ثورة 19 ديسمبر: (ثلاث محطات رئيسة)

 


 

 

 

إن عبقرية الإبداع الإنساني أبانت طيلة المراحل التاريخية، بأنها قادرة على قهر كل أشكال التسلط كيفما كان قدرها."

المهدي المنجرة

قلت في بداية المونولوج والذي أسميته "مونولوج الثورة الطويل" (الذي يشمل مقالة عن تقدم الثوار وعبقرتيهم، مقالة عن ترنح الإنقاذيين وانتهازيتهم، ومقالتي هذه عن تحديات الانتقال من الثورة إلى الدولة) أن الثورة قد انتصرت بكل المعايير المعنوية والمادية. وذلك صحيح من حيث أنها حصدت النقاط الضرورية واللازمة من أجل الإحاطة بالنظام والقضاء على مشروعيته تماما، لكنني لا أود أن أكون متفائلاً أكثر من اللازم، ولذا فقد حرصت على رسم خط استراتيجي وتبيان السبيل الأمثل للحفاظ على مكتسبات الثورة كي لا يتسبب التشظي السياسي والعسكري في إحداث تضارب للأجندة الثورية مستقبلاً ويتسبب في غياب تام لوحدة الهدف. ولذا فأنني أري من اللازم تكوين جسم يعني بترتيب سلم الاولويات الاستراتيجية وهي كما يلي:
ما الذي يجب فعله في هذه المرحلة الحرجة؟ لماذا وقع الاختيار علي هذه الخطوة بالذات أو تلك؟ كيف يمكن تحقيق هذه الغاية بالنظر إلى الفرص والعقبات وما يستنظر بعد من المطبات؟


يجب أن يُعَوِّل الشعب على مكنوناته كي يستعيد استقلاليته، ولا بأس من الترحاب بالجهات الصديقة خاصة تلك التي تستطيع مساعدته في تخطي هذه المرحلة الحرجة بطريقة تعصمه من الانزلاق وتجعل منه نموذجاً لتحقيق الأحلام التي استعصت علي بعض دول الربيع العربي وتعينه علي تحقيق التحول الديمقراطي المنشود. من كانت له علاقة عقائدية أو أيديولوجية مع الإسلاميين، فإن الإسلاميين قد انتهي دورهم في السودان ولن تقم لهم قائمة ابدا، أما من كانت له علاقة استراتيجية أو يريد أن يقيم علاقة ذات أبعاد تنموية مستفيدا من رصيده السياسي والإنساني مع الشعب السوداني (لا سيما تلك الدول التي وقفت مع شعب دارفور وقفة باسلة)، وليس مستدرجا له إلى وحل التفحيط الذي تقوده شخصيات أقل ما يقال عنها أنها غير مسؤولة وغير ناضجة هذا إذا استبعدنا الخيانة – خيانة ثوابت الأمة، فيسعه أن يعمل منذ الأن وليس لاحقا لسد حاجة الشباب السودانيين وسائر القوي صاحبة المصلحة في التغيير لرؤي استراتيجية ومعينات لوجستية وذراع إعلامي، وأن يعينهم علي تسخير طريقهم نحو غايتهم دونما إرهاب من بعض القوي المتصارعة محلياً، أو استقطاب من الجهات المتنفذة إقليمياً. وذلك يتطلب التنسيق مع أخطر اللاعبين وأوفرهم حظاً في تثبيت الأوضاع على الارض، لا سيما من العسكريين الذين يحتاجون في -- ظل هذا الفراغ الذي أعقبه نظام الاستبداد-- إلي جهة ترفدهم بالأفكار وتعينهم في مسار الانتقال نحو دولة المؤسسية والتعددية.


إنني أشبه هذا المخاض بسباق المارثون، لكنه من النوع الذي يمرر فيه العَّدا الباتون لزملائه في محطة من المحطات. عليه فإننا يجب أن نتقاسم الأدوار كي لا ننهك ولا تضيع طاقتنا ولا تهدر ملكاتنا. فإن الثورات لا تسرق بالمعني، لأن ما تحصل منها لم يتجسد بعد، لكنها تجهض وتؤد قيمتها المحورية بواسطة النخب الانتهازية -- في هذه حالة المركزية. كل واحد منا يجب ان يعي مسئوليته في المرحلة القادمة، ويسير بعزم وفق خطة تستلزم الانتباه لأهمية التخطيط، إعادة التقويم مرحلياً، وفق الاهداف التي حددها القواد وأخطتها الشهداء الأبرار بدمائهم. ليس أبلغ من رثاء شاعر البطانة ابو عثمان ود ايدو لأخيه الذي استشهد في هبة ديسمبر الأخيرة:
أخوي ما هَمّا كرسي وخافو يفلت منو
أخوي بيع الجنان بي الزايله جنو وجنو
أخوي ما تغيرت في موتو فَرّتْ سِنو
أخوي واجه رصاص ما خيّب الراجنو

