عرض لكتاب غريس ماري براون “الخرطوم بالليل: الأزياء وسياسات الجسد في السودان إبان عهد الاستعمار” .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

Khartoum at Night: Fashion and Body Politics in Imperial Sudan by Marie Grace Brown
كارولين فلور – لوبان Carolyn Fluehr – Loban
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لعرض كتاب صدر من "دار نشر جامعة ستانفورد" عام 2017م بعنوان: "الخرطوم بالليل: الأزياء وسياسات الجسد في السودان إبان عهد الاستعمار"، من تأليف الدكتورة الأمريكية غريس ماري براون، التي تحصلت على درجة الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا في التاريخ الثقافي للشرق الأوسط الحديث عام 2012م، وتعمل الآن أستاذة مساعدة بجامعة كنساس.
نشر العرض عام 2018 في العدد الحادي والخمسين من المجلة العالمية للدراسات التاريخية الإفريقية (IJAHS).
أما كاتبة العرض (كارولاين فلور - لوبان) فهي أستاذة فخرية لمادة الأنثروبولوجي في كلية روود ايلاند الأمريكية. وهي أيضا مختصة بالشأن السوداني (حيث شاركت في تأليف قاموس تاريخي عن السودان، ونشرت عددا من الكتب والمقالات عن قوانين الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها فيه.
المترجم
******* ****** ***** *****
لقد لفت نظري عنوان هذا الكتاب المُسْتَفِز المثير إذ أنني ظللت أعمل في مجال دراسات المجتمع السوداني لما يزيد على الأربعين عام، وكنت شخصيا ألحْظْ دوما أن الحياة ليلا بالخرطوم أكثر انفتاحا وأقل صرامة من تلك الثقافة المقيدة والمتحفظة والجادة التي تسود الحياة نهارا. غير أني سرعان ما اكتشفت أن "الخرطوم بالليل" هو اسم ثوب نسائي كان مشهورا عند النساء المسلمات في السودان الشمالي في خمسينيات القرن الماضي، عندما كان السودانيون يستشرفون بدايات جديدة مع بدء عهد الاستقلال، تشمل أدوارا جديدة تشارك بها المرأة السودانية في الحياة العامة.
تنظر المؤلفة في كتابها هذا لازدياد اقتحام المرأة السودانية للحياة المجتمعية في البلاد بمنظار "عرضها لذاتها في الحياة اليومية". ولا يزال الثوب (المهني) الأبيض إلى اليوم هو الثوب الذي ترتديه النساء السودانيات نهارا في الحياة العامة، وهو يختلف كليا عن تلك الثياب الجريئة الملونة التي يرتدينها ليلا في حفلات الأعراس والمناسبات الاجتماعية الأخرى، وحتى في المناسبات التي تنظمها الحكومة.
وبذا قامت المؤرخة الثقافية براون في هذا الكتاب بتطوير التحليل الذي قدمته من قبل عالمة الأنثروبولوجيا جانيس بودي، التي كانت كتاباتها تدور حول موضوع "أجساد النساء" بحسبانها رمزا للأحوال السياسية والتكيفات الثقافية لعهدي الاستعمار والاستقلال (انظر المقال المترجم عن كتاب بودي "تمدين النساء: جهود البريطانيين في السودان في عهد الاستعمار". المترجم).
