عرض لكتاب “تاريخ العرب في السودان” لهارولد ماكمايكل .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

A History of the Arabs in the Sudan by H. A. MacMichael

J.W. Crowfort جون وينتر كروفرت
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم: هذه ترجمة لعرض بقلم جون وينتر كروفورت لكتاب هارولد ماكمايكل الموسوم "تاريخ العرب في السودان". نشر العرض عام 1922م في العدد الخامس من مجلة "السودان في رسائل ومدونات".
وكان كاتب العرض (1873 – 1959م) قد عمل في السودان مديرا لمصلحة المعارف، وعميدا لكلية غردون بين عامي 1914م و1926م. وكانت له أيضا اهتمامات بالآثار السودانية (خاصة آثار مروي). وعمل أيضا لسنوات محررا لمجلة "السودان في رسائل ومدونات"، التي نشر فيها عددا من المقالات منها مقال: "من عادات الرباطاب" الذي نشرنا من قبل تلخيصا له باللغة العربية.
أما هارولد ماكمايكل (1882 – 1969م) فقد عمل في القسم السياسي لحكومة السودان في مديريتي كردفان والنيل الأزرق حتى عام 1915م، حين عاد للخرطوم للعمل في وظيفة باشمفتش مديرية الخرطوم، ثم شغل منصب السكرتير الإداري لمديرية الخرطوم. ونقل في عام 1933م إلى تنجانيقا كحاكم لها. وفي عام 1938م نقل إلى فلسطين للعمل في وظيفة المندوب السامي البريطاني (حيث تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة)، ونقل بعدها للملايو. ألف الرجل عددا من الكتب والمقالات عن السودان وتاريخه.
المترجم
***** ***** ***** *****
العنوان الكامل لهذا الكتاب هو "تاريخ العرب في السودان، وذكر الذين سبقوهم، والقبائل التي تقطن دارفور A History of the Arabs in the Sudan and some account of the people who preceded them and the tribes of Darfur". وهذا الكتاب ليس عن تاريخ السودان، ولكنه عن تاريخ مجموعة واحدة من سكانه البالغي التنوع في مديرياتنا الشمالية. وفي كتابه هذا ذكر المؤلف الأجناس الأخرى من السكان، مثلما يفعل المؤرخ عندما يتناول تاريخ النورمان في إنجلترا، ويذكر الإنجليز ومعهم أيضا من سبقوهم في إنجلترا، الذين تم استيعابهم معهم في نهاية المطاف.
ومعروف عن ماكمايكل أنه "قرأ كثيرا، وسافر كثيرا" (أوردها الكاتب بالألمانية Viel gelesn, ciel gereist. المترجم). وهو عالم بكل ما نشر من أعمال القدماء، وخبير بالسودان وما كتبه عنه الكُتاب، وهو يَبُذّهم بلا ريب. وأستفاد الرجل من الوظائف الرسمية العديدة التي شغلها في الحصول على مزيد من المعلومات من الأهالي، وهو أمر ليس متاحا للزائر (الأجنبي) العابر. وماكمايكل مؤلف يكتب بدِقَّةٍ مُتَناهِيَةٍ، وهو لا يستنكف أو يتعامى عن نقاط الضعف والقصور في الموضوعات التي يختار الخوض في غمارها.
ولا شك أن أي مؤرخ رائد سيواجه بالكثير من الصعاب والعوائق وهو يعالج تاريخ السودان، غير أن ماكمايكل، كما يبدو لي، قد زاد الأمر عسراً باختياره السابق لأوانه للتفريق بين العرب وغيرهم. ولكن كان ذاك هو الواجب الذي ألقاه الرجل على عاتقه. وبالنظر إلى طبيعة الموضوع ومواده، فإنه يصعب تجاوز أجزاء هذا السفر بأية حال من الأحوال.
