نعم كان من الممكن الوصول إلى مخرج من الأزمة المستحكمة بكلفة أقل في وقت أقصر. لكن العقلية القابضة المستبدة بكل شيء تضاعف الكلفة وتمطط الزمن. لذلك واهم كل من يراهن على بلوغ حل سياسي جذري مع من هم داخل قمرة النظام.. خيارات الحلول السلمية تنتجها عقلية منفتحة على الوطن ليست منغلقة داخل الحزب، معنية بالشعب لا الأقربين أوالمقربين، عقلية مهجوسة بالمصلحة العليا لا المكاسب الذاتية.
عقلية النظام نبتت وتنمو في تربة الإستئثار والإقصاء. هي تربة مشرّبة بالعنف. على الرغم من قناعة علي عثمان بأن لكل نظام أجل محتوم كما أفصح عن ذلك إبان زيارة نادرة إلى القاهرة إلا أن علياً مثل أخوانه مصابون كأخوة يوسف بالأنانية المفرطة والكيد القاتل. تلك هي الرذيلة حيث يستحيل على الوالغين فيها الفرز بين هيبة الدولة واستبداد النظام حد البطش بالشعب. ما من دولة عصرية تمارس عقوبة الجلد على شباب وطنها في زمن لم يعد جلد التلاميذ داخل المدارس ممارسة يغض عنها الطرف.
أجل النظام يمسي أمراً محتوماً عندما يبلغ النظام طور الشيخوخة. عندها لا يصبح النظام غير قادر فقط على تجديد خلاياه بل عاجزاً كذلك على أداء وظائفه. في مثل هذه المرحلة لن يستطيع النظام مواكبة تطلعات الجماهير. جميع شرايين النظام مصابة بالتصلب فلم تعد الدماء تسري في أجهزته السياسية كما الإتصادية. من ثم فهو غير قادرعلى قيادة حركة التغيير المرتجاة بل يصبح بالضرورة هو ضحية حتمية لتلك الحركة. هذا نظام يأتيه الموت من كل جانب وما هو بميت بعد.
نظام الإنقاذ أهدر فرصاً عديدة من أجل الخروج بالشعب من عباءته الضيقة إلى رحاب العدالة والكرامة. من ثم أضاع إمكانات تجديد قواه لأسباب عدة أبرزها إنغماسه الشره في الإستئثار بالسلطة والثروة حد العمى. إذا كان لإتفاق نيفاشا ميزة إيجاية فهي المتمثلة في إتاحة الفرصة أمام النظام للخروج من جلد الإحتكار، رغم أنها كانت شراكة ثنائية تجاهلت الآخرين.. غير انه أخفق تماماً في تشكيل شراكة تحت مظلة حكم ثنائي جديد. الشعب بأسره دفع كلفة ذلك الإخفاق الكبير إذ إنشطر الوطن فأضاع النظام بنفسه أكبر مصادره النقدية. مرة ثانية أهدر النظام فرصة تخليق شراكة عندما أطلق أكذوبة حكومة القاعدة العريضة. وقتها نجح في إحتواء بعض المتهافتين تحت جناح هيمنته ليس غير. هي الأكذوبة ذاتها أعاد إنتاجها فيما أسماها حكومة الحوار الوطني.
من يصدق إذاً ما يسميه بعض أبواق النظام حكومة كفاءات بغض النظر عن الكفاءات نفسها أو معايير اختيارها؟ التغيير المرتجى من قبل النظام يحدث فقط حين تتجاوز أصوات من داخل معسكره - مدركة إفلاس الجالسين داخل مقصورة القيادة - خشيتها وتتجرع جرأة شجاعة تعينهاعلى إعلان إنشقاق صارخ نافذ النفوذ. نعم هناك بعض أصوات تستنكر البطش الممارس ضد المتظاهرين كما توجد أصوات معدودات تنادي في حياء بالتجاوب مع حراك الشارع. لكن كل ذلك يصنف حالياً في سياق محاولات الفرار من المركب الغارق ليس أكثر.الصراع في المشهد الراهن بين إرادتين؛ إرادة شرعية الجماهير مقابل الشرعية الإستبدادية. لا توجد منطقة وسطى للحياد.
التحدي يكمن في ترجمة تلك الأصوات إلى مواقف عملية على الأرض لجهة أهداف الحراك. ربما من شأن مثل هذه الخطوة الشجاعة بناء جسر بين النظام والحراك بغية تخفيف كلفة التغيير واختزال زمنه وجهده. صحيح رغبة الشارع المعلنة هي ذهاب النظام لكن من الواضح إفتقار الحراك عند هذا المنعطف إلى آليات إقتلاع النظام كما يشتهي المتظاهرون.
العقلية مهدرة الفرص لا تزال تحتكر بوصلة الخيارات. حتى في حالة الرهان على حكومة الكفاءات فليس هناك ما يحرّض على كسب الرهان. نحن على يقين بأن قاعدة التكنوقراط تتجاوز قاعدة الإنقاذ اتساعاً كما تتفوق عليها مؤهلات.غير أن عين النظام أضيق من الرؤية وعقليته أقصر من الإختيار. لهذا وأسباب عدة لا يقوى النظام على كسر دائرته المغلقة. إيلا ينتمي إلى المدرسة نفسها. أعضاء فريقه يهزم التفاؤل إذ قوامه لفيف من الهواة فاقدي شروط الحد الأدنى من لياقة الكفاءة. حتماً لم ينج معسكر النظام من الصدمة والإحباط. عديد من ذوي المؤهلات والحس الوطني يرفضون أصلاً العمل تحت أي من مظلات النظام الحالي. كثير من عباقرة النظام وأنصاره وحدهم لا يدركون شهوة السلطة المتعاظمة لدى أقطاب الإنقاذ. أسوأ من ذلك جهلهم بأنه كلما تطغى شهوة السلطة تفيض الكراهية.
الإعتراف وحده بوجود أزمة مستحكمة ليس فضيلة وطنية. تشخيص الأزمة فقط لا يشكل علاجاً ناجعاً. من المهم تحديد مسؤولية مراكمة عناصر الأزمة ثم توصيف المداواة. الشاعر الألماني غوتة قال :يتقلب الإنسان في السياسة من على جنب إلى آخركما في سرير المرض بحثاً عن النوم. نظام الإنقاذ لم يحرمنا فقط من التقلب بمصادرته حقنا في تداول السلطة بل أبقانا ممدين في سرير المرض على جنبنا المهيض ثلاثة عقود عجاف!!!
aloomar@gmail.com