أخوي بتحملك لا من تشك في رجالتو
أخوي محنة تلوب يوم الكريهه بسالتو
اتنين فيهن المفروض أخوي ماتغالطو
طهرو وعزة الدم الكتبو رسالت

إن اليقينيات أو المرتكزات الأساسية للثوار هي كالاتي:
• إذا اقتضت الضرورة التنسيق في المرحلة القادمة مع الجيش (أو حتي جهاز الامن الوطني)، فإنه يجب أن يخضع لإرادة سياسية مدنية، والا فحليمة قد ترجع لقديمها. لا نحتاج إلى مجلس عسكري مطلقا، فذاك يتسبب في تخضم الذات العسكرية أكثر مما هي عليه. بل يجب أن يتكون مجلس قيادة الثورة هذه المرة من الشباب خاصة الذين قادوا الحراك من كل أقاليم السودان يكون على تواصل حيوي مع القيادة المدنية المختارة.


• لن يكتفي الثوار بإسقاط النظام، بل أنهم -- وفاءاً لدم الشهداء-- سيمضون قدماً لدحر المنظومة بأكملها، ومحاسبة ليس فقط الاسلاميين والطائفيين، بل كل الانتهازيين الاذين لم يتوانوا في استثمار محنة أهاليهم. أولهم هؤلاء الولاة الدار فوريين الذين اقتصرت مهامهم على حشد الجماهير لاستقبال الجنرال الخائر متما جابهه خطب أو واجهته معضلة (راجع تسجيلات سالم محمد عمر، أمين أمانة الفكر والثقافة بالمؤتمر الوطني). وهذا يستلزم الاستفادة من الشرعية الثورية إلى أقصى درجة للتخلص حسيا وماديا من رجوع الرجعية كافة وإطالة الفترة الانتقالية كي تتوطد دعائم الديمقراطية.


• تجاوز الثوار لكل الثنائيات (ريف/هامش، غرابة/جلابة، زرقة/عرب، علماني/إسلامي، عسكر/مدنيين، فقراء/أغنياء، مترفين/معدمين، إلي أخره)، التي عولت عليها العصابة في الحيلولة لعقود دون تواثق الجمهور وتعاونه لردع الظلم، عن اي مواطن وقع وفي اي حارة، أو إقليم أحاط.


الجنرال يعلم أن الجهة التي توجه الرصاص الحي إلي صدور المواطنين لن تتواني لحظة في استئصاله، إن هي ترصدت أو تربصت به في إحدى رقصاته، ولذا فقد ظهر مؤخراً وقد يلبس واقياً للرصاص. حتماً، هو لا يخشي المواطنين العُزل، الذين كان يحسبهم جبناء وغير قادرين علي التصدي له ولعصابته بعزة وإباء، وشيم ترفض الخسة والغدر وقلة الحياء. صحيح، أنهم نجحوا في "قنطرته" بكل مكر ودهاء. لكنهم، أي الاسلاميين، فوجئوا بالمسلمات، ما يجب أن يعيه الكل هو أن هذه الثورة لن تسير علي منوال الثورتين السابقتين، لأن هناك فراغاً سياسياً وثقافياً ومجتمعياً لن يملأ بيسر، كما ان هناك استقطابا إقليمياً حاداً، واضمحلال أخلاقي عالمي، سيجعل من الصعب، وليس المستحيل، الانتقال إلي حظة توازن مستفيدة من الانسجام الوجداني الحالي. هذا المارثوان سيمر بثلاث محطات، وإذا شئت زفرات أو هبَّات، وهي كالاتي:
المحطة الأولي: تحالف كل القوي العسكرية لدحر ميلشيات الظل. لقد وَحَّد علي عثمان جموع العسكريين وكافة القوات النظامية، على الأقل شعوريا، دون أن يدري. وقد كان حتى زمن قريب يعول على إحداث شُقة بين الدعم السريع وسكان الوسط فشّلها حميتي في لقائه مع الطاهر التوم وفي حديثه لقواته إثر مقدمهم من الصحراء، فلما أن فشل في هذه عوَّل علي إحداث شُقة بين الجيش والدعم السريع، تم تلافيها بضم الأخيرة إلى الجيش. فلما فشل في كل ذلك لجأ للتلويح بالمرتزقة كما فعل العقيد الهالك. والشعب الأن، بجنده وحرسه وحشده، يرتقب تحركاته وينتظر أي رمشة كي يهرسه، يدوسه ويستأصل شأفته وشأفة إخوته المارقين إلى الدين ومن عرف المسلمين السودانيين.

