The British, The “Ulama”, and Popular Islam in the Early Anglo- Egyptian Sudan John O. Voll جون. أو. فول ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي تقديم: هذه ترجمة لغالب ما جاء في مقال لبروفيسور جون فول بعنوان " البريطانيون والعلماء والاسلام الشعبي في بَوَاكِير عهد السودان الإنجليزي – المصري" نشر عام 1971م في العدد الثاني من "المجلة العالمية لدراسات الشرق الأوسط". أما المؤلف فهو البروفيسور الأمريكي (المتقاعد) جون فول، الذي عمل أستاذا للتاريخ الإسلامي في جامعة جورج تاون بواشنطن ونائبا لمدير معهد الأمير الوليد بن طلال للتفاهم المسيحي – الإسلامي. بالجامعة نفسها. نال بروفيسور جون فول درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد في عام 1969م (وكانت رسالته عن الطريقة الختمية)، وظل يدرس التاريخ الإسلامي لقرابة الخمسين عاما في جامعتي نيو هامشير وجورج تاون، وعاش رَدَحا من الزمان في بيروت والقاهرة والخرطوم. وللرجل كتب ومقالات كثيرة تناولت مواضيع مختلفة شملت الإسلام والديمقراطية وتاريخ الدول الإسلامية (ومنها السودان) المترجم ***** ***** ***** ***** يصعب تقويم قوة وتأثير الإسلام الشعبي التقليدي في عالمنا المعاصر. وفي بعض الأوقات، تتيح لنا التطورات التي حدثت، طرقا غير مباشرة، على الأقل، للتقويم عند شعوب إسلامية محددة. وأحد أمثلة تلك التجارب هي العلاقات بين البريطانيين و"العلماء" في السودان إبان بواكير عهده الثنائي (الإنجليزي – المصري). وتعد تلك العلاقات فرصة لدراسة حالة المواقف البريطانية الإمبريالية تجاه الإسلام. لقد سيطر البريطانيون سيطرة كاملة على عدد كبير من السكان المسلمين في شمال السودان عقب "استعادة" الجيش الإنجليزي – المصري لحكم السودان بعد هزيمة جيش المهدية في نهاية القرن التاسع عشر. ومن أجل الحفاظ على الأمن والنظام والاستقرار في مستعمرتهم، كان البريطانيون يؤمنون بأن عليهم الحصول، على الأقل، بتأييد ضمني من الرأي العام عند عامة السكان المحليين. وهنالك دليل على صحة هذا الافتراض من دراسة تاريخ سنوات الاستعمار الثنائي الباكرة، التي شهدت عددا من الثورات الدينية. وحددت الإدارة البريطانية عددا من الافتراضات عند تنفيذها للطرق التي استخدمتها لنيل تأييد المسلمين. وربما كانت أبسط تلك الطريق هو افتراض أن "أي قطر متخلف سيكون معرضا لنوبات من التحريض المتعصب عندما تكون السلطة الحاكمة ليست على نفس عقيدة باقي السكان"، كما جاء في تقرير لونجت باشا عام 1905م. وزاد ذلك الوضع صعوبة أن "شعب السودان، على وجه الخصوص، له قابلية عجيبة للتعصب الديني". وكان ذلك "التعصب الديني" المفترض عند السودانيين قائما بسبب مثال واحد هو المهدية. فقد كانت لأهم الإداريين البريطانيين تجارب مباشرة مع الحركة المهدية. فقد حارب أول وثاني حاكم عام للسودان الإنجليزي – المصري (كتشنر ووينجت) جيش المهدية، وكان سلاطين، مستشارهما الأول لـ "شؤون الأهالي" حبيسا عند المهدويين لسنوات عديدة. وكانت الحكومة الجديدة مصممة على "تعلم درس" المهدية، وتظن أن بإمكان أي قائد مهدوي (حتى وإن بدا صغير الشأن وقليل الخطر) أن يشعل تمردا متعصبا قد يفضي إلى ثورة شاملة. لذا أصدرت الحكومة أوامر صارمة لإدارييها بتشديد المراقبة على الزعماء الدينيين المحليين، والقيام باللازم نحوهم بأعجل ما تيسر عند أول بادرة للعصيان أو التمرد أو محاولة توسيع النفوذ. وبالإضافة إلى ذلك، كان البريطانيون يتخوفون من احتمال عودة الروح