منشورات حزب الحكمة: أنواع التفكير والحالة السودانية: الحلقة السابعة عشرة

 


 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

abdelmoniem2@hotmail.com

نجد أنّ العامل المشترك بين كل أصحاب الدعوات لتجديد الإسلام معاني وممارسة هو شعورهم بالتفوق على غيرهم علماً أو منهجاً أو فهماً فوضعوا أنفسهم في مكان المعلم الذي يجب أن يُتّبع ولم يساورهم شك منهجي في يقينهم الخاص بسلامة منهجهم ولا إمكانية أن يكون هناك منهج مماثل أو أفضل. وهذا سلوك الإنسان البدائي لا الإنسان المستنير ممّا يجعله يبخّس قيمة الآخر الإنسانية ويبرّر القضاء عليه باسم الدين لأنّه يعتبره عقبة في سبيل تحقيق الدين "الصحيح".
هؤلاء يصل بهم الظن بأنّهم ممثلين للرسول وأتباعهم ممثلين للصحابة وقد يصل ببعضهم من الوهم أن يدّعي بأنّ رسالته مدعومة دعماً مباشراً بالرسول صلى الله عليه وسلم أو بالوحي أو أنّه بلغ من العلم ما لم يبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا التفكير البدائي ينبت من عقلية انشقاقية بدائية يعوزها الذكاء العاطفي والثقافي، نبتت وعاشت في حرمان، أو كانت قليلة التجربة والخبرة فانساقت وراء أحلام مراهقة بدا بريقها جذّاباً تدفعها عاطفة متأججة وشوق لعالم مثالي ولكنها فقيرة فكرياً.
ولذلك فقد جذبت إليها أمثالها من المتعلمين البدائيين المفكرين الانفعاليين الانشقاقيين الذين يسهل إقناعهم بأساليب التفكير البدائي الأيديلوجي، ويجدون في غيرهم من يكفيهم مؤونة التفكير وينعمون في كسلهم العقلي يجمدون عقولهم، ويكونون إمعات إن أحسن الناس وإن أساؤوا وإذا سألتهم يقولون قال الشيخ أو قال الإمام أو قال الدكتور، وهم الذين حذرهم المصطفى صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال:
"لا تَكونوا إمَّعةً، تقولونَ: إن أحسنَ النّاسُ أحسنّا، وإن ظلموا ظلَمنا، ولَكن وطِّنوا أنفسَكم، إن أحسنَ النّاسُ أن تُحسِنوا، وإن أساءوا فلا تظلِموا"، أو ينتبهون إلى رواية سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
"اغدُ عالمًا أو متعلِّمًا ولا تَكوننَّ إمَّعةً".
الأمر الذي غاب ولا يزال يغيب عن كلّ هؤلاء المجددين من أمثال الشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام المهدي، والإمام حسن البنا، والدكتور حسن الترابي، أنّ الرسول صلى الله عليه وسلَّم لم يفرض رؤيته على أحد، وهو لم يكن ليحتاج لجيوش ليفعل ذلك وإنّما إرادة الله كانت كافية لتغيير قلوب الناس أو قوّة سيدنا جبريل كانت تكفي لدحر أعظم الجيوش.
ولم يكن المصطفى صلى الله عليه وسلَّم يسعي لهداية الناس وجمع شملهم من أجل أن يكوّن جيشاً ليشنّ حرباً، ولكن الحرب فرضت عليه فرضاً ولذلك فقد دافع المسلمون عن حريتهم وحياتهم، ولم تكن إقامة دولة إسلامية من أهدافهم ولكن تكوين دولة للمسلمين كانت نتاجاً طبيعيّاً للسياق التاريخي آنذاك ويجب أن يكون كذلك إلى يوم الدين.