أتوقع أن تستغرق هذه المرحلة من 6 أشهر إلى العام ونصف قبل أن تستبين الأمور وأن لا يقل عدد الشهداء من العسكريين والمدنيين عن خمسة الاف. (الأعور ما جايبه على بر فقد تسبب في قتل نصف مليون مسلم في دارفور فهل تخاله يقنع بأقل من واحد في المئة؟ )
المحطة الثانية: انتداب سياسيين وطنيين لتمثيل كل شريحة من شرائح الشعب السوداني، حسب وزنها السياسي والجغرافي والاجتماعي، سيما الشباب الذين قادوا الثورة غير ابهين بالتوازنات، وغير مكترثين بالعقبات والنساء الذين كانوا الشريحة الأكثر تضرراً من هذا النظام. هؤلاء هم من يجب أن يوكل لهم إحداث تسوية وطنية شاملة سياسية.


أتوقع أن تستغرق هذه المرحلة من العام إلى العامين ونصف قبل أن تستقر الأوضاع.


المحطة الثالثة: ترشيح خبراء وفنيين لإعداد استراتيجية تنمية وطنية تعني بالإعداد لرؤية تستشرف عام 2050م بموثوقية وأخلاقية.


أتوقع أن تستغرق هذه المرحلة ثلاثة أعوام لإعداد استراتيجية تنموية بصورة علمية توفر فرصة دعم إقليمي ودولي .


أي حديث عن فترة انتقالية أقل من سبعة سنوات هو حديث لا يأخذ في الاعتبار حجم المعضلة ولا يستبين جليا الغاية المتوخاة كي يصل السودان إلى مصاف الدول متقدمة النمو وينتقل بالسودان من الثورة إلى الدولة متفاديا ذاك المأزق التاريخي الحرج والذي أخفقنا كثيرا في تخطيه في حالة الدولة المهدية والتي كانت نهايتها أشبه بهذه اللحظات: بؤس اقتصادي عام، بغض عارم للطبقة السياسية، انتقاص في الكرامة الإنسانية، تشوف للحظة الانتقام، تصدع اجتماعي، عزلة دولية، هجرة قسرية، إلي أخره من مخازي الدولة الدينية. (إننا لا نقرأ التاريخ ولذا فإننا نكرره بذات الصبغة وعلى شاكلة الشخوص أو مثلها.)


هناك طرفة تحكى تبين مدى الفوضى التى سادت أخر أيام المهدية. مر أحد الجهادية على طبلية رجل نقادي، لم يكلف الأول نفسه جهد الترجل بل مد حربته وخرّط فيها عشرة رغيفات وغمَّزها في حلة الملاح لامن ارتوت. لم يستطع النقادي أن يتفوه واكتفي بمعاينة المهزلة. انتظر حتى غاب المغتصب عن ناظره وقال لمن حوله: "شوفنا مية مهدية، لكن مهدية خرى زي دي ما شفناها." نحن نقول اليوم: "شفنا مِية حكومة عسكرية بس حكومة عسكرية زفت زي دي ما شفناها." لا يريد الجنرال الخائر أن "يَفْرُش" (يستقبل الموت ثابتا على فُرُشِه) فينال شرف الجندية أو يستبسل دفاعا عن ملكه بشرف تتطلبه المنازلة أو خوض المعركة بأدواتها، ولذا فتراه يتقاذف متنقلا من مدينة إلى أخرى ويتنزه باحثا عن جماهيرية لم تكن يوما من نصيبه، وإن كانت فذاك أمر اقتضاه ظرف الغفلة والتغبيش الذي مارسته الألية الإعلامية. إن قدرا لا يكتنزه وقيمة لا يمتلكها الجنرال لا يمكن أن يمنحه إياه أحد مهما بلغ من الورع والصلاح. ولو أن يلبس ثوب الرجل الطاهر عبدالرحيم البرعي، الأمر الذي استنكفه يوما جميع أهل السودان وقد هالهم أن يروا لصا بارعا وقاتل محترفا متلفحا بثياب الطُهر؛ هرعت إلى الخليفة يومها جزعا، قابلني أحد أتباعه المؤتمرجية ولِها وفرحا. خرجت مغاضبا وقلت له: سيخرج منها ماجنا ويبق ثوب صاحبه زاهيا.


