استراتيجية التغيير والتحوّل والبقاء: تأمّل في المشهد السياسي السوداني: الحلقة الثالثة

 


 

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم
"فاتحة كل خير وتمام كل نعمة"
منشورات حزب الحكمة:

abdelmoniem2@hotmail.com

خلفية المقياس:
منذ بدء الخليقة لم تتعدّ التجربة الإنسانية محاولة تجسير المسافة بين الواقع والمثال. والذي أدّى إلى اختلاف هذه المحاولات هو تعريف الإنسان للمثال، واتّخاذ المنهج الذي يراه مناسباً لتحقيق هذا الهدف.
والسبب الرئيس في فشل أو نجاح هذه المحاولات هو القدرة على التعلّم، أو عدمه، من التجربة الذاتية أو الاتعاظ بتجربة الآخرين. ونحن نري في حالنا اليوم حصاد جهل السنين فما زلنا نحلم ولا نعمل، ونتكلّم ولا نفكّر، ونفعل ولا نُراجع، وننتظر من السماء أن تسكب علينا رزقاً من غير تغيير.
ونري ذلك بوضوح في حالة الهرج والمرج التي تسود ساحة الوطن. جمع ينعق بما لا يفهم، وقيادة لا تبصر، وغياب للعقل وانتصار للهوى.
لن يتغيّر حالنا ما لم يتغيّر تفكيرنا ومنهجنا فهما مفتاح العلم ولكن لصعود درج العلم لا بُدَّ من إتقان عملية التعلّم. وهناك نوعان للتعلّم وهما التعلّم السطحي، وهو ديدن معظم أهل البلاد العربية، نتيجة المناهج التي تعتمد على الحفظ لا على التفكير التأملي، وهناك أيضاً التعلّم العميق. فنحن درجنا على الانخراط في عملية التعلّم لنحصل على شهادات تمكّننا من الحصول على وظيفة، ولا يهمّ كيف نجحنا في هذه الامتحانات، أو هل فهمنا الذي تعلّمناه أم لم نفهم.
والبلاد التي ارتقت، لم تفعل ذلك نتيجة الحظ، ولكن لأنّ مناهجها التعليمية تشجّع الاستقلالية الفكرية والعملية الإبداعية باستخدام أنواع التفكير الناضج؛ مثل التفكير النقدي والتفكير التحليلي والتفكير الاستراتيجي. وهذا هو أساس التفكير العلمي والمنهج العلمي. وممّا يؤسف له أنّ الإسلام وضع هذه المناهج العلمية ودعا للتعلّم العميق ونحن لم نأخذ من كنزه إلا القشور.
وللتعلّم شروط أربعة لا يتمّ بغيرها وهي:
1- جمع المعلومات او ما تُسمّى بالبيانات، فبغيرها لا يمكن أن تتعلّم شيئاً أو تغيّر شيئاً. وجمع البيانات يتمّ بالمشاهدة العلمية، وهي عمليّة نشطة واعية، كمن يجمع القطن فيقطف زهرة القطن ولا يقتلع النّبتة بأكملها. ونري في عمليات الإحصاء من يجمع البيانات ولكن هناك من يجمّعها بطريقة تجعلها سهلة لتفسيرها، أو لاستنباط المعاني منها، أو لاستنباط نظريات جديدة منها.
ولذلك يتطلّب هذا الأداء معرفة الهدف من الجمع، والوعي بطبيعة المجموع، وكيفية الجمع، وإدراك الوقت والمكان المناسبين للجمع، ومكان تصنيعه. أي يجب أن يكون المنهج علميّاً. والجاهل هو الذي يَردُ الحقل فيقطف أوّل ما تصله يده، ويجرى به ينبّه عليه وهو لا يدري قيمته أو ما يُفعل به.
ولهذا فالتخطيط لوضع برامج فعّالة وفاعلة للسودان لا بُدَّ أن يقوم بعد تقييم حاجات السودان الاقتصادية والاجتماعية بما فيها الصحة والتعليم وما شابه. وهذا يحتاج إلى جمع بيانات شاملة في كلِّ المجالات، لأنّه في غياب البيانات يصير التخطيط ضرباً من الظّن قد يصيب وقد يخطئ ولذلك تركيزي على المنهج العلمي.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالي مثل الجاهل الذي يخمّن ولا يستقصي الحقائق:
" ‫إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ‬ " ‬‬‬‬‬‬‬
ولذلك فقد كان الجواب:
" ‫"وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ ‬‬‬‬‬‬‬‬
فالإجابة هي الرجوع للعلم، والعلم يحتاج لفهم، والفهم درجات منها التفسير، ومنها الاستنباط ومنها الاستقراء. فالتفسير يعتمد على سطحية المشاهدة والرواية وقد يصيب وقد يخطئ لاعتماده على مصادر الرواية والجمع. أمّا الاستنباط ففيه إعمال للتفكير النقدي والتفكير التحليلي لفهم معني أو مغزى الرواية. والاستقراء هو استنباط المعني الخفي من المعني الظاهر، وهو ما يُعرف بالتأويل، ولذلك فتأويل القرآن الكريم لا يقوم به إلا الراسخون في العلم:
" ‫وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ‬ ‬‬‬‬‬‬‬
وفى قصّة سيدنا يوسف عليه السلام مثال لمثل هذا. فعندما روي الملك رؤياه لعلماء بلاطه الملكي قالوا:
" قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ"
