ما بين الأولويات الاقتصادية والاستثنائية
المعنى العام والأساس للأولويات هو تقديم المهام والأعمال التي يجب المبادرة بها بسرعة لأدائها والاهتمام بها وتقديمها على ما سواها لتحقيق اهداف محدده مسبقاً، ويتلاءم هذا المفهوم مع الفرد والمجتمع والدولة.
ويرتبط مفهوم الأولويات عادة بالمشكلات التي إذا ما تم تأجيلها أو تأخيرها، ترتب على ذلك آثار متفاقمة قد يصعب حلها أو تفاديها، وهنا يأتي دور ترتيب تلك الأولويات وتنظيمها وإعطاء كلٍ منها وقتها الكافي حتى يحين دورها في سلم الأولويات، ومن ثم القيام بها وأداؤها حتى الوصول إلى الغاية المحددة.
لذلك يرد عند إستخدام مفهوم الأولويات في المشكلات الاقتصادية، بأنها المفاضلة بين خيارات تؤدي إلى تخصيص الموارد لبرامج مختارة و محددة. ومِنْ ثَمَّ فهو يتضمن قيماً وأفضليات ومسوغات تيسر إجراء تلك المفاضلة.
وتعتبر أدبيات تحديد الأولويات الاقتصادية من أهم المهام الاستراتيجية لإدارة الاقتصاد في الدولة وفق خصوصياتها وظروفها، التي ينبغي أن يخصص لها كادر بشري مؤهل وإمكانات مالية وتحليلية وفيرة، إذ أنه ليس هنالك وصفات اقتصادية عالمية مطلقة لحل جميع المشكلات الاقتصادية أو تحديد لجدول أولوياتها.
إن تحديد الأولويات يحتاج إلى خبرات طويلة وتراكمية، فردية وجماعية، وإدارة مركزية للملف الاقتصادي، لا يعتمد على الحلول المؤقتة، حيث تصبح المشكلة في طور الاستثناء الذي يستوجب التركيز عليه. هذا فضلآ عن أن الآمر يصبح شائنآ قوميآ يحتاج تضافر القطاع العام والقطاع الخاص لتنسيق الجهود في إدارة الاقتصاد، حيث يجب القيام بالشيء الصحيح المتمثل في تحقيق الاهداف الاقتصادية وبالطريقة الصحيحة المتمثل في الوسائل والادوات لتحقيق تلك الاهداف.
وكما يلاحظ دائما أن هنالك دوما تلازما واضحا بين المشكلات الاقتصادية في بعض الدول، وبين غياب الطابع المهني في معظم سياسات تلك الدول الاقتصادية والمالية على المستويين الجزئي والكلي. وبالإضافة إلى ذلك يلاحظ أن هنالك في تلك الدول تغييبا لآراء وأفكار ورؤية رجال الأعمال في الشأن الاقتصادي، وعدم مشاركة للأكاديمـــيين والخبراء الاقتصاديين والإداريين في إعداد وصياغة البرامج الاقتصادية أو حل القضايا الاقتصادية والإدارية، علاوة على إغفال تام لدور علم الاقتصاد في توفير الأدوات والرؤى الفنية التي تساعد في الاختيار الأفضل للمسارات الاقتصادية المستدامة. كذلك يجب إدراك وتفعيل دور علم الإدارة للاستفادة منه في إدارة الازمات من خلال استراتيجية التركيز على قبول الأمر الواقع، وبذل الجهد لمنع تفاقم الازمة من خلال نظم الإنذار المبكر الذي يجب أن يكون جزءً من منظومة التخطيط الاستراتيجي لادارة الازمات. كذلك ينبغي الحرص على رصد علامات الخطر بدرجة عالية من الدقة والكفاءة، وذلك بحسبان توفر المعلومات خطوةً أولى في عملية اتخاذ القرار في مراحل الأزمات المختلفة.
لا ريب أن وجود قاعدة أساسية للبيانات والمعلومات تتسم بالدقة والتصنيف وسهولة الاستدعاء من أساسيات عملية وضع أسس قوية لطرح البدائل والاختيار بينها، وهو ما تفتقده الدول التي تعوزها الحوكمة (التي تعرف بأنها مجموعة من القوانين والنظم والقرارات التي تهدف إلى تحقيق الجودة والتميز في الأداء عن طريق اختيار الأساليب المناسبة والفعالة لتحقيق خطط وأهداف الشركة أو المؤسسة)، أو تلك التي ينتشر فيها الفساد الإداري والمالي بأنواعه.
كذلك تواجه الأولويات الاقتصادية في كثير من البلدان صعوبات في مواجهة الوضع الدولي الجديد، بما في ذلك الآثار المتزايدة للعولمة الاقتصادية. وهذه العوامل ستجعل من محاولات النهوض بالاقتصاد لكثير من الدول مرتبطة بالاستعانة برؤوس أموال خارجية، وتوفير أجواء مناسبة لاجتذابها كي تسهم في تطوير القاعدة الإنتاجية وتحديث الاقتصاد. ويلزم للنهوض بالاقتصاد أيضا الانضمام للتكتلات الاقتصادية الدولية أو الإقليمية، التى تتطلب أن تكون هنالك الدبلوماسية الاقتصادية حاضرة ضمن أولويات الشؤون الخارجية للدولة، بغرض دعم مؤسساتها في الأسواق الخارجية واستقطاب الاستثمارات الأجنبية التي تستحدث الوظائف في الدولة والترويج للمصالح الاقتصادية.
ثم تأتي بعد ذلك الخطوة التالية وهي إدارة الوقت، الذي تتم عبره ومن خلاله عملية تنظيم القيام بالأعمال التي حددتها أهداف التخطيط الإستراتيجى لادارة الازمات الاقتصادية، وذلك بحسب أهميتها من خلال برامج تتيح للدولة تحقيق تلك الأهداف في الوقت المتاح، خشية الوقوع في المزيد المشكلات جراء ذلك التأخير، حيث يجب الأخذ بترتيب تلك الأولويات وتنظيمها بطريقة جادة. وعادة ما يفسر تهميش الأولويات في الدول التي ليست لديها حوكمة بتغليبها للمصالح الشخصية والذاتية على ما هو مهم وأساسي في عملية تطبيق البرامج الاقتصادية.
إن الإخفاق في ترتيب الأولويات في مختلف الدول لا ينفصل عن المفاهيم السائدة للأفراد والمجتمع ككل، وهو من السمات الاساسية للدول المتخلفة والاقل نمواً. وتُهدر من جراء ذلك الموارد الاقتصادية للدولة سبب غياب استراتيجيات لإدارة الاقتصاد، لافتقار الدولة لمقومات العنصر البشري الذي يحسن إدارة الوقت، وعدم وجود أنظمة حاكمة للإدارة الاقتصاد وأزماته معا.
كما يعتبر سوء التخطيط هو المحرك الاساسي للأزمات الاقتصادية، التى تحوي في جنباتها عددا من الأزمات الفرعية المتراكمة التي تم إغفالها أو عدم الاعتراف بها، أو حتى التقليل من أهميتها باعتبارها أزمة عابرة أو غير حقيقة.
إن الخلل في عملية التقدير والتقويم للأمور والاعتماد على الجوانب الوجدانية والعاطفية أكثر من الجوانب المهنية يجعل القرارات غير واقعية، ويفضي ذلك إلى نتائج قد تؤدي في النهاية إلى أزمة غير قابلة للحل قد تعجز القدرات المتاحة عن مواجهتها.
ومعلوم أن هناك رؤية مشتركة بشأن سياسات الاقتصاد الكلي في جميع دول العالم، من أجل تحسين مستويات المعيشة والتى تعتبر مطلب للشعوب وحكوماتها، تتمثل في خلق فرص للعمل ورفع مستويات المعيشة، وتغيير مكونات الإنفاق الحكومي لتحقيق مزيد من العدالة والكفاءة وغير ذلك من المطالب المشروعة لتحقيق اقتصاد قوي ومتوازن. غير أن كل بلد يحتاج إلى رؤية مختلفة ومتجددة وفقاً لاختلاف مكونات مصادره الاقتصادية. فهناك من يعتقد أن الأولوية يجب أن تكون للنمو والانتعاش الاقتصادي، بينما يعتقد آخرون أنه يجب النظر للتوازن المالي والسياسات النقدية كأحد أهم الركائز لإنعاش الاقتصاد. وقد يخفق البعض في المحاولة في إحداهما أو عند الدمج بين المفهومين في آن واحد.
وتبقى الإصلاحات الاقتصادية في إعتقادي هي إصلاحات إستثنائية على رأس الأولويات لإصلاحات أساسية استراتيجية لابد أن تشمل والتعليم والصحة والسياسة وكافة مناحي الحياة في الخدمة المدنية. وفي مقدمة تلك الإصلاحات يأتي باتخاذ تدابير موجهة نحو الاهتمام بالسياسة النقدية والمالية، وتخفيض الفائدة لفتح باب الاستثمار، مع إتباع سياسة صارمة تهدف للحد من التبذير وهدر المال العام على مستوى نفقات التسيير والاستثمار. أما على مستوى الموارد فينبغي الاهتمام بالموارد غير الجبائية، كما ويتوجب أيضا البحث عن وسائل ناجعة لتمويل العجز المالي على المستوى الداخلي أو الخارجي، وفقاً لتكلفة التمويل ومدته الزمنية.
وفي اعتقادي أنه لا ضير في أن تتم الاستعانة على حل الأزمات الاقتصادية بمساندة مهنية خارجية تساعد على اتساع الرؤية والشمولية والتخصص وتكامل المواجهة، إضافة إلى السرعة والدقة التي تميز أصحاب الخبرات الطويلة المتنوعة والمهارات والقدرات النادرة.
nazikelhashmi@hotmail.com