريقة الثالثة للتخزين فهي عن طريق وضعها في رفوف مجوفة ومثبتة داخل كوة في الحيطان، كما ذكرنا آنِفاً.
الإضاءة تستخدم الإضاءة الزيتية في المنازل. وتعلق الفوانيس في الغرف الكبيرة من سِنَّارات معلقة من وسط السقف، أو وسط المشربية. وهناك أيضا المصابيح الزيتية الصغيرة المحمولة التي توضع في أركان مناسبة، وفي جوانب المشربية، وقرب مدخل الباب، وفي منتصف السلم. أما سكان سواكن فكانوا يعيشون على ضوء الشمس (والقمر)، ويستفيدون غالب الوقت من الضوء الطبيعي في ساعات العمل (نهارا) والترفيه (ليلا).
الإضاءة في الشوارع كانت شوارع سواكن تضأ بالمصابيح الزيتية المعلقة على أعمدة في أركان بالشارع. وكان هناك ثلاثة حراس يتولون الإشراف ليلا على تلك المصابيح. وكان كل واحد من هؤلاء الحراس يصيح بصوت عالٍ: "نمرة واحد"، "نمرة اثنين"، "نمرة ثلاثة". وإن لم يجب واحد على زميله الصائح، فقد يُعد ذلك الحارس الليلي نائما، ويُعرض على المأمور عند الصباح. وكان الصيادون في البحيرة المالحة يحملون معهم مصابيح في قواربهم تبعث ضوءً أبيضا ينعكس على الماء معطيا منظرا بديعا.