علي المهدي والتاريخ الشفاهي للمهدية: بقلم: فيرقس نيكول: ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
Ali al Mahdi's Oral History of the Mahdia
فيرقس نيكول Fergus Nicoll
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لغالب ما ورد في مقال للصحافي البريطاني فيرقس نيكول عن علي المهدي والتاريخ الشفاهي للمهدية، نشر في عام 2015م بالعدد الحادي والخمسين من مجلة دراسات السودان Sudan Studies.
عمل الدكتور نيكول مدرسا للغة الإنجليزية بثانويات شمال السودان في ثمانينات القرن الماضي، ثم عاد لبلاده للعمل بهيئة الإذاعة البريطانية ثم بالقسم الإنجليزي بقناة الجزيرة. ويعمل الآن بهيئة الإذاعة البريطانية مقدما لبرنامج Business Matters.
وللمؤلف رسالة دكتوراه من جامعة ريدنق استل منها كتابه عن "غلاديستون وغردون والسودان (1883 - 1885م"، وله كتاب بالإنجليزية عن المهدي وحياته، نشر بعنوان: " سيف النبي: مهدي السودان" عام 2009م مترجما بقلم عبد الواحد عبد الله يوسف، وكتاب عن "ببليوغرافيا المهدية" بلغات متعددة. وللكاتب الصحافي عدد من المقالات أهمها مقاله المعنون "دائرة المهدي: المال والمعتقد والسياسة في السودان"، والذي نُشر مترجما في عام 2015م.
المترجم
******* ******* ******** *******
كان علي المهدي واحدا من تسعة أبناء لمحمد أحمد عبد الله المهدي، قُتل أو مات منهم سبعة في المعارك أو معسكرات الاعتقال البريطانية. وأمه هي النعمة بنت الشيخ القرشي ود الزين، شيخ المهدي على الطريقة السمانية، التي كان مركزها في النيل الأزرق.
ويبدو أن علي كان قد ولد قبل أربعة إلى سبعة سنوات من مولد عبد الرحمن، أخيه الأكثر شهرة، والذي غدا لاحقا إماما لطائفة الأنصار، والشخصية الأكثر أهمية في غضون سنوات الحكم الثنائي. ولتاريخ ميلاد علي أهمية خاصة، لأنه من المتوقع عادة أن يرث الأخ الأكبر الزعامة الروحية والزمنية من والده.
وكان المؤرخ ريتشارد هيل قد سجل في قاموس شخصيات السودان الإنجليزي المصري أن علي المهدي قد ولد عام 1881م. غير أني توصلت بعد مراجعة دقيقة لشجرة عائلة المهدي في المصادر السودانية والبريطانية الأصلية أن علي المهدي قد ولد في عام 1878م. وكانت قائمة الموقعين على مذكرة "كرام المواطنين" في يونيو عام 1924م كانت قد أشارت لعبد الرحمن المهدي (وكانت شهرته ونجاحه في دنيا المال والأعمال قد ترسخت) بأن علي المهدي هو أكبر إخوانه الأحياء.
وكان صادق عوض بشير كاتب سيرة علي المهدي (في مؤلفه الصادر بأم درمان عام 2014م "المغفور له علي المهدي، 1886 – 1944م، المؤرخ والمربي والعارف بالله" قد جزم بأن الرجل قد ولد في عام 1886م، أي بعد أكثر من سبعة أشهر من وفاة أبيه. ورغم أن ذلك ممكن بيولوجيا، إلا أنه غير محتمل، إذ أن المهدي كان معتكفا في آخر شهر رمضان، وأعقب ذلك مرضه العاجل الأخير.
ولم يسمع شيء عن أبناء المهدي الصغار (والذين لم يكتب عنهم في خلال سنوات حكم الخليفة عبد الله أو عند مقاومة غزو كتشنر نسبة لصغر سنهم) إلا في أغسطس من عام 1899م. وكانت القوات البريطانية قد اعترضت ما كانت تؤمن بأنه محاولة تعبئة قوة مضادة لهم، وقتلت في مواجهة تلك القوة اثنين من إخوة علي هما البشرى والفاضل بعد محاكمة عسكرية ايجازية بتهمة التحريض على المقاومة. أما عبد الرحمن فقد كان قد أصيب بطلق ناري في كتفه، وكفله محمد طه شقيدي في جزيرة الفيل، ليس بعيدا عن الشكابة.
وأخذت القوات البريطانية كل من نجا من ذكور عائلة المهدي (ومنهم علي، الذي كان يبلغ من العمر 21 عاما) لسجن في وادي حلفا، أو في رشيد بدلتا مصر. وأصيب الكثيرون منهم بالسل وأمراض أخرى بسبب صعوبة حياة الأسر. وبينما وهن عظم علي، أصاب أخاه الأصغر نجاحا كبيرا في مختلف ضروب المال والأعمال، بدأها بتجارة الخشب، ثم بالزراعة وأخيرا بالقطن، وصاحب كل تلك النجاحات ظفره بزعامة روحية لطائفة كبيرة من الأنصار.
وأطلق سراح علي المهدي من سجن رشيد عام 1912م، بعد 13 عاما خلف القضبان. وخرج محطم النفس ومحبط الروح دون أن تكون له أي طموحات في هذه الحياة. ورفض تولي إمامة الأنصار، مؤثرا عليها وظيفة مترجم في خدمة حكومة السودان المدنية، والعيش في هدوء بعيدا عن الأضواء. وليثبت أنه يحمل أي مرارة أو حقد من جانبه على أخيه الأصغر، تقدم باستقالته من العمل الحكومي في 1926م ليعمل ضمن مجلس إدارة "دائرة المهدي"، ومديرا لمكتبها في أم درمان. وذكر لي مبارك عبد الله الفاضل المهدي (حفيد ابن المهدي الذي قُتل في الشكابة، وابن وكيل الدائرة) ما يلي في لقاء لي معه في 8/5/ 2013م، نقلا عن أبيه: "خرجنا من معركة كرري (في سبتمبر 1898م) ونحن نفتقد لأي أمل. كان هنالك ولدين للمهدي في عمر متقارب. إلا أن علي رأي أن أخاه أكثر قدرة منه وتنازل له. تصور لو لم يفعل ذلك، وحارب أخاه. أين سيكون الأنصار اليوم؟".
وعمل علي المهدي تحت رئاسة أخيه عبد الرحمن في الدائرة لثلاثة أعوام، ثم استقال ليتفرغ لجمع تاريخه الشفاهي. وكان يقيم في تلك الفترة في بيت كبير بأم درمان ملحق به مسجد صغير، يسمى الآن "دار الذكرى". وجمع علي المهدي مذكراته مستخدما طريقة بسيطة ولكنها فعالة. فقد كان يستدعي لأم درمان أي رجل يسمع أن له صلة ما بالمهدية أو المهدي (سواء أكان خادما أو محاربا الخ) على نفقته الخاصة. وعندما يبلغه الرجل، يطلب منه أولا القسم على المصحف ألا يحدثه إلا بكل أمانة وصدق، ثم يستجوبه لفترة طويلة، ويسجل بعد ذلك في مذكراته ما يدلي به محدثه.
ولا شك أن لتلك الطريقة عيوبا أهمها هو وجود المصادر التي يمكن الاعتماد عليها. وإذا افترضنا أن علي المهدي كان قد عمل على جمع شهادات الأنصار لعشرين عاما متصلة (منذ استقالته من العمل من "دائرة المهدي" إلى حين وفاته في أواخر عام 1944م) فلا بد أن عدد الشهود الذين قابلهم كان في تناقص مع مرور السنوات. ولنأخذ مثالا نظريا على ذلك: رجل في العشرين من عمره يسافر من المسلمية على النيل الأزرق إلى الجزيرة أبا على النيل الأبيض في يونيو 1881م (أي بُعَيْدَ إعلان محمد أحمد لمهديته). ولنفترض أنه ظل حيا طوال سنوات الجهاد والمجاعة ووباء الجدري في عهد الخليفة عبد الله، ونجا من مجازر الغزو البريطاني في النصف الثاني من تسعينيات القرن التاسع عشر، لابد أنن ذلك الرجل سيكون في الثمانين في عام 1941م (ذكر البروفيسور روبرت كرامر مؤلف كتاب "مدينة مقدسة على النيل: أم درمان في سنوات المهدية" أن بعض من استعان بهم في بحثه في منتصف الثمانينات ممن شهدوا سنوات في عهد المهدية كانوا فوق الثمانين، وكان معظمهم صحيح الذاكرة. المترجم).
ويجب ألا ننسى أيضا حقيقة أساسية لا يذكرها كثير من الناس وهي أن من قتلوا في معركة كرري وحدها كانوا نحو 11,000، وقتل أكثر من ذلك العدد في معارك أتبرا وتوشكي وأبو طليح وسنار وترنكيت وحول سواكن. وذكر علي مهدي أن من قتلوا في معارك صغيرة ضد الحاميات المصرية بلغوا نحو 350 في معركة ضد يوسف باشا الشلالي، و3,000 في الهجوم الكارثي الأول على الأبيض. ولا بد من أخذ كل تلك الأرقام بعين الاعتبار عند تقويم التاريخ الذي سجله علي المهدي.
ولم يعرف شيء عما سجله علي المهدي من مذكرات حتى منتصف الستينيات، حتى سُلمت لعبد الله محمد أحمد (ناظر مدرسة عمل نائبا برلمانيا عن حزب الأمة، ثم سفيرا في روما) ليقوم بتنقيحها وتحريرها. وكان العنوان الذي اُختير أولا لتلك الوثائق هو "الأقوال المروية في تاريخ المهدية"، وتم تغيير العنوان لاحقا إلى عنوان أكثر إثارة للجدل هو "جهاد في سبيل الله"، بقلم الصادق المهدي، والذي لم يساهم في الكتاب بشيء سوى كتابة مقدمة له. وتجد الكتاب الآن بهذا العنوان الأخير ونفس المؤلف في قوائم المطبوعات (الببليوغرافيات).
وتجد في هذا الكتاب عددا من الفصول، أولها يتناول نسب المهدي من جهة الآباء والأمهات كذلك، وثم يدلف إلى لقاءات المهدي مع سلطات الاحتلال في الخرطوم، بحسب ما جاء على ألسنة من يتذكر لقاء المهدي مع مبعوث الحكمدار، ويصف لأول مرة أسماء كل الشخصيات التي حضرت اللقاء:
"وصلت الباخرة التي كانت تقل محمد بيه أبو السعود ووفده في السابع من أغسطس عام 1881م. أرسوا الباخرة في مشرع العرديبة، حيث قابلهم السيد محمد أبو هدية، عم المهدي وعبد الرحمن محمود، وأحمد محمد خير ومحمد أحمد شيخ إدريس، وعبد الرحمن الحاج علي. وترجل أبو السعود من الباخرة وهو يرتدي قفطانا وحزاما من الكشمير وثوبا من الصوف الأبيض، ويضع طربوشا على رأسه. وسلم على مستقبليه الذين أخبروه بأن قاضي ومأمور الكوة قد وصلا إلى الجزيرة أبا لتوهما. ثم تحرك أبو السعود في رفقة 25 من حرسه إلى داخل الجزيرة لمقابلة المهدي".
ثم ذكر المؤلف في الفصل الثاني ببعض التفصيل ما حدث بعد معركة الجزيرة:
"وبعد أن راجع المهدي ما سيقوله لابي السعود انتصب واقفا خلف علم شيخ أمين. وتقدم جنود أبو السعود عبر الخور الجاف. وكان ضوء القمر يشع في المكان، مما أتاح للمهدي ورجالة رؤية تحركات جنود الحكومة الذين كان يتقدمهم النقيب إبراهيم. ولما شاهد النقيب أعلام الأنصار صاح في جنوده باللغة التركية أن استعدوا للقتال. غير أن أبو السعود طمأن النقيب بأن تلك الاعلام ترفرف في مقابر البلدة، إذ أنه كان قد رآها قبل أيام في زيارته السابقة للجزيرة لمقابلة المهدي ومحاولة إقناعه بالاستسلام. وكان ذلك تقديرا خاطئا كلف الجنود غاليا".
ثم ينتقل الكاتب إلى الهجرة إلى قدير، والمعارك ضد راشد بيه أيمن ويوسف باشا الشلالي، والمفاوضات مع قبائل جبال النوبة، وقتالهم عند الضرورة، والزحف نحو الأبيض، ثم حصارها، قبل الانتصار على حملة هكس باشا في شيكان. وتميز وصفه للمعارك في هذا الفصل بكثير من الإثارة، وقليل من العواطف، ولكن لم تكن فيه أي نظرات أو رؤى نافذة جديدة.
أما الفصل الثالث فقد انتقل بسرعة إلى مرحلة الجهاد بمناطق الجزيرة، والاستيلاء على حامية أم درمان، وسقوط الخرطوم نفسها، ومقتل غردون. والتزم علي المهدي في روايته لمقتل غردون ذات الرواية التقليدية التي تفيد بأن المهدي كان قد أمر أنصاره صراحة بالحرص على الإبقاء على حياة كبار رجال الخرطوم، ومنهم غردون:
(وقال لهم: "أما بالنسبة لغردون يا أيها الإخوان، فلا تقتلوه، ولكن أبقوا على حياته وأحضروه أمامي. فالرجل عظيم القدر عند قومه، ففي الإبقاء على حياته خير وبركة عظيمة لنا. أريد أن أرجعه لبلاده مقابل رجلين عظيمين هما الزبير وعرابي. ولعظم قدر عند قومه فهم على استعدا لمبادلته بعشرين رجلا". وقال لهم أيضا: "لا بد من أن نحارب من خنادقنا حتى ندخل المدينة. ولكن لا يجب أن نقتل من يرفع راية الاستسلام". وحدد المهدي أسماء رجال يجب عدم قتلهم منهم: فرج باشا الزيني، القائد العام؛ والشيخ الأعمى كبير القضاة؛ والشيخ الأمين الضرير، شيخ الإسلام؛ وأحمد بيه علي جلاب، مدير الخرطوم؛ وسيد حسين مجدي؛ والشيخ الفارسي محمد الخرساني؛ والشيخ السقا؛ والسنجك محمد قرضية وولده أحمد؛ والشيخ سليمان الضراوي؛ والشامي محمد طه الشامي ... وأعاد الإمام المهدي تحذيره فقل لهم مرة أخرى: "لا يجب أن تقتلوا غردون، حتى إن قتل مئة من رجالكم".
وأنتقل الكاتب بعد نجاح فتح الخرطوم إلى فصول قصيرة جدا. وعرض في الفصل الرابع لخطط المهدي الأولى للتحرك نحو مصر، والبدء في ذلك بإرسال خطابات تحذير إلى الخديوي توفيق وإلى كافة المصريين، إلى أن وصل لوفاة المهدي المفاجئة، وتولي الخليفة مقاليد الأمور. أما في الفصل الخامس فقد تناول المؤلف ما قام به الخليفة في بدء عهده من تحركات لتثبيت أركان حكمه، وحملته العسكرية ضد الأحباش. وجاء في ذلك الفصل التالي:
" بعد اليوم الثالث لوفاة المهدي، قام الخليفة بجمع كبار أعضاء عائلة المهدي في غرفة صلاة الإمام. وكان جمع العائلة يضم أحمد شرفي، وأحمد عبد القادر، وسيد محمد صالح، وسيد أحمد عبد الكريم، وأحمد سليمان، وعثمان الناير، وشيخ طه، وسيد حاج محمد شريف. وأمر الخليفة بإغلاق كل الأبواب، ثم خاطبهم قائلا: "المهدي عليه السلام توفي لرحمة مولاه. لكني الآن أسألكم أن تقفوا معي كما كنتم تقفون معه من قبل. أتمنى ألا يفارق أحد منكم مجلسي، إذ أنني أخشى من (كيد) النمامين. كلكم يعرف الخليفة علي ود حلو هنا – وتعرفوا كم هو مخلص لي. وتعرفون الخليفة شريف، فهو واحد منكم، الأشراف. أنا آمركم الآن أن تتصرفوا معي كما يفعل الخليفة علي. ولا تفارقوني أبدا تحت أي ظرف. إن جلست فأجلسوا، وإن ركبت فأركبوا معي. وأنتم تفعلون ذلك أخبروا الأشراف (الآخرين) أن يقلدوكم وأن يتبعوني، فأنتم قدوتهم ومثالهم، حتى لأبناء المهدي أنفسهم".
ويعطينا الفصل السادس والسابع وصفا بديعا عن السياسات الداخلية لأوتوقراطية الخليفة الجديدة، ويشمل ذلك العزل والنفي ومختلف أنواع العقاب لأي فرد أو جماعة يُشك في أنها قد تنافس الخليفة، خاصة في كردفان ودارفور. أما الفصل الثامن ففيه العديد من المعلومات الهامة عن المفاوضات التي جرت بين الدولة المهدية ومصر، وجاء فيه أن محمد السر الختم (أكبر أبناء محمد عثمان الميرغني) المنفي في مصر، نصب نفسه وسيطا ومتحدثا إنابة عن الخديوي توفيق. وأورد علي المهدي قائمة بالشروط نقلها محمد السر الختم إلى الخليفة عبد الله، رغم أن علي المهدي أقر بأنه لم يعثر: "على أي مراسلات أو نسخة من المطالبات التي قدمت للخليفة، رغم أني تأكدت من وجود بعضها". وكان من ضمن شروط الجانب المصري:
1. أن تكون الحدود بيننا هي خور موسى باشا، جنوب وداي حلفا.
2. من أجل عودة التجارة بصورة فعالة، ينبغي تبادل البضائع التي تُرسل وتُستقبل عبر القوافل التجارية.
3. يجب على المهدية أن تطلق سراح جميع المساجين عندها، ويشمل ذلك المسيحيين.
4. يجب أن تفتح المهدية الطريق لمن يرغب في السفر لمكة المكرمة لأداء فريضة الحج
5. لا بد من عقد اتفاقية دفاعية بيننا، حتى نمدكم بالرجال عندما تحتاجونهم، وأن تفعلوا ذات الشيء إن كان ذلك ضروريا.
ورفض مجلس الخليفة عرض الصلح، ولكنه وافق على إرسال وفد لمصر – رغم الشكوك في كفاءتهم الفكرية للدخول في نقاش وحوار مع علماء مصر المشهورين بالمراوغة والمكر-
ولا يخلو هذا الجزء من الفصل الثامن من طرافة وتفصيل شديد لرحلة وفد المهدية إلى أسوان، حيث أصر الضابط الإنجليزي هناك على ضرورة أن يستبدل أعضاء الوفد ملابسهم (التقليدية) بملابس أكثر مناسبةً قبل التوجه للقاهرة. غير أن أعضاء الوفد رفضوا جميعا استبدال جببهم المرقعة، مما أدخل الضابط البريطاني في حرج شديد للسماح لهم بمواصلة السفر إلى القاهرة وهم بملابسهم تلك. وأضاف الكاتب:
"وأطلق الضابط البريطاني سراحهم، فمضوا في طريقهم للجيزة دون أن يعترضهم أحد. وهنالك وجدوا سيارة تنتظرهم لتقلهم إلى وزارة الحربية. وهنالك طلب منهم السردار قرينفيل باشا تسليمه الرسائل التي كانوا يحملونها للخديوي، ولكنهم رفضوا تسليمها للرجل لأنهم اؤْمُروا بتسليمها للخديوي شخصيا. ووعدهم السردار بأنهم سيقابلونه عند التاسعة من صباح اليوم التالي.
وفي الصباح أخذ الوفد لمكتب الخديوي الإداري، حيث أمروا بترك سيوفهم وحرابهم، ثم نقلوا لقصر عابدين، حيث وجدوا في طابقه الأول عددا من العلماء المصريين والباشوات والوزراء وكبار الشخصيات، كان منهم السيد محمد سر الختم. وحاول السيد محمد سر الختم أيضا أن يتسلم من الوفد ما كان يحمله من رسائل، ولكنهم أبوا ذاك. ثم أخذوا للطابق الثالث لمقابلة الخديوي، وكان يجلس على أريكة باذخة الفخامة. كان الخديوي رجلا ملتحيا شديد الوسامة، وكان جالسا تحيط بعرشه ثلة من الحراس. وقام أمير الوفد بتسليم الخديوي رسائل الخليفة، ونسخ من "الراتب" وكل كتابات المهدي الأصلية ومنشوراته. ثم حيوه وانصرفوا. ولما عادوا للطابق الأول سلموا الضابط المرافق لهم رسالة خاصة إلى الملكة فيكتوريا. وبدوره سلم الضابط الرسالة إلى اللورد كرومر، والذي أخذها ولم يفتح فمه بغير كلمتي: "طاب مساءكم"، وعاد إلى الطابق العلوي".
وكان الفصل التاسع قصيرا جدا، وصف فيه الكاتب العقبات الكبيرة التي واجهت الخليفة في إسكان الأعداد الكبيرة من التعايشة القادمين من الغرب لحماية ودعم سلطة الخليفة. أما الفصل العاشر فكان مخصصا للصراع المحتوم بين الخليفة والأشراف. وكان ذلك الفصل طويلا وشديد التفصيل وأكثر فصول الكتاب دقة، ولم يكن يتأتى للكاتب أن يؤلفه إن لم يكن قد سمع فعلا من رجال شهدوا تلك الأحداث عن قرب. ويتميز الفصل أيضا بأن ما جاء فيه كان شديد الحياد، ولا يحمل أي أثر لضغينة أو مرارة من الكاتب تجاه الأشراف، بل كان يركز على القلق الذي ساور الشخصيات التي وجدت نفسها متورطة في وسط ذلك الصراع، وهي تحس بالأسى لرؤية تراث المهدي يتم تقويضه بسبب شقاق داخلي بين فصيلين (في الجماعة الحاكمة). غير أن "حل عقدة الرواية denouement" أتى في وصف الكاتب لمحاكمة اثنين من كبار رجالات الأشراف:
"كانت هيئة المحلفين برئاسة القاضي أحمد علي، ومعه عبد القادر أم مريوم، وسيد المكي، وطه ود الجعلي، وعبد القادر ود حاج الماحي، والقاضي الهادي الحلاوي. وتم استدعاء (المتهمين) عبد القادر ساتي علي وعلي محمود عبد الكريم. وذكر لهما القاضي أحمد علي بأنه تمت إدانتهما بإثارة الفتنة بين خليفة المهدي والخليفة شريف، وأنه تقرر الحكم عليهما بالإعدام مع عدد من الذين تأمروا معهما (أحمد ود سليمان، وسعيد محمد فرح، ومعاونهما أحمد نور).
بدا عبد القادر ساتي قابلا بمصيره، غير أن علي محمود عبد الكريم حاول الدفاع عن نفسه، ولكن سرعان ما أسكته القاضي أحمد علي بالقول بأن الأمر قد قضي، وليس هنالك أي مجال للكلام حوله. أُخذ الرجلان للسجن، حيث قضيا ثلاثة أيام فيه قبل أن ينقلا على ظهر باخرة إلى الأمير الزاكي طمل في فشودة على ظهر باخرة، وأرسل معها خطاب من خليفة المهدي للأمير لتنفيذ أمر الإعدام. وصادف أن قابل الأمير الزاكي باخرة الرجلين في الجبلين وهو في طريقة لأم درمان. وفي الجبلين تم تسليمه أمر الإعدام.
وعوضا عن تنفيذ الأمر أمام جنوده، أجل الزاكي طمل إعدامهما إلى الليل، وأمر الأمير عبد الله إبراهيم بتنفيذ الإعدام. غير أن الأمير عبد الله رفض التنفيذ قائلا: "ليس هنالك رجل صالح يوافق على قرار يقضي بإعدام رجال يقربون للإمام المهدي. من الخير لك أن تأمر بذلك مجموعة من العبيد السود الأشداء الذين لا يعرفون شيئا عن فضائل الرجلين". وافق الأمير الزاكي على ذلك، ولكنه اختار جنديا يقال له كافي، وطلب منه أن يستعين بأي عدد من "الجهادية" ليأخذوا الرجلين لخارج المدينة بعد صلاة العشاء، وأن يقتلاهما ضربا بالعصي". (ومن غرائب الأقدار أن الأمير الزاكي نفسه حبس بسجن الساير، وقضى فيه نحو ثلاثة أشهر قبل صدور نبأ وفاته. ويقال إنه تم حبسه في مكان مظلم ومنع عنه الطعام والشراب لمدة طويلة (ليموت صبرا)، وذلك بأمر من القاضي أحمد الذي كان حاقدا عليه كما تذهب بعض الروايات. غير أن عون الشريف ذكر إن الزاكي قتل رجماً بالحجارة في 1892م. المترجم).
وعقب نهاية الفصل بتلك القصة الدرامية، أختتم الكاتب مؤلفه بعجلة لا تخفى، وكانت النهاية تحمل الكثير من خيبة الأمل (anti - climax). ففي الفصل الحادي عشر يعود الكاتب ليصف كيف أن المهدية انتشرت وترسخت في منطقة جبال البحر الأحمر، وسجل بطريقة مطولة ومملة تاريخ المعارك التي دارت هنالك بطريقة تقريرية لا روح فيها.
وجاء الفصل الأخير (رقم 12) أيضا شديد القصر، وفيه وصف الكاتب كيف أن جيش الخليفة ظل يتلقى، مرة بعد مرة، الهزيمة من جيش كتشنر الغازي وهو يتقدم دون هوادة. وكانت قوات الخليفة تعاني ضعفا شديدا بسبب الأمراض وقلة التموين وضعف الأسلحة، إضافة للانقسامات السياسية الداخلية. وأورد الكاتب رواية قد تكون مختلفة قليلا عن الرواية الشائعة عن خلاف نشب بين الخليفة عبد الله والأمير عثمان دقنة في الليلة الكارثية التي سبقت معركة كرري، ونصيحة عثمان دقنة للخليفة للقيام بالهجوم ليلا على معسكر الجيش الغازي:
"أبصر كتشنر من خلال منظاره المقرب في ظهيرة الأول من سبتمبر 1898م جنود الخليفة وهم يتقدمون من الجزء الغربي من أم درمان. كان كتشنر يخشى من هجوم ليلي يقوم به جيش الخليفة، لذا أرسل جواسيسه لبث إشاعة مفادها أن كتشنر نفسه يعتزم القيام بهجوم ليلي على جيش الخليفة. وكان أولئك يقولون للمحاربين بأنه لا داعي لاتخاذ قرار متعجل، ولا حاجة للاستعجال في بدء القتال، فمن الأفضل أن ننتظر في خنادقنا، وأن نهزم العدو على أرضنا. ويبدو أن مجهودات ذلك الطابور الخامس قد أتت أكلها، فقد تزايدت أعداد الذين يؤثرون القتال في الصباح والنهار. لذا ترك الخليفة فكرة الهجوم ليلا على الجيش الغازي، وأمر ببدء القتال في صبيحة اليوم التالي".
وختم المؤلف كتابه بفقرة وصفت نهاية المهدية بعبارة مناسبة هي "مرحبا بالشهادة". ووصف الكاتب وضعية جيش الخليفة الذي كان يبلغ تعداده 52,000 من المشاة والفرسان، وكتب عن النتيجة المحزنة:
"وتقدم الجيشان نحو بعضهما في الوادي الذي يحيط بقرية "العجيجة"، بين كرري وتلال صرغام. وعند الساعة 6 45 من صباح الثاني من سبتمبر، كانت الساحة قد امتلأت بجنود الأنصار وراياتهم العالية ترفرف عاليا، وهم يهتفون بالتكبير. وأنتظرهم جنود العدو إلى أن صاروا في مرمى نيرانهم، ثم صبوا عليهم نيران مدافعهم فقتلوا منهم أعدادا مهولة. غير أنهم لم يأبهوا وظلوا يتقدمون ونيران المدافع تحصدهم حصدا حتى بلغت الساعة الثانية بعد الظهر، حين اؤمروا بإعادة التنظيم والتجمع. وانسحبوا عائدين إلى أم درمان، وخلفوا ورائهم 27,000 من رفاقهم سقطوا، استشهد منهم 11,000 رجلا، وجُرح الباقون. وكان من ضمن الشهداء السيد محمد المهدي، والأمراء يعقوب وإبراهيم خليل وعثمان أزرق. وزعم العدو أنه فقد 48 جنديا فحسب، وأصيب 382 من رجاله بجروح. ويعود ذلك لتفوق سلاحهم وكفاية مؤونتهم، وحسن تدريبهم. ولولا ذلك لنالوا على أيدينا الهزيمة".
____ _________ __
لا بد في سبيل تقويم مساهمة علي المهدي في فهم أوسع لتلك الفترة، أن نقر أولا بخيبة أمل في بعض الأمور. فهذا التاريخ الشفاهي لا يعدو أن يكون مجرد أوصاف شهود عيان لأحداث رتبها المؤلف ترتيبا زمنيا، أكثر منه بيانا أيديولوجيا. ويمكن القول بأن تاريخ علي المهدي يقل كثيرا عن مستوى ما كتبه إسماعيل عبد القادر الكردفاني من تاريخ غير ناقد من رجل أنصاري، وما كتبه هولت من تاريخ موضوعي تحليلي مدعوم بالوثائق. فليس في الكتاب تفسير لبروز وتطور محمد أحمد كزعيم ديني، أو نشوء ونمو مجتمع الأنصار الباكر في الجزيرة أبا قبيل إعلانه عن مهديته. ولم يتعرض الكاتب للآثار الاجتماعية لتجمع القبائل بجبل قدير في جبال النوبة، أو دمج كل تلك القبائل تحت سلطة جديدة في الأبيض.
غير أن للكتاب مزايا لا تخفى، ففيه قدر كبير من شعور قوي بالمباشرة والفورية (immediacy) ووصف حي، والكثير من النظرات الثاقبة الجديدة. وقدم الكاتب أيضا الكثير من الإضافات المهمة لما أورده آخرون عن تلك الفترة. وأعتقد أنه قد حان الوقت لإخراج نسخة جديدة من هذا الكتاب، الذي يجب أن ينسب كليا لكاتبه الحقيقي (علي المهدي). وسيكون من المفيد أن يترجم للغة الإنجليزية ليطلع غير السودانيين على نصوص مهملة ولكنها عظيمة القيمة.
alibadreldin@hotmail.com
///////////////