لحركة محمد أحمد المهدي نفسها. ولهذا السبب فرض البريطانيون رقابةً وقيوداً صارمة على الأنصار وعلى ممارساتهم الدينية في عهدهم السابق (انظر المقال المترجم "السياسة البريطانية حيال الأنصار في السودان" لجبريل واربورج. المترجم). وفي تلك الأيام جدَّ البريطانيون في البحث عن أنواع أخرى من قادة المسلمين لنيل تأييد الرأي العام المحلي. وكان الإداريون ينظرون إلى الجماعات الإسلامية الدينية على أنها جماعات بدع وخرافات، فلجأوا إلى ممثلي الإسلام التقليدي (orthodox) ليكونوا لهم حلفاء طبيعيين في محاربة التعصب الديني المحتمل. وبذلك النهج شجع البريطانيون الأفراد الذين تلقوا العلوم الدينية "العلماء" على أداء دورٍ أكبر في حياة السكان، وأيدوا بحذر قادة بعض الطرق الدينية الكبيرة التي عُرفت بالعداء للمهدية وليس من المتوقع أن يأتي منها أدنى خطر أو تمرد أو ثورة دينية. غير أن التعويل في البداية كان على تأييد "العلماء". وكان أهم مهندسي السياسة البريطانية الباكرة بالسودان هم كرومر ووينجت وسلاطين. ولم يكن لهؤلاء أي اهتمام خاص بالعقائد الإسلامية إلا إذا كانت لها علاقة أو تأثير مباشر على الإدارة. وكان هؤلاء مدركين للشهرة والهيبة التي يتمتع بها الأزهر في القاهرة، ويميلون لافتراض أن عوطف (كل) المسلمين بالسودان ستكون مؤيدة لعلماء تلك المؤسسة. وكانت الحكومة تعد الطرق المحلية طرقا منحرفة عن صحيح الإسلام القويم، ربما بسبب اهتمامها وتأثرها بآراء "العلماء" المصريين. لذا عمل البريطانيون على ربط هؤلاء "العلماء" مباشرة مع الحكم الثنائي بطريقتين: الأولى هي رغبة البريطانيين (بحسبانهم "أصدقاء الإسلام") في إقامة نظام خاص للمحاكم يحكم، على الأقل، بموجب بعض القوانين الإسلامية. وهذا يتطلب بالطبع تعاون "العلماء". والطريقة الثانية هي عمل البريطانيين على قَرَن وربط العلماء مع كثير من أعمالهم وقرارتهم الإدارية، عبر تكوين "مجلس العلماء"، على أمل أن تجد تلك الأعمال والقرارات القبول من السودانيين المسلمين. وكانت حكومة السودان قد حرصت عند إقامتها للنظام القانوني في البلاد أن تكون غالب جوانب القانون تحت سيطرة الإدارة البريطانية. وكانت نصوص غالب تلك القوانين مأخوذة من النموذج الهندي في قوانين الأراضي والعقوبات والضرائب وغير ذلك. غير أنه تم في 1902م إنشاء محاكم (منفصلة) تحكم بالقوانين المحمدية (الشرعية)، وصدر بذلك مرسوم حكومي. وكانت تلك المحاكم تتولى الحكم في قضايا أحوال المسلمين الخاصة مثل قضايا الزواج والمواريث، بموجب قواعد الشرع الإسلامي. وكان على رأس تلك المؤسسة "كبير / قاضي القضاة"، والذي منح بموجب مرسوم عام 1902م سلطة تنظيم تلك المحاكم. ويمكن معرفة بعض جوانب موقف البريطانيين تجاه الإسلام وسياستهم في السودان من دراسة طرق عمل تلك المحاكم. لقد كان غالب الحكام البريطانيين على قناعة تامة بأن تصلب وجمود القانون الإسلامي كان سببا رئيسا في "ركود" العالم الإسلامي. لذا عمل البريطانيون بإنشائهم لمحاكم تعمل بقوانين الشريعة على أن يكون نظامها مرنا بالقدر الذي يجعل إصلاحها أمرا ممكنا. وأعتمد البريطانيون على مصر في إيجاد قضاة (شرعيين) للعمل في تلك المحاكم ومعلمين لتدريب القضاة الشرعيين في الخرطوم. وظل منصب "قاضي القضاة" حصرا على المصريين حتى أخريات سنوات الحكم الثنائي. وكان المصريون الذين يتم اختيارهم لذلك المنصب دوما من بين الشيوخ المعروفين بنشاطهم في حركة تجديد وإصلاح القوانين الإسلامية في مصر. وكانت آراءهم حول التفسيرات "الجامدة" لقوانين الشريعة، وضرورة تحاشي الغلو فيها كثيرا ما توافق آراء ومواقف البريطانيين حول تلك المسائل. ومن أمثلة أولئك "العلماء" المصريين الإصلاحيين هو محمد عبده، الذي ظل يبدي اهتماما خاصا بشأن الإصلاح في السودان، وفي اختيار أول القضاة والمعلمين للعمل به. وقام الشيخ بزيارة مدرسة تدريب القضاة بالخرطوم (في عام 1902م) وقدم العديد من الاقتراحات، التي وجدت طريقها للتنفيذ. وعند وفاة الشيخ في عام 1905م أحس كل من كانت له علاقة بمدرسة التدريب تلك أنه فقد صديقا عزيزا. وأفضت التعديلات التي أُدخلت على المحاكم الشرعية إلى تطورات مهمة في مجال الإصلاح في قوانينها. فقد تنبى السودان ذات الإصلاحات التي أُدخلت على المحاكم الشرعية في مصر، بل طبقت بالفعل في السودان أولا بعض الإصلاحات التي اقترحت في مصر، وذلك على سبيل التجربة. وعُدت تلك الإصلاحات أمرا ضروريا، وتواصلت طوال سنوات الحكم الثنائي للبلاد. وقامت تلك الإصلاحات على أساس افتراض أن "العلماء" في السودان (مصريين وسودانيين) كانوا في نظر البريطانيين علماء يقدرون المسؤولية ويمكن الاعتماد عليهم. وكانت الحكومة تأمل في أن تقدم للسكان عن طريق هؤلاء "العلماء" اسلاما "تقدميا"، وأن تحوز على تأييد الرأي العام المسلم بالبلاد. غير أن هذا الجانب من السياسة الإدارية لم يحظ إلا بتأثير ضئيل على عامة الشعب، رغم أهميته من الناحية القانونية المحضة. وبدا أن الولاءات الدينية عند شماليي السودان غير قابلة للتأثر بتلك التطورات القانونية أو الإصلاحية. وعلى الرغم من أن السياسة البريطانية تجاه الشريعة ظلت مستقرة وثابتة نسبيا في غضون سنوات الحكم الثنائي (حتى بعد سنة 1924م حين طرد البريطانيون غالب الموظفين والضباط المصريين من البلاد، باستثناء بعض "العلماء")، إلا أن السياسة البريطانية القاضية بربط "العلماء" بالممارسات الإدارية الحكومية لم تدم سوى بضع سنين في بدايات الحكم الثنائي. غير أنه يجب القول بأن الإدارة البريطانية كانت تثمن عاليا التعاون مع "العلماء" بحسبانه من أهم عوامل تقوية موقف الحكومة. وأنشأ وينجت باشا في عام 1901م "مجلس العلماء" وأسند إليه مهمة تقديم النصح والمشورة للحكومة في كل الشؤون الإسلامية بالبلاد. وشرحت مذكرة حكومية لقسم المخابرات تاريخها 13/8/1901م مهمة ذلك المجلس على النحو التالي: "هذا المجلس هو مجلس استشاري مهمته تقديم الأجوبة على أسئلة الحكومة في الأمور الدينية ... ولقد عُين هذا المجلس ليساعد الحكومة في التعامل مع المسائل الدينية، حتى يبدو ظاهريا أن المبادرة قد أتت من هؤلاء العلماء الاسلاميين المعتمدين، وليس من الحكومة من تلقاء نفسها. ولا ريب أن موقف الحكومة تجاه دين البلاد سيبدو أكثر قوة عندما يساندها أكبر علماء البلاد". وكان إنشاء "مجلس العلماء" هو تقنين لممارسة كانت قد بدأت في عام 1900م. فعندما علمت الحكومة بقدوم "طائفة دينية متعصبة" إلى أم درمان، سارع وينجت بتكوين لجنة من كبار شيوخ الدين لتبحث في أمر تلك الطائفة. ولما أعلن وينجت عن قراره القاضي بنفي قادة تلك الطائفة، أشار إلى أنه فعل ذلك بتوصية من تلك اللجنة، التي قررت أن تلك الطائفة تمثل "خطرا" على الإسلام. وأضاف أن عقوبة النفي "ستطبق أيضا على كل فرد أو جماعة يحاول العمل ضد الدين المحمدي المبجل". وكان "مجلس العلماء" يمثل الصيغة الرسمية للتعاون بين الحكومة و"العلماء" في البلاد. فعندما أصدرت الحكومة بيانا بخصوص تنظيم الاجتماعات الخاصة، وطبقت ذلك على نشاطات الطرق (الصوفية)، أعلن "مجلس العلماء" عن تأييده لهذا الإجراء الذي "يتماشى مع قواعد الدين المحمدي". وكانت الحكومة تقوم بدعوة المجلس للانعقاد كلما أرادت التحري عن النشاطات المشبوهة للقادة الدينيين المحليين (هنا ضرب الكاتب بأمثلة لتلك النشاطات المشبوهة من قبل شيخ مضوي عبد الرحمن، وطائفة علي عبد الكريم، والخلافات بين الطرق الصوفية في الأبيض عام 1915م. المترجم). وكانت الحكومة تقوم بفرض العقوبات على أولئك الأفراد والجماعات الدينية مستندةً على ما يقدمه لها ذلك المجلس من مشورة. وعندما خلقت احتجاجات ودعايات الوطنيين نوعا من المعارضة لعزم الحكومة على إنشاء مشروع الجزيرة، قامت الحكومة بتنظيم زيارة لأعضاء "مجلس العلماء" للمشروع بغرض تصحيح فهم الأهالي لأغراض الحكومة من إنشاء المشروع. وكانت الحكومة تأمل في أن يكون ذلك المجلس نصيرا لها في الحفاظ على الأمن والاستقرار بالبلاد، وكسب التأييد الشعبي للحكم الثنائي. وكانت سياسة تعاون الحكومة مع "مجلس العلماء" تحظى بتأييد المحللين البريطانيين الذين كانوا يدركون أهمية وقوة قادة الإسلام الشعبي (في البلدان المستعمرة). ومن المعروف أن أهم واحد في قيادة ذلك الإسلام في كل القرى هو "الفكي"، الذي يقوم بكثير من المهام التي تشمل تدريس التلاميذ في "الخلوة"، وعلاج المرضى، وكتابة "الحجبات" والتمائم والتعاويذ. ومن المعتاد أن بعض الطرق الصغيرة تبدأ مع هؤلاء الفكيا (جمع فكي)، الذين لهم تأثير ونفوذ عظيمين على حيوات تابعيهم. وكان البريطانيون يؤمنون بأن هؤلاء الفكيا يمثلون النقطة المحورية التي يبدأ بها ومنها التعصب الديني، على الرغم من أن تأثيرهم ونفوذهم كان يقتصر على رقعة جغرافية محدودة، إلا أن بإمكانهم إحداث ضرر بالغ. ولكن رغم ذلك الاعتقاد، لم يقم البريطانيون بأي محاولة عملية للتعامل مع الفكيا في القرى، وتركتهم يؤدون أعمالهم دون تدخل. غير أنهم كانوا يتدخلون بسرعة وحسم عندما يتأكدون من ظهور أي بادرة تمرد من أي فكي. وكانت الحكومة تأمل في التقليل من نفوذ الفكيا في أوساط أتباعهم عن طريق التعاون مع قادة المسلمين التقليديين. وظهرت ثمار تلك السياسة واضحةً في سنوات الحرب العالمية الأولى. فقد جاء في تقرير للمخابرات البريطانية في السودان (بقيادة سي. آي. ويليس) أن تأثير ونفوذ الفكيا وسط السكان قد بدأ يضمحل بوتيرة متسارعة. غير أن ذلك لم يكن يعني أن القوة المؤثرة للإسلام الشعبي نفسه كانت في تناقص. وما حدث بالفعل هو أن الفكيا في القرى ارتبطوا بمجموعات دينية أكبر وأكثر تنظيما، بينما استمروا في أعمالهم كالمعتاد. والفرق الوحيد هو أن هؤلاء "الفكيا" صاروا يخضعون لسيطرة جهة خارجية من القادة "الوطنيين" المرتبطين بهم. وكان هذا يعني سياسيا أن ذلك الارتباط قد قلل إلى حد بعيد من احتمال قيام ثورة يقودها هؤلاء الفكيا. وكان المستفيد الأكبر من ذلك التطور هو طائفة الختمية (بقيادة السيد علي الميرغني) وطائفة الأنصار (بقيادة السيد عبد الرحمن المهدي)، وكانتا – باعتراف البريطانيين - هما أكثر طائفتين تتمتعان بشعبية كبيرة ونفوذ عظيم في السودان. وكان من المستفيدين أيضا طائفة السيد يوسف الهندي. وعجل تخوف البريطانيين من حدوث قلاقل في أوساط المسلمين في غضون سنواتالحرب العالمية الأولى من اعتماد البريطانيين على الطائفتين المذكورتين. وغدا البريطانيون يؤمنون بأن النفوذ الشعبي (الحقيقي) هو للطائفتين الكبيرتين وليس لـ "العلماء" الذين كانت تعترف بهم رسميا. ونتيجة لذلك قامت الحكومة بإجراء بعض التعديلات في