حرصت على حضور حلقة برنامج "بلا قيود"، التي كانت ضيفتها الأستاذة عائشة السعيد، وذلك لأن لغطاً كبيراً أحاط بها، مفاده أن بي بي سي القناة صاحبة البرنامج، سعت للترويج للحلقة بوضع عبارة خلافية عن رفض السيدة المحترمة عائشة السعيد للشريعة الإسلامية.
وقد كان توقعي في مكانه، حيث أن السيدة عائشة بينت إنها ترفض النسخة الرائجة عن تطبيق الشريعة الإسلامية، وأن السودان (بلدٌ متعدد الأعراق والأديان والثقافات، ونريد أن نحافظ على أهل السودان جميعهم)، وهذا يتطلب ألا تكون هناك نسخة تحمل قوانين أو مفاهيم إقصائية لأي مكوِّن من مكونات بلادنا، حتى ولو سمَّاها مروجوها(شريعة)، في الوقت الذي ظلت القيم والأخلاق التي يدعو لها الكتاب الكريم - هكذا قالتها- موجودة، والسودانيون متدينون بطبعهم.
لقد ثار غبار كثيف في الأسافير بعد نشر الترويج، خصوصاً من المحسوبين على التيارات الإسلامية، وهؤلاء نسوا أو تناسوا أن البشير الذي يقبع الآن وراء القضبان وصحبه كانوا يهتفون بالشريعة، ويؤكدون التزامهم بها ويقولون إنهم محاربون في دينهم، وإن دول "الاستكبار" لا تريد مجداً لهذا "الدين" ولا تريد له أن ينتشر!!
يقولون ذلك بلسانهم وأياديهم توغل في الدماء وتسرق قوت الأطفال وتعيث فساداً في موارد البلاد وسلوكهم وأخلاقهم وتصرفاتهم عار كلها؛ كل هذا في الوقت الذي كان يظن أهل الظن الحسن- أو السيئ ربما لأن لكل امرئ ما نوى - أن من سينشرون الدين في بلدنا هم أهل الإنقاذ وأهل الإنقاذ قد أسرفوا في تثبيت هذا الظن وكأنما الإسلام أشرقت أنواره في السودان صبيحة الجمعة 30 يونيو 1989، أو ربما أن عبدالله بن أبي السرح ومن تلاه ممن تسامحوا مع أهل السودان وتداخلوا معهم بسلام ومودة طيلة فترة تنفيذ اتفاقية (البقط) كانوا ضمن عضوية الحركة الإسلامية!!
"شريعة" يلفظونها قولاً ويتجنبونها فعلاً، ويلتفون على مبادئها التي تحرم الكذب والخيانة والاغتيالات والتعامل بالربا وأكل السحت والفساد وظلم العباد، لا نريدها. شريعة يظن من يدعون لها أنهم أصحاب الأمانة من الله وحدهم لا شريك لهم، وبذلك هم أحق بحكم بلادنا، لن نقبلها..
شريعة تفرق بين المواطنين على أساس الدين، فترفع هذا وتهبط بهذا، لن تحمي وحدة بلادنا..
شريعة دُسَّت في ثنايا انقلاب عسكري، لا ولن تشبه سماحة الدين، ولن ترتقي لنصاعة منهجه.. وما بُنى على ذلك هو مشروع الإنقاذ، لا مشروع الأركان الخمسة..
ما نريده هو المودة والرحمة، وما نفهمه هو أن الدين المعاملة، وأن الدين الإسلامي يتمم مكارم الأخلاق لا ينسفها ويعدمها.. إن بلادنا بها من الدين ومعانيه والعمق في فهمه ما لا يسعه ماعون الحركات والتيارات الإسلاموية في كل العالم.
يكفينا فخراً في السودان أن الإسلام لم يأت إلينا عبر صليل السيوف، ويكفينا فخراً أن أجدادنا لم تهزمهم جيوش بن أبي السرح، بل هزَّتهم معاني الدين الإسلامي السامية، وأسرتهم معاملة المسلمين وتواضعهم وعلمهم وصدقهم، فأذنوا لهم بإقامة المساجد وبنشر تعاليم الدين وتدريبهم على كيفية العبادة دون منٍّ أو تكبر، فدخلوا في دين الله أفواجا سالمين مسالمين، لا مرعوبين مهزومين..
أما وقد تم بث البرنامج، فهناك رسالتان يجب أن نضعهما: الأولى لقناة البي بي سي وهي إن لي العبارات واجتزاء بعضها لتوافق هوى عند المشاهدين ليست طريقة مناسبة للترويج للبرامج، وما صيت قناتكم إلا لما عرفتم به من مصداقية، فنرجو أن تنتبهوا لما تجركم له شهوة إثارة الضوضاء.. ثم إن اسمها شريعة وليست شرعية وعلى نوران السلام..
الثانية للذين يدَّعون أنهم يعملون من أجل الإسلام، ويدعون أنهم حماته: فإن من بين مبادئ هذا الدين تبين الأنباء والتحقق منها، حتى لا يُصاب الناس بجهالة وعن جهل.. ومن مرتكزاته كذلك درء الفتن والإصلاح وإشاعة السلام، وما سكتنا عن لغوكم في هذا الأمر، وربما قد نتجاهلكم في غيره، إلا عملاً بالحكمة في بيت الشعر: لو كل كلب عوى ألقمته حجراً لأصبح الصخر مثقالاً بدينار
أصمتوا بالله عليكم فقد آذيتمونا في ديننا – بصراخكم - قبل آذاننا وعيوننا..