ورغم أن الثوب كان قد أدخل في نهايات القرن الثامن عشر (ذكر لي خبير بأن هنالك إشارات بكتاب "طبقات ود ضيف الله" بوجوده قبل ذلك بكثير، منذ القرن السادس عشر. المترجم). إلا أنه كان يصنع في وسط السودان من مواد شديدة الغلاظة (تسمى قماش الدامر Damer cloth) لونها أزرق غامق (لعل المقصود هو ثوب الزراق. المترجم). وكان يطلق على القماش الأكثر نعومة "بياض البوستة Post Office White"، ربما ربطا له بالسيطرة والاثارة والانفعال الذي يحدثه إرسال الخطابات والبرقيات إلى كافة العالم من مكتب البريد بالخرطوم، والذي لا يزال قائما إلى يومنا هذا بمبناه الكبير المهيب. ولنا (أنا وزوجي) ذكريات دراماتيكية عن ذلك المبنى حيث أرسلنا منه برقية لوالدينا نطمئنهم فيها بوصولنا بسلام في ذات اليوم من صيف عام 1971م الذي كانت تجري فيه عمليات عسكرية تتعلق بانقلاب وانقلاب مضاد (الكاتبة متزوجة من ريتشارد لوبان عالم الأنثروبولوجيا والمتخصص في النوبيين بالسودان. المترجم).
وتناولت المؤلفة في كتابها بالتحليل الأهمية الرمزية للثوب الأبيض وطرحة الرأس التي كان الاستعمار البريطاني قد منع ارتدائها في الفصول الدراسية. وربطت – وهي محقة - بين ذلك وبين تحريم ختان البنات (الذي يسمى في الغرب "تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية") في عام 1945م، والذي ثبت أنه كان مشروعا فاشلا لارتباطه بمحاولة التمدين الاستعمارية. وفي نهاية الأربعينيات صار الثوب هو الزي الوطني والقومي للنساء الحديثات، وصار من المعتاد رؤية المرأة وهي مرتدية للثوب وتتحرك ليلا دون قيود ما دام كان جسدها مغطيا.
بالطبع كان لإدخال الاستعمار تعليما نظاميا للقابلات – عبر جهود الأختين مودي وقيرترود وولف -قيمة حقيقية عظيمة، إذ أن ذلك التعليم كان قد غير جذريا ممارسات التوليد، وأنقذ حياة الكثير من الأمهات والمواليد. ويلغ من تأثير ذلك المشروع التعليمي كبيرا جدا للحد الذي صارت فيه القابلات التقليديات (الدايات) يظهرن شخصياتهن / ذواتهن المهنية عن طريق ارتدائهن للثياب البيضاء.
وأهتمت المؤلفة بالدور التاريخي والريادي للحركة النسوية السودانية التي قادتها جيل شابات الأربعينيات اللواتي تلقين تعليما حديثا، وعلى رأسهن فاطمة أحمد إبراهيم. وأهتمت كذلك بقيام الاتحاد النسائي السوداني ومجلته "صوت المرأة"، التي وضعت أسس وأجندة الحركة النسوية المحلية. وكانت المؤلفة تنظر لهؤلاء النسوة بحسبانهن رائدات ثقافيات أكثر من كونهن في حركة سياسية كانت نسوية feminist ووطنية أيضا. وبالنسبة لتلك الجماعة الإسلامية الإصلاحية (الاخوان الجمهوريين) كانت الاخوات الجمهوريات يقمن بنشاط دعوي لحركتهن وهن محميات بلبس الثوب الأبيض، الذي يكسبهن احتراما وسط الناس.
ومصداقا لتحليل المؤلفة للثوب السوداني بحسبانه انعكاسا لحوادث سياسية وثقافية أكبر، ظهر ثوب في الأسواق في عام 2008م عندما اتهمت المحكمة الجنائية الدولية الرئيس عمر أحمد البشير بارتكاب جرائم حرب في دارفور، وسمى ذلك الثوب الجديد "اوكامبو"، على اسم مدعي تلك المحكمة. وإن صحت هذه الرواية، فيمكن القول بأن الثوب هنا قد اتخذ له دورا مخربا subversive ومضادا للثقافة counter - cultural. وهنالك ثوب آخر اشتهر في دارفور خاصة، وتمت سميته "زنقة زنقة" عام 2011م، وهو مأخوذ من الأغنية الشعبية الليبية التي تمجد الانتفاضة الليبية ضد القذافي، وتذكر مقولته الشهيرة التي تضمنت تهديده بالبحث عن المحتجين في كل مكان (زنقة زنقة). وعند انفصال جنوب السودان من شماله في عام 2011م بعد عقود من الحرب الأهلية واتفاقيات السلام الفاشلة ظهر ثوب سمى "الانفصال" وصار هو "موضة" ذلك العام. ومما يلفت النظر أن النساء الجنوبيات تحاشين تماما ارتداء ذلك الثوب.

alibadreldin@hotmail.com

 

 

آراء