فلكلّ أمر مدخلات ثمّ سيرورة، ثمّ صيرورة ثمّ نتيجة، مثل أن تجمع سنابل القمح من الحقل فهذه المدخلات، ثمّ تتمّ عملية دراستها وهي السيرورة، ثمّ يتمّ وضعها في أكياس للبيع وهذه الصيرورة، وأخيراً بيعها؛ فإذا تمّ بسعر مجزي فالنتيجة موجبة وتؤدي إلى الربح وحفظ رأس المال وإعادة دورة الإنتاج.
أمّا إذا لم يتم بيع القمح أو خسر فهذه نتيجة سالبة تؤثّر على دورة الإنتاج ويكون السبب في المدخلات؛ أي أن يكون القمح سيء النوع، أو في السيرورة فلا تتم تنقيته بصورة جيدة فتكون فيه شوائب، أو في الصيرورة كأن يُعبّأ في أكياس قديمة أو يخزّن في أماكن رطبة، أو أخيراً في وسيلة التسويق والعرض. ولهذا فمراجعة العملية من أولها لتشخيص الخلل مهمة إن كانت النتيجة موجبة أو سالبة فإن كانت الأولي فيلزم تكرار عوامل النجاح والسعي لتطويرها وإن كانت الثانية فيجب تلافي الخلل ولكن أن تقوم بنفس الخطوات وتتوقع نتيجة مختلفة فهذا هو الجنون بعينه ومظهر الغباء.
وبالرغم من أنّ الزارع يحبّ أن ينجح زرعه، وهو الهدف الأوّل ولكن هناك أهداف أخرى مضمرة في هذا الهدف منها مثلاً زواج أبنائه، أو مساعدة المساكين، ولكن استمرارية دورة الإنتاج وتوسّعها أهمّ في نظره من كلّ الأهداف الأخرى.
ولكن المزارع يحتاج لشرعية حيازة الأرض ولا يمكن أن يتعدّى على أرض الآخرين ويضمّها إلى أرضه مهما كان السبب إذا كان يريد شرعية ملكية الإنتاج، وهو يحتاج إلى عناصر وعوامل مختلفة ليستطيع الزراعة منها وجود الأرض الصالحة، والماء، والمعدات، والضوء، والعمالة وما شابه، وهذه العناصر والعوامل لا بدّ أن تتواجد على قطعة أرضه بحدودها المعروفة، وتكون له شرعية الملك، وتتضافر جهودها حسب منهج علمي معيّن ومهارة وخبرة ورضي المشاركين لتتمّ عملية الزراعة.
فالمزارع لا بدّ أن يحصل على القمح الأول من شخص آخر اشتراه منه أو وهبه له، وكذلك المعدات لا بدّ لها من صانع، والماء لا بدّ له من مورد وهكذا.
فهل هناك مزارع يرفض أن يزرع إذا لم يضمن ألا تنبت أي أعشاب في أرضه غير سيقان القمح؟
أو هل سيرفض الزراعة إن كان العامل من ديانة مختلفة؟ أو صانع المعدات من ديانة مختلفة؟
إن واقع الحياة هو الذي سيفرض واقع الدولة، ولا يستطيع شخص أو لمجموعة واحدة أن يتحكّم أو تتحكم في كلّ عواملها وعناصرها، فللجميع الحق في التواجد على قطعة الأرض ذات الحدود المعروفة، ولهم حقوق متساوية لا تتفاوت حسب العقيدة. فالدولة صيرورة لمجموعة من الناس تتراضي على التعايش المشترك على أرض واحدة والتعاون على أداء ما يجب أداؤه لمصلحة الجميع.
والدليل على ذلك أنّ وثيقة المدينة قنّنت لفقه التعايش على رقعة أرض واحدة لمختلف الفئات أعراقاً وديانات، ولو أنّ اليهود والمنافقين لم يخونوا مبادئ الوثيقة لما تغيّر شيء ولو أنّ المشركين لم يحاولوا أن يئدوا رسالة الإسلام لما غادر الرسول صلى الله عليه وسلّم مكة ولم تكن هناك حروب.
إنّ المعارك التي حدثت على أيام المصطفى صلى الله عليه وسلم كانت دفاعية عن حقوق إنسانية أوّلها أن يكون للناس الحرية لاختيار عقيدتهم ولممارسة شعائرها والتزام شريعتها أي لهم الخيار في أن يعيشوا حياتهم كما يختارون إذا لم يكن في ذلك تعدّي على حريّات أو حقوق الآخرين. أمَّا الحروب التي تلت المصطفى صلى الله عليه وسلّم في أيام الخلفاء فكانت بسبب خيانة العهد من المرتدين الذين اختياراً بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وخيانة العهد خيانة عظمي عاقبتها الموت أو الرجوع والإصلاح، وأيضاً كانت الحروب تحريرية لأرض العرب المحتلة وبسبب الدفاع عن النفس ضد امبراطورية الفرس والروم المعتدية.
والكثير من العلماء يبرّر الفتوحات الإسلامية التي لحقت الخلافة بدعوي تحرير الناس من القهر لتكون لهم حرية الاختيار وهذا أمر خلاف ولكن التفكير العلمي يقودنا لتفسير الظاهرة وأوّل العوامل المهمّة فهي صرف نظر المسلمين عن حقيقة الملك الذي اغتصب الخلافة بتفريقهم في الأمصار وشغلهم بالجهاد عن السياسة وبذلك تكون مواردهم، مالاً ورجالاً، موجّهة لحروب ليست ضرورية واستغلال حالة الجهاد لتثبيت أركان الملك. وهذا ديدن معروف في كلّ الأنظمة الشمولية ولنا في تجربة نظام الإنقاذ المثل الأوضح.
ونري أنّ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه منع بعض الصحابة من الخروج من المدينة لكثرة حديثهم عن الرسول صلى الله عليه وقد خاف أن ينصرف الناس عن القرآن وفي رواية أخري طلب منهم ليعينوه على إدارة شئون المسلمين فقال:
"‫"تضعون أماناتكم فوق عنقي، ثم تتركوني وحدي؟‬‬‬‬
ونري حفيده سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أوقف الفتوحات في عهده ووجّه الموارد لرعاية الناس، بل وأبطل الجزية وقال قولته الشهيرة: إنّ الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً. وقد فعل ذلك لأنّه لم يكن راغباً في الحكم ولا يريد أن يتمسّك بعرشه ولو على حساب من يرعاهم ولذلك فلم يكن لديه من يخافه أو ما يخشى ضياعه.
وهذا هو عمر بن الخطاب يقول لمن يطلب السؤدد:
"تفقهوا قبل أن تسودوا" والفقه هو قمّة الفهم وهو إدراك ما وراء المعني ممّا يعني معرفة مآل الفعل، وهو العلم الحق، قبل الشروع في العمل ولذلك فقد وصفت أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت:
"كان والله أحوذيًّا، نسيج وحده، فقد أعد للأمور أقرانها"، والأحوذي هو الخَفيفُ الحاذِقُ، والمُشَمِّرُ للأُمورِ القاهِرُ لها، لا يَشِذُّ عليه شيءٌ، والنسيج وحده ترمز إلى استقلاله الفكري وتفرّده، والإعداد هو تميّزه بالتفكير الاستراتيجي لكل ما يطرأ من أمر، وهذا ما يعرف بعلم المستقبليات أي التنبؤ بحوادث الأمور والإعداد لها.
ولنقارن ذلك بما قاله عضو مجلس قيادة انقلاب الإنقاذ:
"عندما استلمنا الحكم لم نكن نعرف شيئاً وتعلمنا الحلاقة في رؤوس اليتامى"، وأضاف قائلاً: "نحن كنا شغالين شغل اليوم باليوم"، ولا يزالون على ديدنهم القديم لا يفقهون شيئاً ولا يتعلمون شيئاً وهذا من طبائع الطواغيت.
وسنواصل إن أذن الله سبحانه وتعالي
ودمتم لأبي سلمي

 

آراء