سياستها كان من أهمها هو تخفيف القيود المفروضة على طائفة "الأنصار" وزعيمهم السيد عبد الرحمن. وكان تحول الحكومة من الاعتماد على "العلماء" إلى الاعتماد على الطائفتين الكبيرتين مبعثه هو الرغبة في الحصول على تأييد حقيقي وليس نظري لسياساتها. غير أننا لا يجب أن نعد ذلك التغيير بمثابة إرساء سياسة جديدة بالكلية. فقد أبقت الحكومة "مجلس العلماء" ليكون لها عونا في الإدارة. وظلت في ذات الوقت تعترف بأهمية تأييد السيدين لسياستها. لقد كان للختمية عداء تاريخي قديم للمهدية، وعلاقات ممتازة مع البريطانيين منذ القرن التاسع عشر، وكان البريطانيون يعترفون بالسيد علي الميرغني كقائد مهم لعدد كبير من السودانيين. ولكن حدث تحول بعد نهاية الحرب العالمية الأولى في سياسة حكومة السودان تجاه تلك الطائفة الدينية. ووصف أحد كبار الإداريين البريطانيين في نيجيريا (واسمه هـ. آر. بالمر) في عام 1919م السياسة الحالية لحكومة السودان بأنها تهدف لـ "رعاية وحماية مؤسسات الإسلام التقليدي، وحتى القوى الروحية غير التقليدية التي يمثلها الكثير من الأولياء". وأشار إلى أن غياب زعماء محليين و"علماء" دين مؤثرين في البلاد جعل الحكومة تتعرف على حقيقة مشاعر الشعب الدينية من قادة الدراويش والطرق، الذين سعت الحكومة لكسب ودهم وتأييدهم لأغراضها السياسية. وبعبارة أخرى، بدا جليا مع نهاية الحرب العالمية الأولى أن الحكومة أيقنت أن قادة مجموعات الإسلام الشعبي (وليس "العلماء") هم بالفعل الشخصيات المهمة التي يجب أن تسعى لها أملا في نيل تأييد السكان المسلمين. وبهذا الفهم بقي الإسلام الشعبي قوة كبيرة وحيوية في السودان. لقد كان لاستخدم البريطانيين لـ "العلماء" كثقل مقابل / موازن لقوة الإسلام الشعبي نظير في القرن التاسع عشر. فبعد الغزو التركي – المصري للسودان في 1820م، كان الحكام الجدد يرتابون من قادة الإسلام الشعبي بالسودان. لذا حاولوا تكوين طبقة من "العلماء" الرسميين لتقود الرأي العام الديني بالبلاد. ولم تصب تلك المحاولة أي نجاح، إذ أن ولاءات السودانيين الدينية الأساسية ظلت باقية مع زعمائهم الدينيين المحليين. وفشلت محاولات الحكم التركي – المصري نهائيا بقيام الثورة المهدية، التي كانت في كثير من الجوانب رد فعل ديني سوداني شعبي ضد مجمل ما يمثله الحكم المصري (أستشهد الكاتب هنا بما ورد في كتاب ريتشارد هيل "مصر في السودان Egypt in the Sudan، وكتاب بيتر هولت "العائلات المقدسة والإسلام في السودان Holy Families and Islam in the Sudan . المترجم). وأثبتت نتائج السياسة البريطانية في النهاية أنها كانت أنجح من سياسة الحكم التركي – المصري، إذ أن البريطانيين أدركوا أهمية وقوة وتأثير الإسلام الشعبي بالسودان، وتأقلموا عليه. وأثبتت العلاقات الباكرة بين البريطانيين و"العلماء" الدور المهم والمستمر للإسلام الشعبي في بواكير القرن العشرين. ولم يحدث أي اختبار أو تحدٍ مهم أو علني لقوة الإسلام الشعبي بالسودان إلا بعد سنوات طويلة بعد الاستقلال. وقدمت النتائج طويلة المدى للمواجهات بين الحكومة السودانية الثورية العسكرية والأنصار في مارس من عام 1970م موضوعا إضافيا للإجابة عن السؤال عما إذا كان الإسلام الشعبي قد بقي قوة فاعلة يخشى بأسها. وربما كان من السابق لأوانه أن نخمن الإجابة على ذلك السؤال، إلا أنه يبدو أن عمليات التحول الاجتماعي والتحديث في الخمسين عاما التي تلت الحرب العالمية الأولى قد أضعفت بشكل كبير، على الأقل، تأثير ونفوذ الإسلام الشعبي السوداني.