أخر ما أشيع أنه يزمع حضور الإجتماع السنوي للسادة السمانية في الكريدة منتهزا هذا التجمع الضخم (قرابة المئة ألف) للتدليل على شعبيته ومحاولا تجيير هذا المشعر الصوفي لصالح الإنتهازي والسياسي المقيط. والحقيقة أن هذا الإجتماع ظل يعقد لأكثر من 114 عام وهو عبارة عن زيارة روحية بدأها الشيخ محمد وقيع الله وعكف على تنظيمها أبناء الشيخ عبدالرحيم البرعي تعبيرا عن الامتنان للشيخ عمر بن الشيخ محمد ووسيلة لرد الفضل إلى الشيخ برير ود الحسين الذي هو أستاذ الشيخ عمر. إذن، هي زيارة في الله وبالله ولله لا صلاة لها بالسياسة وملابستها، ولا مأرب فيها غير التواصل بين الإخوان والأخوات وتوطيد أواصر الأخوة والمحبة. لم يبق لنا غير هذا الإرث نحافظ عليه، فلماذا تريدون إفساده؟ بل لماذا يذهب العالم الجليل والمربي الوضئ الجميل الشيخ الفاتح البرعي إلي موافقة هذا الدعي في أطروحته عن التخريب، بل والتوجه لله بتأييده، سنده وتوليه، وهم يعلم أن الله يتولى الصالحين ويتربص بأولئك الذين استبانت سبل إجرامهم ومكرهم واتخاذهم كافة الحيل للقضاء على الإسلام متمثلا في تعاليمه الجليلة وفي إرثه السوداني والصوفي خاصة؟ ألم تكن لنا أسوة في ود الأرباب (المحسي الما كضاب) الذي واجه بطش ملوك الفونج ورد للناس حقوقهم؟ ألم تكن لنا أسوة في الشيخ فرح ود تكتوك الذي ما كان يداهن في أمر الدنيا ولا أمر الدين؟ ألم تكن لنا أسوة في الشيخ حمد النيل الذي اختار أن يدفن بالقيد في رجليه على أن يعطي الدنية في دينه؟


إن توفر الموافقة الشعبية الكاملة على مشروع الانتفاضة التي انتظمت كل قرى السودان لأول مرة في التاريخ، وعجز الموالين عن حشد نقاط الدعم الضرورية لإنقاذ الرئيس لئلا تطيح به القوى الشبابية الصاعدة، جعل الجنرال يتطفل كالدلالية -- التي تذهب إلى كل مناسبة اجتماعية أو جَمْعَة في الحلة دون دعوة -- باحثا عن وسيلة أخيرة لدعم نظامه وشرح أطروحته منتهية الصلاحية. لن تشفع له شفاعة الشافعين ولن يجدي عنه وله الطامعين فقد هتف ضده جمهور المتصوفة وقالوها له في وجهه: تسقط _ بس فأشاح وجهه عنهم، رددوها له مرارا، فمضى في خطابه غير أبه بمقاطعتهم له وأختار أن يستأنس بهرطقته ودجله المعهود. حتى إنه قال أن مجموعة مندسة قد قتلت الطبيب، وقد نسي أنه قبل أيام شكل لجنة للتحقيق في قتل المتظاهرين. لكنه استبق نتيجة التحقيق أو قطع عليها الطريق لأن الدلائل الظرفية وحدها قبل الحيثيات الجنائية ستدينه وتدين نظامه. فقد هدد قبل فترة عقب زيادة الوقود الأولى بإتباع نهج سبتمبر في حسم المتظاهرين؛ عَرِف المواطنون الأسلوب لكنهم احتاروا حينها في الجهة المنفذة التي باتت تعرف من بعد بالاسم الحركي الذي اختاره "الشيخ" علي عثمان لها (كتائب الظل)، دون تحديد لهويتها أو شخوصها. عُرف القاتل وعُرفت دوافعه ولا يهم بعد ذلك إن كانت الأداة بندقية أم كوكاب (نوع من أنواع الحِراب). فالقصد كان الخراب.


يحمد الناشطين حماستهم في الوسائط الاجتماعية، وهمتهم بيد أنهم يجب أن يتبعوا سياسة النفس الطويل، فهذا المعترك يختلف نوعياً عن أكتوبر وإبريل اللتان كانتا عبارة عن سباق سريع وكثيف خمدت من بعدها الحماسة، بل قلت الكياسة وانعدمت حينها حصافة الكل عن المتابعة. حتي تتحقق أهداف الثورة، فيجب علي الكل أن يعي حجم التواطؤ التاريخي، والذي امتد منذ سنار، بين النخب الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية. يجب أن يعي الشباب أنهم يواجهون أكثر من ملك، وأنهم إنما يهددون مصير أكثر من كهنوت وإن قربت لأكثرهم ساعة الموت. عليه، فيجب أن يتخذوا التدابير التي تحمي ظهورهم من الأعداء الظاهرين وأن يستعيضوا عن الوحدة الفوقية بوحدة قاعدية تقيهم شر الآفة الخفية. يجب أن يوافوا القنوات الإعلامية بأسماء من يمثلونهم وألا يستهينوا بمقدرتهم علي ايصال حجتهم، فإن من حمل الروح علي أكفها لا يعجز عن الافصاح عن حجته. لقد ضاعت أعمارنا في المهاجر والملاجئ والمعسكرات وآن لنا ان نجتمع في وطن حر نبنيه بعزمنا وفق استراتيجيتنا التي تتفق وهويتنا والكذاب دا مو مننا. نريدها ثورة علي غرار الثورة الفرنسية أو الايرانية أو الصينية، المهم أن تفعل ما من شأنه أن يحدث قطيعة أبستمولوجية وشعورية وفكرية مع ماضي الدولة السودانية. لا نريد سوداناً عريضاً (وإفكاً مديداً)، إنما سودان جديد ذات إرث تليد.
مثل هذه الإفاقة لن تساعد السودان فقط في الاتساق مع ذاته، إنما ستعينه أيضاً علي الالتفات لمصالحه الحيوية المضيعة دهراً لكونه أصبح دولة حائره تدور في محور دول هامشية. متما بلور السودان رؤي استراتيجية ذات أبعاد تنموية واقتصادية فإنه سيجد موقعه الحقيقي في القرن الأفريقي، بل في أفريقيا كافة والتي انطلقت حضارتها من وادي النيل. حينها لن يكون في حالة استجداء، إنما سيقصده من رغب بغرض التطوير والبناء وتحقيق مصالح الشركاء. يكفي ما ضاع من الفرص علي هذا البلد، بل يكفي ما انهدم من القيم. هذا البلد لديه رصيد روحي ومادي ضخم. كل ما يحتاجه إدارة رشيدة تتلخص خصائصها في ثلاث: رؤية أخلاقية، كفاءة مهنية وعزم علي تغيير بنيه السلطة الاقتصادية، السياسية والثقفية. الأمر الذي لا يتم إلاَّ إذا شيدت دعائم الفيدرالية الديمقراطية وحشدت طاقات التواصل الروحي والإخاء الإنساني.


حتي متي سيظل السودان في خانة التابع، ولمصلحة من سيبقي هذا البلد الغني يعاني من المسغبة؟ مَنْ مِنْ الدول الكبرى يمكن أن كون حليفاً استراتيجيا للسودان ووفق أي رؤية بالنظر إلي التحديات الجيو إستراتيجية؟ ماهي حيلة السودان لتفادي حالة الاستقطاب التي تعاني منها المنطقة العربية بأسرها؟ لا يلزم الثوار التعجل بالإجابة علي هذه الاسئلة، بيد أنهم يجب أن يعوا حجم الإعصار الذي سيطال الثورة إن هي أهملت التعامل مع مثل هذه التحديات، ولم تتفكر في شأن المالات. فكثير من الثورات لم تستطع تفادي مثل هذه المطبات نسبة لتقوقعها الفكري والوجداني. واحدة من أكبر الاشكالات التي تواجه الثورة الحالية أن مفهوم القومية لم يتجاوز بعد الأطر الجغرافية والايدولوجية التاريخية المعروفة. خاصة أن الحكومة قد نجحت عبر سماسرتها المعتمدين (واذا شئت المعارضين الصورين) علي تجيير إرادة الهامش الذي جاء بعض قادته طائعين، متنازلين، غير ابهين بمناقشه جذور الأزمة (لا سيما أنهم اصبحوا جزءاً اصيلاً منها)، بل حريصين اشد الحرص علي اللحاق بالركب المندحر، الذي لم يشأ أن يترك لهم فرصة الاحتفاظ بماء وجه اريق في المحافل قبل ملاقاة الجيوش الجحافل.