ويبدأ الجزء الأول من الكتاب بثلاثة فصول عن سكان السودان قبل دخول المحمديين للبلاد. وجاءت عناوين الفصول الثلاثة الأولى على النحو التالي: العنصر العربي قبل ظهور الإسلام (الفصل الأول)، والنوبيون والنوبة والعنصر الليبي (الفصل الثاني)، والبليميون والبجا ونوبة مروي (الفصل الثالث). وهنا يحق لنا أن نسأل إن كان للمؤلف ما يسوغ به تلك التقسيمات، خاصة في تفريقه بين النوبيين أو نوبة دنقلا وشمال كردفان وبين نوبة مروي، إلا على أساس جغرافي محض. ومرة أخرى، لا نعرف على وجه اليقين إن كان الكُتَّاب القدماء يقصدون بسكان الجزيرة العربية (Arabians) ما نقصده نحن الآن بكلمة عرب (Arabs)، وكيف يمكن التفريق بينهم وبين الليبيين والأفارقة الرُّحَّل الآخرين؟ إفترض السيد ماكمايكل أن الأسماء التي ذكرها من سبقه من الكتاب هي لعناصر يمكن التمييز بينها، تماما كما نفعل في الوقت الراهن. وحتى إذا قبلنا بهذا الافتراض كبدهية معقولة، فإننا نشك في أنها ستساعدنا في تفسير الحقائق المسجلة في هذا الأمر. غير أن نقد خطة تلك الفصول لا يقلل من قيمتها، فهي جيدة التوثيق.
وتلى تلك الفصول الثلاثة فصل مهم وأصيل عن الأعراق غير العربية في دارفور، ثم فصلين موثقين بتجويد كبيرعن تقدم العرب عبر مصر، وانتصارهم في دنقلا. وخصص المؤلف بقية الجزء الأول من الكتاب لمناقشة أصيلة عن المجموعات والقبائل العربية التي استوطنت في تلك المنطقة، وما بينها من علائق ووشائج.
وكان الجزء الثاني من الكتاب مخصصا لذكر مصادر ومراجع مقالات الجزء الأول المكتوبة باللغة الإنجليزية. وبما أن تلك المصادر كانت كلها تقريبا جديدة وغير منشورة، فإني أعدها بمثابة كنز ثمين لكل مهتم بدراسة تاريخ هذا البلد. وليست كل المراجع والمصادر التي وردت في هذا الجزء من كتاب ماكمايكل سهلة القراءة، إذ أن نصفها يتناول الأنساب. وسيتفق الكثير منا مع النَّسّابين المحليين الذين يرون أن معرفة أنساب الأشخاص الذين لا يمتون للمرء بصلة غير ذات فائدة، ومع الحديث النبوي عن ذلك الذي تعلم الأنساب فقال له الرسول: "هذا علم لا يفيد، وجهل لا يضر" (ورد في كثير من المصادر أن في سند هذا الحديث ضعفا. المترجم). ومن جهة أخرى وردت بعض المصادر التي أعد قراءتها أمرا لازما لكل دارس، وهي تشمل "مملكة الفونج The Fung Kingdom " لكروفورت، و"طبقات ود ضيف الله"، وهي مجموعة سير بعض الأولياء والصالحين. والكتابان يعطيان القارئ صورة ممتازة عن حياة الأهالي في السودان خلال أربعمائة سنة. والكتاب الأخير مكتوب باللغة العربية، ونشر محتوياته باللغة الإنجليزية أمر مرحب به جدا. وأحسب أن كتاب الطبقات أفضل كتاب يمثل خير تمثيل مُثل الأهالي وقيمهم. وكانت التعليقات التي أضافها ماكمايكل لترجمته غاية في الإفادة. وكنت أتمنى لو أنه أدخل تلك التعليقات في ذات الصفحة التي أورد فيها ترجماته. أما كتاب تاريخ "مملكة الفونج" فهو أقل حيوية ومتعة من "طبقات ود ضيف الله"، إلا أنه مفيد جدا بالنسبة لشخص مسؤول يرغب في فهم كيفية تقويم الأهالي لمن هم في السلطة. وأعد صفحاته الأخيرة عن فترة الحكم التركي – المصري من أهم صفحات ذلك الكتاب، وأنصح بقراءتها.
