في مستطيل النورِ.. حينَ يشعّ في انفراج باب... في وهج اللفافة الأخيرة في لمعة المنافض المزوقة في لمسات اللوحة المعلقة في دورة الفراش في السقف وفي انغلاقة الكتاب...
الشاعر المصري/أمل دنقل
(1) يكاد محمود أن ينتفض من مقعده ، يحلق طرباً واندهاشاً، في سموات مترعة بانجذاب صوفي ، تخفت أنفاسه المتهدجة فيتمتم وكأنه يخاطب أشباحا يتخيلها ، لا نحن الذين حوله ومعه. . - يا له من مجنون..! أنظر ، أين يرى هذا الرجل اسم محبوبته، مخطوطا بين ثنايا الشعاع ، وفي التواءات الستائر ووميض رماد السجاير: في الأمكنة المستحيلة. ! حينَ يدندن صديقي عبد العال بصوته الرخيم ، أبيات أمل دنقل عن حبيبته "رباب" ، تزدهي الممرات وغرف المكاتب من حول مجلسنا ، بهدوءِ وسكينة قدسية . كنا في تلكم الأيام ، نجترع الأدب والشعر ، اجتراع السكارى خمور الحانات ، آخر الليل وبدايات الفجر، في لذة واستطابة . كان محمود يستحثّ صديقنا عبد العال يستنشده أبيات دنقل ، ويكاد عبد العال أن يقول كفى . لا يقدر أن ينطقها . أعرف كيف تعتمل في صدره تناقضات الفرح والألم ، وتصادم إعجاب كفيف ، مثل صديقي محمود ، برؤية شاعر عاشق ، تبصر عيناه محبوبته في الأمكنة المستحيلة .
(2) قلت لصديقي محمود : إن دنقل مثله مثل أبي القاسم في تونس، والتجاني في السودان، والسياب في العراق ، ينزف الشعر من مسام أبدان أولئك الشعراء، نزفا سلساً يستعجل الفناء. تندلق القصائد بين سعال وسعال ، بين زفرة وشهيق، اعتصرهم طلق القصيد فأفناهم ، ثم ذابوا في دواوينهم . . ذهبوا وأطلت أرواحهم علينا في هذا الألق الذي خلفوه. في صباحه الجديد، أشرق شعر أبي القاسم الشابي، ثم كان مغيبه ، وترك لنا عذوبة الطفولة والأنسام . في جيكوره ، أودع روحه ، مطرا مطراً، ثم سافر بدر شاكر السياب . أما هنا في أمدرمان فقد أنشدنا صاحبنا إبن يوسـف بشـــير: "قم يا طرير الشباب" ، ثم هوى هو إلى غيابة المرض . يضحك محمود من فكرتي . يقول : صدقت، صدقت يا جمال . تأسرني رهافة أحاسيسه وصدق همساته ، صديقي محمود . .
(3) كنتُ مفتونا بالانثروبولوجيا وقتها ، وما زلت . و كانت تأثرني كتابات "إيفانز- بريتشارد" ، عن النوير بوجهٍ خاص . كنتُ أرى في حواري مع صديقي محمود ، أننا لن نفلح في السودان إن لم نتصل بثقافاتنا جميعها في تنوعها وتعددها ، وصلاً حميماً مثل وصل "إيفانز-بريتشارد" وأضرابه من علماء الإجتماع الإنساني ، الذين سعت إليهم إدارة المستعمرات البريطانية، قصد استكشاف هويات هذه المجتمعات البشرية "البدائية" في أفريقيا . ذلك الزمان ، كنت أعكف على ترجمة مقال في علم الإنسان لـ"ايفانز-بريتشارد" ، ثم لما تستعصي علي بعض جمل العالم ، أو تعبيراته العلمية ، أسأل صديقي محمود ، يضحك من قلبه، ثم يقول لي : " لماذا لا تعكف على شعر صلاح أحمد ابراهيم ، فتترجم روحه الحلوة إلى الإنجليزية ، أو شعر عبد الصبور، إن شئت ؟" و كان يعرف شغفي بعبد الصبور.. هنيهة ثم أنفض يدي عن "إيفانز- بريتشارد" ، ويتواصل حوارنا ونقاشنا، وعبد العال بيننا يلقي ما تيسر من شعر أمل دنقل.. ثم يأخذناالحديث إلى تجاريب صديقنا الفنان التشكيلي العظيم حسين شريف، في المكتب المجاور، ومعه صديقنا الفنان الشفبف محمد عمر بشارة ، في بدايات تجريبه التشكيل بدلق القهوة عشوائياً على ورق الرسم، ثم تتملكنا حساسيتنا المفرطة تجاه صديقنا محمود، فنهمل الجدل حول الرسم، ونستأنف نقاش الشعر وإنشاده. .
(4) ذات زمان ، في القاعة رقم اثنين بعد المائة ، الشهيرة من بين قاعات كلية الآداب بجامعة الخرطوم ، يرمق المحاضر في علم الآثار، فتىً ينصت إلى ما يقول ، لكنه لا يكتب في كراسته ، بل ولا توجد أمامه كراسة أصلاً، ولا يمسك بيده قلما ! استفسره المحاضر، قال : أنا أتابع . لكنك لا تكتب !.. قال له : أنا أستمع وأستوعب وأتابع . .! ما كان ذلك ممّا يتوافق مع مقتضيات متابعة المحاضرات والدروس في كلية الآداب بجامعة الخرطوم : كيف يجلس طالب في قاعة المحاضرات ولايكتب ومحاضرات الآثار عادةً تكمّل برحلات ميدانية ؟ رأى بعض سدنة الكلية أن في ذلك إهدار لمكان فيها، من الخير أن يحتله مُبصر من المتنافسين للإلتحاق بالكلية ، بدلا عن ذلك الكفيف الذي يتعثر في المتابعة. قد تدهش أن يقع ذلك في جامعة الخرطوم ، وفي كلية الآداب ، التي لا بد أن يكون قد طرق سمع أساتيذها شيءٌ عن عبقريّ كفيف اسمه طه حسين ، ملك الأدب وصار وزيراً للتعليم في مصر ذات عهدٍٍ، وهو كفيف. .! كان الزمان شمولي الملامح ، مجبول على التزمت واعتناق الرأي دونما نقاش ، ويتصل ذلك أيضا بعنت أكاديمي ، لا تجد له مبررا . . أما صديقي ، فقد أكمل سنوات تحصيله الجامعي في الجامعة الأخرى ،ربما الأقرب تاريخا لعبقري الأدب العربي طه حسين : جامعة القاهرة فرع الخرطوم..
(5) كنا في أوائل سنوات القرن الماضي . إيه من سنوات السفر وأزمنة الاغتراب . .! ما بقي في السودان في الربع الأخير من القرن الماضي ، إلا كسير قلب أو قليل حيلة ، أو كاسر من الكواسر الجارحة. . بقي صديقي محمود في مقامه الخرطومي ، وخرجنا نحن ، خروجاً طويلا . ما تقطعت السبل إلا بصديقنا الكفيف . هاجر صديقنا عبدالعال إلى السعودية ، ولحق به عبد الوهاب البشير ، ثم عمر الأمين . حتى سعاد ، تلك التي زهدت في الحياة جميعها بعد فاجعة رحيل زوجها وانكسار قلبها وهي في شرخ شبابها ، فتر صمودها، فتزوجت من جديد ، ولحقت بزوج رحيم يقيم في الإمارات ... غير أن محموداً بقي وحده في مقامه... حفظ الود وحده.. يذكرنا وحده... ما واتتني الشجاعة لأكتب له رسالة أخطها بقلمي . هذا يذكرني بعجزه عن الإبصار، فأحجم عن الكتابة ، وما أردت له أن ينقل حميمية أسطري إليه ليقرأها له آخر ذو بصر. كفيف نعم، أما البصيرة فهو أميرها..
(6) حرصتُ أن ألقاه كلما سنحت لي إجازة أقضيها في الخرطوم وأنا بعيد في مهنتي الدبلوماسية ، مرة أولى في كمبالا وثانية في تونس. أزوره في بيته الذي استأجره في ديوم الخرطوم. يا لسعادتي حين وجدته يحتضن ابنه الذي رزق به إبان سنوات غيابي . قال لي : رزقني الله بزوجة أبصر بعينيها هذا الكون الرحيب، هي"سميرة" ، ثم وهبني الله ابنا يرعى كهولتي، هو "ياسر"... لكن تأتي عليه نوائب الدهر : يحال محمود للصالح العام، بعد حلول عصبة "الإنقاذ" ، هكذا بلا حيثيات ، فينزوي في بيت صغير من بيوت "الإسكان الشعبي" ، ظفر به بعد طول عناء وانتظار .. بعدها بلغني- وأنا في سفر بعيد- أنه استفتح دنياه من جديد بمشروع مكتبة صغيرة ، أو قل "كشك" لبيع الصحف والمجلات والكتب والقرطاسية .. تمددتْ بيني وبينه السنوات الطوال، واحتوتنا هموم الترحال وسحابات الكئآبة والإتلاف القسري ، وبدت أيامنا تلك التي نعمنا بها في سنوات السبعينات ، فردوساً حالماً، يتنزل اخضراره على الذاكرة كبعض ما يتهيأه نائم . .
عدتُ إلى الخرطوم ، ولكن لم يعد صديقي عبد العال أبدا ، ولا عمر، ولا عبد الوهاب ، ولا حتى صديقتنا الرقيقة، سعاد الحاج ، أم أمل . كيف السبيل إليك يا صديقي محمود ، والذاكرة قد احترقت واخترقتها فجوات و فجوات . .؟
(7) يعد غياب طويل في مهمتي الدبلوماسية في لندن، جئتُ في صيف عام 2003 إلى الخرطوم زائرا. كنتُ يومها في طريقي إلى زيارة بعض أسرتي في ضاحية "جبرة". وقفتُ عند "كشك" لبيع الصحف، وابتعت صحيفة اليوم . . لفت انتباهي أن على واجهة "الكشك" إسم مخطوط بعناية : "مكتبة محمود".. قلت للصبي الذي ناولني الصحيفة : أهذه مكتبتك ؟ قال الصبي : "لا.. هي للمرحوم أبي ، كفيف زار هذه الدنيا وغادرها سريعا ..غدرته الملاريا اللعينة قبل عام .." - هل أنت "ياسر"؟
(8) مات صديقي ميتة الشعراء الذين أحبهم . . دنقل والتجاني والسياب وعبد الصبور، لكنه ترك قصيدة اسمها "ياســر" ، و" مُعـلـقـة" شعرية اسمها " سميرة "…و صديق قديم يرى اسم "محمود" ، مكتوباً ومتأرجحاً في مستطيل النور ، حين يشعَ خلف باب. . فيحزن طويلا. .