كانت لشعبنا حتى زمن قريب من المرونة والحكمة الأهلية ما سهل له امتصاص كثير من الصدمات إلا أنه الان أصبح حائرا نتيجة الانهيار الكامل لبنية الهرم السياسي والإداري، بل التآمر الذي استهدف كينونته وكيانه. إن التعقيدات التي شابت آلية الحكم الحديث ومتطلبات الحكمة الرشيدة ما عادت تتقبل فكرة الهرمية العرقية أو التراتيبية القبلية (كنقطة محورية في مشروعية التنمية المستدامة)، ولذا فلا بد من توفر منصة لتداول الرأي تفوّت على العصابة الحاكمة والمعارضة الحائرة فرصة الاستقطاب الاثني والأيديولوجي وتمنح فرصة لتخطيط مستقبلي مبنى على أسس منهجية وعلمية. لا أن نكتفي بتداول صنف السجالات التي دارت مؤخراً في شأن "وادي الزرق" بين فئتين من قبيلتين عريقتين هما قبيلتي الرزيقات والزغاوة، وقد قصدت إدراجها كواقعة دون أدنى مسعى مني لتقصي حقائق موضوعية، إنما ذكرها فقط كتوطئة لعرض الإطار المفاهيمي الذي يمكن أن تستخلص منه إشارات علمية.
في غياب التنشئة الاجتماعية والسياسية التي تربط الهوية القبلية بملكية الأراضي فإن امر الأمن والاستقرار في دارفور قد يصبح أمراً بعيد المنال (خاصة اذا علمنا بأن البشر قد زاد عددهم منذ الاستقلال وحتى الان بنسبة أربعة أضعاف كما ازداد عدد بهائمهم بنسبة عشرة أضعاف، ولذا فهم يزدحمون في ثلث الأرض فيما يظل ثلثاها غير مأهولين نسبة لغياب الافق التنموي وانعدام الرشد السياسي). عليه فإن استحداث سياسة تعليمية وتربوية متوازنة كنقطة محورية لمشروع الاحكام (وليس التحكم الذي سعت إليه النخب المركزية) من شأنه أن يكسب الهوية الدارفورية مرونة ويستعيد تدريجياً الديناميات التاريخية لملكية الأرض. إذ أن التلاعب بملكية الأراضي قد سيس الهوية واكسبها تلقائيا صفة العرقية عوض عن الافق الثقافي والاجتماعي الذي اندغمت تحته لقرون خلت، من ناحية أخرى فإن تدوين القانون العرفي قد يعني فقدان المرونة اللازمة لتلبية الاحتياجات الملحة لبعض القبائل التي كانت عرضه لتغيرات إيكولوجية وسكانية عميقة.
رغم التصحر الذي أصاب 30 في المائة من الأراضي، فإن مساحة دارفور تظل كافية لتشمل كافة الأنشطة الرعوية والزراعية (شون اوفاهي في حديث خاص). عوض عن السعي دأباً لاستحداث بنية تحتية واستنظار آفاق تنموية، فإن النخب المركزية (التي لم تنشئ التهميش لكنها عمدت على تكثيفه) قد استغلت الفراغ السياسي والإداري لفرض وصايتها على دارفور (إن الانتقال من مستوى الرابطة القبلية إلى مستوى الرابطة المدنية لم يكن أمرا مستحيلا لولا شح الامكانيات المادية والمعنوية). إن نظام الانقاذ لم يدخر جهدا لطمس تراث دارفور (وتراث السودان عموما) باستخدام أدوات مرنة واخرى صلبة. شملت الأدوات المرنة ترتيبات إدارية ظلت تهدف إلى تفتيت المجتمع الدارفوري عمدا وتحجيم قدرته على ترسيخ هوية مشتركة، مثل التعداد السكاني، المسرحية الانتخابية، خلخلة النظام الاتحادي، مظهرية النظام الفدرالي، واستقطاب لاعبين صوريين غير أساسيين. أما الأدوات الصلبة فتشمل الجهد النشط لقتل أهل الدار (السكان الأصليين في دارفور) واعتماد أساليب خفية غير مرئية لإبادة العرب (بإغراء بعضهم بقتل بعض).
إن الاقتتال الذي نراه اليوم في الريف السوداني وحرب الإبادة التي تستخدم الدولة فيها عناصر محلية لتأزيم الموقف، حدث نتيجة الفكر الأحادي والفاشية التي لم تجد بدا من استخدام العنف وسيلة لإحداث انصهار يخفي معالم المظلوم ويبدد حجته عبر الأيام (%58 من أرض السودان أعُلنت ساحة حرب اليوم). فقد اختلقت الدولة العنصرية فراغاً دستورياً في دارفور هيأ لها فرصة إسناد نظارات وإمارات لشخصيات لا تملك أدنى المقومات، واشتقاق إدارات غير معروفة المعالم، بل هي وهمية في أكثر الاحايين يتوخى منها تقنين العصبية وليس تذويبها. لا سيما أن العصابة قد عمدت على توزيع حواكير دون الرجوع إلى الأعراف أو الاعتماد على رأي الاجاويد. كان من الممكن تطوير النظم الأهلية لتستوعب المفاهيم الحديثة للتنمية والحداثية للمواطنة والإنسانية للإخاء إلا ان النخب المركزية (الانقاذية منها خاصة) ضربت بالموروث عرض الحائط، بل عمدت على إسقاط فهم ايديولوجي يلائم نظرتها للحكمة/للفتنة التي يجب ان تسود. كأن يقول قائلهم "الأرض أرض الله"! يجب ان لا تلتبس مثل هذه الحجج السخيفة التي لا تراعي حرمة لله قدر ما تسعى لمصادرة حق البشر في التشريع بحجية (الأرض حاكورة الدولة) التي ركزت على دور الدولة في اتخاذ سبل ناجعة لتدبير شؤون العباد (عباد الله) وصيانة حقهم بشرعة ألزم الله بها نفسه قبل خلقه (يا عبادي اني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرما بينكم).
لعل تاريخ الصراعات السياسية/القبلية في السودان يشير إلى محنة حقيقية وهي أن هناك نخباً تصدرت العمل السياسي/القبلي، بل كادت تستحوذ عليه دون استحقاق غير أنها تنقاد لرعيتها ولا تسع لقيادتها. فالقائد سمّي قائدا لأنه يجنب قومه الويلات ويجلب لهم الخيرات في الظرف الممكن وبالعقلانية اللازمة. لقد هالني تداعي "المتعلمين" من أبناء القبيلتين – الرزيقات والزغاوة – للتشاجر في شأن "وادي الزرق" تحت يافطات قبلية لمناشدة مجتمع خامل أصابه اليأس بسبب الاستقطاب، ونخبة فاشلة اقتصرت جهودها النهضوية على تبادل رسائل واتسبية، يمكن أن تجمل خصائصها في قوله (صلى الله عليه وسلم): شح مطاع وهوى متبع واعجاب المرء بنفسه. ليس اشحَّ من رجل حباه الله علما فوظفه في الشر أو لم يوظفه في الخير كما قال فضيلة مولانا الشعراوي طيب الله ثراه. وقد كان الأحرى ان يتنادى الناشطون المدنيون أو المهندسون أو علماء الاجتماع من القبيلتين أو من أهل دارفور أو أهل السودان للتفاكر في أسباب النزاع لا ان يتحاموا فيكونون أسرى لحمية جاهلية وسمها المعصوم بأنها نتنة.
إن دولة الإنقاذ دولة عاجزة وفاشلة، عاجزة لأنها لا تملك سلطة أخلاقية تمارس بها القوة الشرعية وفاشلة لأنها لا تملك الآلية التي تصون بها دماء "السودانيين" (وقد وضعتها بين قوسين لأن التنظيم العالمي لا يعطي أولوية للوطن ولا أحقية للإنسان)، الذين يوم ان صينت كرامتهم وبُصرت وجهتهم كانوا معولاً لبناء حضارة سبق أن شيدوها سامقة في الأندلس ومن قبلها علي ضفتي النيل. إن العصابة الحاكمة – بما فيها جموع "الغرابة" المردوفين – تريد أن توهم المراقبين والمشاغبين على السواء ان أهلنا عديمي القيمة وأنهم أوباش لا يحسنون العيش بل الاحتراب (كأن يحاول أحدهم التظاهر بالسذاجة فيقول بلطفه المعهود مقلباً يديه الناعمتين "انتو يا أخوانا المشكلة شنو؟")، ونحن نقول له ولجيوش البغي كافة افٍ لكم ولما تروجون له من إفك تدحضه وقائع التاريخ البسيط الذي سجل عقوداً حكمها أهلنا دون أن تقوم فيها حرابة واحدة ما عدا بعض التحرشات، بإمكانيات أقل وتكلفة زهيدة لا تتجاوز في مجملها السنوي راتب وزير ولائي في شهر. وانا أتساءل، بل استخف من فلسفتهم في "تقصير الظل الإداري": ما الذي يملك أن يفعله الوزير أو نائب الرئيس في مثل هذه الفوضى ولو كان في قدر مهاتير ونباهة بنازير؟