أما الفصل الخاص بالمعلومات العامة عن أنساب وتاريخ القبائل المختلفة فهو يقع في المنتصف بين الفصول التي سبق ذكرها، والكتابات عن الأنساب التي وردت في بدايات الجزء الأول من الكتاب. وأعتقد بأن الملخص العام الذي أورده المؤلف عن "الوضع القبلي" بالبلاد يستحق أن يُخص بالذكر. لقد جاء فيه أن قبائل العرب الذين يوجدون بالسودان (خلافا لقبائل النوبة والأحباش والزنج) هم أجانب، ولكنهم اختلطوا بهذه القبائل المذكورة وتكاثر نسلهم المشترك بينهم. واحتفظ بعضهم بخواص (ثقافة) العرب، بينما تبنت بعض العناصر النوبية والزنجية خواص (ثقافة) العرب. وهنالك بعض العرب الذين اختلطوا بالزنوج والنوبة وتبنوا خواصهم (ثقافتهم). ولكنهم في جميع الأحوال ظلوا مدركين لأصلهم (الجزء الثاني من الكتاب. صفحة 197). وليس بالإمكان وضع مسألة الأعراق في شمال السودان بصورة أكثر اختصارا ودقة. ويحسن بعالم الأعراق أن يضع كلمات ماكمايكل المختصرة هذه كشعار له. لقد وجدت كثير من العبارات السخيفة طريقها إلى كتب علم الأعراق الإنجليزية، مثل "سلالة عربية نقية" لهذه القبيلة السودانية أو تلك. وملخص ماكمايكل المذكور كفيل بدحض مثل تلك المزاعم، والتوقف عن ترديدها.
ولا ريب أن الكلمات الأخيرة المذكورة ستثير شكوك البعض، وسيتسألون عما إذا كان الأهالي في كل حالة تم ذكرها يعرفون حقا أصلهم. بالطبع لا يعلم كثير من الأهالي حقيقة أصلهم، وما يذكرونه عن نسبهم هو من محفوظات أنساب بائنة الزيف. غير أنه يجب على هؤلاء المتشككين التدبر في حجج السيد ماكمايكل، والتي أعتقد أنها مقنعة في عمومها. بل إن السيد ماكمايكل نفسه كان قد أقر صراحةً بضعف بعض الأدلة التي أوردها.
وقسم السيد ماكمايكل غالب عرب السودان إلى قسمين كبيرين: مجموعة الجعليين – الدناقلة التي تضم معظم القبائل النيلية، وكثيرا من القبائل المستقرة في كردفان، ومجموعة جهينة التي تشمل قبائل البقارة، والعرب الرحل الذين يرعون الإبل والضأن. وهذا التقسيم يقابل تقريبا التمييز المبتذل بين "الأشراف" و"العرب"، وهو تقسيم شائع في السودان وفي مصر أيضا. ولا يجب التعويل كثيرا على مثل ذلك التمييز، فمعلوم أنه كما كبرت القبيلة، كلما زادت نسبة الاختلاط فيها. وخير مثال على ذلك هو قبيلة الكبابيش، التي لاحظ فيها السيد ماكمايكل اختلاط كثير من العناصر.
إن أجزاء هذا الكتاب مليئة بالكثير من التفاصيل، مما يجعل من العسير استعراض معظمها في هذا العرض السريع، الذي قصدت منه لفت نظر القراء إلى الجوانب الرئيسة في هذا العمل المهم. وآمل في المستقبل القريب أن أعود إلى بعض النقاط الخاصة في هذا الكتاب. ولا يفوتني أن أزجي التهاني للمؤلف على هذا الإنجاز العظيم. إن كتابه هذا منجم معرفي لن ينضب مع مرور السنوات، وسيبقى مرجعا دائما لكل الباحثين في هذا الحقل.

 

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء