السودان … نحو مجتمع علمي وديمقراطي
يوم أن تكالبت القوى الرجعية على رئيس الوزراء الأسبق الراحل المقيم محمد أحمد محجوب وعزمت على إزاحته من كرسيّه دونما حق إنما إدعاء لقدسية وأحقية تاريخية، وقف بكبريائه وإبائه مخاطباً ومنبهاً لتلكم الأفاعي، التي لم يسلم السودان من سمومها مذئذٍ وحتى يوم هذا، وقائلاً "أن الطريق ليس مفروشاً بالورود والرياحين"، بل زاد عن حياضه بالإبيات الأتية:
أنا يا شعب ما طويت علي اللؤم جراحي و لا جرحت اعتقادي
و كفي المرء فخرا أن يعادي في ميادين مجده و يعادي.
وإذا لم يشأ المحجوب (أب زرد) أن يفسد على أبناء الألهة نشوتهم بالسلطة ولهفتها لبريقها حينها، فقد تكفل الدهر بإلهائهم وإغوائهم ومرمطتهم حتى باتوا يستجدون رعاع العسكر وأسافل البشر وينشدونهم الرحمة كي يتصدقون عليهم بكرسي يحفظ لهم ما بقى من مجدهم السافل الأفل. وإذا كان المحجوب قد عادى في ميادين المجد وعودي، فهؤلاء قد عادوا في ميادين البخل والحرص والتنكب على قيم الخير والفضل والإيثار. فضاعوا وأضاعوا، لولا تجلي الكريم ورأفة الجيل الذي اعتزم انتشالنا من براثن الخنوع ومجاهل الفتن.
حددت الثورة رؤاها وأهدافها، وأعملت قوى الحرية والتغيير جهدها لتحديد الإطار الذي يمكن أن يتم فيه التواصل وعرَّفت الميثاق الذي يجب أن يحكم صيغ التعامل بين السلطات المختلفة. ويقنن طريقة تفاعلها فيما بينها. بقي علي رئيس الوزراء المرتقب أن يضع الخطة الإستراتيجية الوطنية، يرتب سلم الأولويات ويستحدث الآلية اللازمة والمناسبة للتنفيذ والمتابعة لئلا تنحرف البرامج عن النتائح المحددة سلفاً نتيجة الضعف في التنسيق بين الهيئات أو الوزارات المختلفة أو تنحرف النتائج عن النتائج الوسيطة متأثرة بالشروخ في دائرة تصميم وتنفيذ السياسات التي تحدث نتيجة لضعف التفاعل/التواصل بين الهيئات العلمية، المجتمعية والسياسية.
لقد إنتهي دور الناشطين ووجب علي المختصين والعالمِين، حتي إن لم يكونوا مخولين للنظر في الآتي:
• مراجعة الهيكل الإداري للدولة والنظر فيما يمكن دمجه ومايلزم إلغاءه حتي تكون هنالك حكومة رشيقة.
• الإستعانة بالمختصين السودانيين وغيرهم في كافة المجالات لتقديم المعونة الفنية والمهنية اللازمة.
• تحويل السفارات لإستقبال المبادرات، عقد ورش لتمحيصها في البلد المعني، وفتح قنوات لإيصالها مباشرة لوزارة التخطيط المركزي.
• إستقطاب افضل 2% من العلماء المقيمين في السودان، والسعي عاجلاً لإعادة تأهليهم نفسياً وإجتماعياً وعلمياً، كي يتهيأوا للإنخراط في العمل التخطيطي غير مستصبحين لآفات العمل في مناخ الإنقاذ الأسن والمتعفن.
• إستحداث وزارة أو أمانه عامة للتخطيط التنموي والإحصاء.
إن غرس ثقافة الحوكمة يتطلب التواصل الدؤوب مع الجماهير عبر الإعلام، تفاعل التنفيذيين مع كافة القطاعات وتعريف الجمهور بالخطة وأهدافها وكافة مراحلها دونما إغفال للتنوية بدور أصحاب المصلحة في إعانة الدولة علي إعداد الخطة، تذليل الصعاب والتغلب علي التحديات التي قد تعترض المسيرة. إن إستقطاب أناساً لوزارة التخطيط لهم مقدرة علي التحليل، النقد، الفلسفة والتنظير، أمر ضروري وحيوي. كي لا يستحيل التخطيط التنموي إلي إجراء روتيني يفتقر إلي الحيوية العلمية وتنعدم فيه الدينامية اللازمة لإعادة النظر في الأهداف والوسائل المناسبة لتحقيقها لابد من الإستعانة بالمؤسسات الإقليمية والدولية، بيد أننا يجب أن لا نركن لمنشوراتهم التي توثق للممارسات الفضلى ونتقبلها دون تمحيص.
إنّ تحقيق الأهداف العليا للثورة متمثلة في الحرية والسلام والعدالة يتطلب وجود ديمقراطية إقتصادية، ضوابط إعلامية، وقدرة علي تحييد دور السلاح، إقحامه كوسيلة لفض الإشتباك السياسي الذي هو كائن لامحالة. فإستحواذ رموز النظام السابق علي مصادر المال وتوظيفهم إياه لشراء رموز إعلامية أو ترفيع أخري وضيعة والدفع بها لصالح الإستنصار بالقوات النظامية حال حدوث خلاف سياسي قد وضع البلاد علي شفا جرف هار ومازال. إذا أيقنا بأن الثورة المضادة ما زالت تحتفظ بألويتها الإقتصادية، المالية والعسكرية، فإننا سنتخذ من الوسائل ما يبطل مفعولها، بمعني يقوض قدرتها علي بث السموم، يوظف إمكانتها لصالح الثورة، ويعيد النظر في كيفية تمليك أسهمها للمواطنين والعاملين خاصة دون أن يقنن لاحتكارية بديلة. كتب الدكتور مجدي كامل مقالة بعنوان " الاعلام الذي يقتل ويمشى في جنازة القتيل" على صفحته في الفيسبك تنوه إلى الأتي:
" سؤال السياسة التحريرية المتبعة حالياً في المؤسسات الإعلامية الحكومية والخاصة في السودان من قنوات وصحف يعد احد الأسئلة العالقة غير المتوفر على اجابة واضحة: ما هي سماتها ومحدداتها وهوياتها؟ هل جرت تعديلات متفق عليها بين هيئات التحرير وقيادات المؤسسات الإعلامية وفق ما هو متبع في المتغيرات السياسية التي تقع؟ بل وفق أي مبررات يتم ذلك؟ هل الانحياز للمجلس العسكري هو الهادي للبوصلة الحالية؟هل المبرر التجاري هو الذي يتصدر المبررات؟ ام يترك الأمر على هوى المحررين والصحفيين والمنتجين الإخباريين واتجاهاتهم واختياراتهم الشخصية؟ .... مكمن حرج الإعلام الحكومي والخاص في هذا الخصوص و في هذه الظروف هو التغيير الذي سيقع بعد تشكيل الحكومة المدنية و بالتالي عدم قدرته على خلق وضعية التضاد والصدام مع مالكي المؤسسات الإعلامية ذوي الانتماءات والميول والالتزامات السياسية الواضحة للنظام السياسي والأيديولوجي القديم في خدمة مصالح بقائه ( ما عدا قلة منهم) . السياسة التحريرية هي جملة المواقف والمبادئ التي تنطلق منهاوترتكز عليها أي موسسة إعلامية ، فكيف يا ترى تمضي داخل تلك المؤسسات علما بان المراقب يلاحظ انها وفي العدد الغالب من القنوات والصحف تبذل جهودا براغماتية لا تخفى مكراً وتحايلاً على جمهور القراء والمستمعين والمشاهدين في علاقتها بالثورة مثلما هي السهرة التي أشاهدها حاليا لمجموعة من المطربين الذين يجتمعون على غناء هابط بالثورة يذكرنا موقف المطربين التاريخي بالانقلابات وليس الثورات. ذلك هو الوضع الخطأ الذي يحتاج وبتفكير علمي ينحاز لعلوم الإعلام لمعالجة سريعة وحاسمة دون ارتهان لأي عواطف. هذا ان اردنا تعطيل مصادر الفتنة والإرباك للرأي العام المنحاز للثورة والتغيير."