ولم يقولوا بتفسير أو استنباط المعني، فإذا أردت أن تفسّر شيئاً يجب أن يكون لك ملكة وذخيرة من المعرفة كالذي يفسر قصيدة مثلاً. وفي حالة الأحلام فالذخيرة المعرفية لا تتوفّر بسهولة وكذلك الملكة.
أمّا إذا أردت أن تستنبط المعاني فهذا يتبع منطق الأشياء، فالأحلام لا تتبع منطقاً واضحاً مثل حالة الصحيان، إذ أنّ المعاني تتغيّر إلى رموز أو شفرات.
ولكن ساقي خمر العزيز جمع البيانات لمن يفسّرها، فأتي بمحتوي الرؤيا لمصنع العلم، الذى ثبت صلاح إنتاجه وصدق مُنْتَجِه بتجربته الخاصّة، فقال:
" ‫أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ‬ " ‬‬‬‬‬‬‬
وفي تلك التجربة فقد استخدم سيدنا يوسف عليه السلام مصطلح التأويل ووضّح مصدر المعرفة والملكة كعلم من عند الله:
" قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ
2- والمرحلة الثانية بعد جمع البيانات الصحيحة هي درسها: (من درس الحبوب وهى عملية التصنيع للمعلومات حتى تنقّى الأفكار والمفاهيم الصالحة من الطالحة)، وهى مرحلة مبادرة نشيطة، وأيضاً هي قلب عملية التعلّم، الذى تدخل فيه التجربة السابقة والحالية مع قراءة السياق قراءة صحيحة.
والتّمحيص لا يتمّ بغير مصنع كامل الآلة بالعلم، وهؤلاء العلماء حُمَّال الأمانة ما كان الله ليعطيهم هذه المسئولية حتى يختبرهم ويزكّيهم بنار التّقوى:
" ‫مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ‬ " ‬‬‬‬‬‬‬
ولذلك فقد نجح سيدنا يوسف في امتحان الغواية حتى يُصطفى بالتّقوى، واستحقّ مكانة العالم.
3- والمرحلة الثالثة هي النّاتج أو المحصول: من البديهي أن لكلّ عملية تمحيص ناتج أو محصول، ونوعية هذا الناتج هي التي تحدّد صلاحيّته من غيرها إن اشتراه النّاس وجرّبوه وكانوا منصفين.
وفى قصّة سيّدنا يوسف عليه السلام كان النّاتج هو تفسير رؤيا ساقي خمر الملك، ثمّ رؤيا الملك، ولم يكن الملك ليؤمن بكلام سيّدنا يوسف من غير دليل، والدّليل هو عفّته عندما راودته امرأة العزيز، وشهود قريبها ضدّها وهي ملكة وهو مملوك. وأخيراً ثبوت صحّة تأوليه لرؤيا الفتيان في السجن.
وهذا يعنى أنّ المولى محّص إيمان سيّدنا يوسف، عليه السلام، باختباره بخيانة إخوته، وغربته، وبعده عن حبّ وحنان أبيه وهو صغير يتيم، وعبوديّته، وابتلائه بامرأة العزيز، وبالسجن، فمثل هذا المصنع الذى ركّبت آلته يد الرحمن يخلو من الدَّخَنْ ولا يُخرج إلا طيّباً.
4- والمرحلة الرابعة هي أثر النّاتج على الآخرين، ومراجعة مدى الأثر عليهم. وهو يعتمد على طريقة العرض، وعلى المعروض عليهم، والسياق الذي يحدث فيه العرض. وإذا رجعنا لقصّة سيدنا يوسف، عليه السلام، لوجدنا أثر علمه على الآخرين وعلى حياته، فنتاج علمه الأوّل جعل ساقي الملك يرجع إليه كالذي يشترى فاكهة طيّبة من أحدٍ فتعجبه فلا يملك إلا أن يرجع ليشتري منه غيرها. ولهذا فقد قرّر الملك أن يستأثر بهذا الإنسان العالم المخلص والمُتّقي:
"وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي‬ ".
وإذا تأمّلنا قصص الرسل والأنبياء وعتاة الكفّار نجد الفارق بينهم هو استكمال شروط التعلّم للرسل والأنبياء ونقصها لدى الكفّار. وفى قصّة سيّدنا يونس، عليه السلام، أجمل مثال، فلم يتركه المولى عزّ وجلّ حتّى أدخله في تجربة ليمحّصه بها وليعلم مدي جهله بطبيعة مهمّته، فاستغفر لمّا أدركه الوعي وفارقته الغفلة، فكان فيه نجاته ونجاة قومه.
فإذا أردنا أن ننهض بوطننا الحبيب فلن نفعل ذلك ونحن نجهل احتياجاتنا في وطن واسع تختلف تضاريسه وشعوبه. وإذا كانت لدينا رؤية لهذه النهضة فيجب أن تقوم على أسس علمية بجمع البيانات، وتصنيفها، ودراستها، وتمحيصها، وتحويلها إلى خطط وبرامج عملية لنتمكّن من تنفيذها على أرض الواقع، ثمّ تُراجع من بعد التنفيذ. فإن نجحت درسنا أسباب نجاحها ووسّعنا مجال تطبيقها، وإن فشلت درسنا أسباب فشلها وقوّمناه أو اتّخذنا خططاً بديلة. وهكذا تقوم التنمية المستدامة النامية والمرنة والحسّاسة لعوامل التغيير، فمنها ينبثق السلام والعافية.
أمّا الغوغائية التي تسود الشارع الآن فستجرفنا نحو الفوضى، وتخلق واقعاً أسوأ، إذا لم نُحكّم عقولنا ونعقل عواطفنا.
وسنواصل إن أذن الله سبحانه وتعالي
ودمتم لأبي سلمي

 

آراء