العدل في جوهره انتفاء الظلم، وهو يقوم على الرضا بين جميع الأطراف على الاتفاقيات التي توصلوا إليها أولاً واحترامها والاقبال عليها لتنفيذها بشفافية وصدق ثانياً. ومن جذور هذا العدل تنبت الثقة وتنبثق العدالة الاجتماعية التي تؤدي للسلام، الذي يمهّد للاستقرار، والذي به تأتي التنمية. وهذا هو العدل الاستراتيجي الذي يخطّط للتغيير على أساس البيانات التي تعكس حاجة الشعوب المادية والصحية والتعليمية،
ومفهوم العدل الاستراتيجي لا يجد في الدول الشمولية حقّه من الاهتمام، ويكون أساس النزاعات التي تنشأ، ومثاله مفهومي الهامش والمركز، بينما أيضاً لا يُلقي إليه قادة الثورات البال بوعي شديد مع إنّ شعارات الثورة قلّما تخلو من كلمة عدالة.
فلماذا نحتاج للعدل الاستراتيجي؟ نحتاجه لأنّ حاجات الناس وطبائعهم مختلفة ومتنافسة على موارد محدودة، مهما كانت درجة توفرها أو تعدّدها، وهذا يعني أنّ النزاع شيء حتمي بين الأفراد، وبين المجتمعات، وبين الشعوب. فالكل يريد أن يضمن أسباب المعيشة، والبعض يريد أن يحتكر أسبابها وهذا البعض هو أسُّ البلاء.
وهذا التنافس على الموارد هو جذر النزاع العالمي الذي تتأثر به الشعوب أينما كانت، وتتكون من أجله الأحلاف، وتتكدّس لتحقيقه الأسلحة بأنواعها. والموارد ليست كلّها ماديّة ولكن الكثير منها معنوي مثل تحقيق الأهداف أو المبادئ، ولذلك فاقتناص الفرص لتحقيقها يؤدّي أيضاً للنزاع.
وفي كلّ المجتمعات أعراف أو قوانين يلجأ إليها المتخاصمون لفضِّ النزاع وتحقيق العدالة. وعلى قدر الرضا بنتيجة التحكيم بين الطرفين ينتهي النزاع أو يزيد.
وإذا كانت القوانين مُجحفة، وصاحب الحقّ ضعيفاً، والمعتدي طاغيةً، كان إحساس المظلوم بالثأر طاغياً أيضاً وفي أوّل فرصة للانتقام، إذا سادت الفوضى، يصير المظلوم ظالماً والظالم مظلوماً، وذلك لأنّ المظلوم لا يأخذ حقّه عدلاً ولا يتركه فضلاً.
أو إذا لم يأخذ الحاكم على يد الظالم ويردعه فسنجد غليان النفوس وهيجانها يؤديان للثورة على الحاكم.
ونجد مثل ذلك في حكايات اللصوص الذين يسرقون شيئاً، وقد اضطّرهم الفقر للسرقة، فيتعرضون للضرب والتعذيب حتى تزهق أنفسهم، أو أنّ الجماهير تأخذ بثأرها بوحشية من ممثلي أو مشاركي الحاكم أو تدمّر المنشئات في لحظات الانفعال الثوري.
ومن أمثلة النزاع على الأمور المعنوية هو اختلاف أطراف تجمّع إعلان الحريّة والتغيير، فاللحظة الثورية لا تدوم، والكل يريد أن يطرق الحديد وهو ساخن فيكسب لحزبه أو لمبادئه أكثر ما يُمكن، فيصرُّ على إعطائه الفرصة للظهور للجماهير كمشارك أصيل في الثورة. ولهذا هبط الإحساس الوطني الذي جمّعهم إلى قاع الأنانية الذاتية، فأضعف الأداء، وضاعت الرؤية في معمعة الاختلاف، وانفلت زمام القيادة من يد الشباب.
وهذه الظروف كانت تحتّم على من يدير الثورة ويقودها أن يكون واعياً بمفهوم العدل الاستراتيجي، فيخطّط لمثل هذه اللحظة الهامة في مرحلة التفاوض، حتى يوفّر على نفسه طاقة كبيرة ضاعت في الخصام والمشاحنات ممّا هدّد بضياع ثمار الثورة، وسبَّب إحساساً عظيماً بالإحباط عند الشباب وعند الجماهير.
وهو المفهوم الأكثر أهمية لمن سيدير شئون الدولة، لأنّ ضحايا النظام السابق كُثر، والألم كبير، والبغضاء عميقة، وبغير تحقيق مفهومه على أرض الواقع بما يرضي جميع الأطراف، كلّ حسب حاجته، فستشتعل بؤر النزاع مرّة أخرى، ولو بعد حين، كما عهدنا منذ الاستقلال.