وإذا كان الإعلام مهماً لأداء دور سياسي حرج في هذه المرحلة، فإن دوره في تنمية الذات الثقافية والإجتماعية أهم. يسانده في ذلك التعليم الذي يجب أن لا تقتصر أهدافه علي ما هو مادي، بل أن يتعدي ذلك لإثراء الشخصية المعنوية وإعطائها فرصة التفاعل من الأخر وليس فقط مساكنه وجدانياً. لقد تشكل هذا الوجدان في مناخات أقل مايقال عنها أنها غير معافى، وتبلورت هذه الشخصية في ظروف غير إنسانية جعلتها ضحية لأساطير وأكاذيب، كانت فيها الإحالة إلي القدر والإستسلام للرؤية الغيبية. لا عجب أن قد عاشت قروناً في غربة ذاتها وعن محيطها التاريخي والجغرافي.
يحكي د. عبدالله الطيب أنه أصطحب وفداً أجنبياً إلي البجراوية. فلم يستقروا حتي تطوع احد الأعراب ، وتحدث إليهم من فوق جمله، عارضاً خدماته للتعريف بالأهرامات. كانت البداية دالة عن عجز هذا الكائن للتساكن مع تاريخه وأرضه، إذ قال لهم معرفاً:"دي قصور الكفرة، القصر الكبير دا قصر أبو جهل." نحن إذن نعيش في جغرافيا بذاكرة تاريخية إذا جاز لي إستخدام تعبير الصديق أمير صديق. ليس المشكل في إعتقادنا عن أنفسنا وتوهمنا في ذاتنا، إنما في طريقة تفاعلنا مع واقعنا. إذ أن الغربة النفسية والشعورية تُفقد الإنسان خاصية التوافق مع المكان وتعدم فيه الرغبة لتطوير هذا المكان والبحث عن سبل لتطويره وإزدهاره.
لا يخفق النظام التربوي والتعليمي الحالي عن تأهيل الإنسان حضارياً وتمليكه سبل الإزدهار المادي فقط، إنما يتخذ من ذهن الطالب مَكباً لنفايات فكرية ومن وجدانه حيزاً لخرافات أدبية. لا أخفي تحفظي من الوسيط، فاللغة العربية تخلفت عن الركب الحضاري والإنساني نتيجة تخلف أصحابها في الميادين العلمية كافة والتنموية خاصة وما فيها من موروث رغم عظمته ما عاد يخدم الأهداف الإنسانية للألفية. نخلص إلى أنه لابد من إعداد لجان متخصصة لمراجعة المناهج والتركيز علي الأطفال من سن الثالثة، كي ينشأوا وهم بُرآء من العقد النفسية والعلل الإجتماعية التي حالت دون تحقيق الحرية والسلام والعداله. كما لابد للتعليم أن يرتبط بحوجة البلاد الإقتصادية، الأمر الذي سأتكلم فيه لاحقاً لكنني أود أن أشير إلي أهمية إعانة الأجيال القادمة علي اكتساب مهارات تتوافق ومتطلبات عصرهم. فالرؤية الحالية لا تكفي، إنما لابد من رؤية إستشرافية تنظر إلي أهمية إتقان مهارات تحتاجها السوق المحلي والعالمية.
ختاماً، فإنني أعُوَل في هذه السانحة علي حصافة القارئ للتفريق بين رؤيتي للتنوير المعرفي، الحضاري والإنساني، ورؤية الإنقاذ التي عمدت فيها علي إعادة صياغة شخصية الإنسان السوداني: موقف الثوريين الحاليين موقف ثقافي ثوري وموقف الإنقاذيين سياسي إستلابي، وتآمري يريد وبدوافع أيديولوجية أن يلحق هذه الذات بذوات أخري تزيد من غربتها، فيما يسعى الثوريين لإكسابها مناعة ضد هذا النوع من الإستلاب، صيانتها من الضياع والتوظيف غير السوي. إن للقيادة دور في توطين السلوك الحضري مأسسة القيم الديمقراطية، بعث الأمل في الأجيال، تحفيزها لتملك سبل الإبتكار، وتعريفها بأدوات التواصل والتفاعل مع أفراد القرية الكوكبية.
auwaab@gmail.com