وها هي الحكومة تبصق في وجوهم بصقه أخري بتبنيها "مشروع الكراهية" وافتعالها لمعركة عنصرية مع طلاب دارفور، وترويجها لمؤامرة يشرف علي إنفاذها "بعض الزرقة" الذين لم تكتف بقتل أهاليهم، اغتصاب نساءهم وتشريدهم ريثما يتحقق لها حلم (أو وهم) الدولة ذات الأعراق النقية والزكية. وهذه أحدي المؤامرات السخيفة التي ما عادت حتي المخابرات المصرية تعمد علي اختلاقها، لأنها ببساطة تسئ إلي المُتهِم قبل المُتَهَم.


أعلم أن الوطن قد أصبح اليوم عبارة عن "ساحة عزاء كبري"، لكن هذا المصاب الجلل، لا يعفينا عن التفكر في مآل التركة الثقيلة. فمجرد الاطلاع علي البيانات التي يخرج بها الناشطون يدلل علي أننا ما زلنا وبعد ثلاثين عاماً نتعامل برد الفعل، كما أن مجرد التصنت إلي أحاديث الواتسب يبرهن علي "هشاشة مواعيننا الجمعية" (إذا جاز لي أن استعير عبارة الكاتب والصحفي النابه أحمد حسين).


ختاما، يجب أن ينصب جهد الخبراء والمفكرين، خاصة الموجودين في المنافي، في هذه اللحظة التاريخية الحرجة على تكوين منصات تُعنى بتقديم رؤية نقدية لواقعنا (نقد الإرث السياسي والاجتماعي، نقد الإرث الديني، نقد الإرث الطائفي فكل ذلك له صلة بانحسار الأفق التنموي) كضرورة يتطلبها التحليل الرامي لتطوير نظم الحوكمة وتقني سبل الحكم الرشيد (إدماج السلك البراني في دورته الطبيعية بعد التقصي لأسباب العطل الحقيقية)، لا أن يقفوا مكتوفي الأيدي أو يكتفوا بتبادل لقطات الفيديو ذات الشحنات العاطفية الهائلة أو التبجيلية العابرة. إن مثل هذه الجهود ستستفيد منها الفئة التي قد تختارها العناية الإلهية بواسطة الإرادة الشعبية لتبني مشروع الانتقال من الثورة إلي الدولة، ومن الأخيرة إلى ساحة الإنسانية الكبرى.


كل ذلك لا يتحقق إلا إذا انفسح الأفق التنموي ليشمل القطاعات كافة فتستطيع حينها توطيد علاقتها بالخارج وتتواصل مع الكل بأريحية. حتى ذاك الحين يجب أن نعرف وجهتنا، لكننا ايضاً يجب أن نكون مرنين ومستعدين لاتخاذ طرق شتى للوصول إلي تلك الغاية. من هنا جاءت أهمية تحالف القوي الثورية كافة لخدمة معركة التحرر من هؤلاء الدخلاء مستلهمين عبر التاريخ المجيد.


إذا أردت أن تعرف من المنتصر ومن المنكسر فتفرس وجوه العصابة لحظة تجمعهم وتجهمهم ساعة الخطاب الموجه لقادة الصف الأول من المؤتمر الوطني أو المؤتمر الوثني كما سمّاه الثوار، وقتها تعرف ضعتهم وشؤم أقدارهم (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (الحج ١٨). فكيف بهم إذا اقتيدوا يوما وهم الوف حذر الموت إلى ساحة القصاص والشعب جزل وطرب في ساحة الحرية يتغنى بقولنا شاعرنا المجيد الدكتور وجدي كامل:
الفجر لاح،
شدوا الهمم، هدوا القلاع، زيدوا الكفاح،
ارموا الأباح، قتل النفوس، كده بى ارتياح،
مدوا الأيادي تكون سلاح ،
وبجي الصباح.

auwaab@gmail.com

 

آراء