الرحالة والإداريون الأوربيون في السودان قبل وبعد المهدية .. ترجمة وتحرير: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

 

Europeans Travelers and Administrators before and after the Mahdiyya

Gabriel Warburg جبريل واربورغ
ترجمة وتحرير: بدر الدين حامد الهاشمي
**** **** ****
تقديم: هذه ترجمة مختصرة لمقتطفات من مقال طويل لبروفسير جبريل واربورغ نشر في عام 2005م بالعدد الحادي والأربعين من مجلة "دراسات الشرق الأوسط Middle Eastern Studies"، اخترت منه ما له صلة مباشرة بمسألة تاريخ الرق في السودان.
ولد واربورغ في برلين بألمانيا عام 1927م، وهاجر مع عائلته لفلسطين وهو طفل صغير وبقي بها حتى عام 1946م حين أكمل دراسته بكلية للزراعة، ثم درس تاريخ الدول الإسلامية في الجامعة العبرية بالقدس (بين عامي 1961 و1964م) واللغة العربية وآدابها في جامعة لندن، التي تحصل منها أيضا في عام 1968م على درجة الدكتوراه بأطروحة عن "إدارة الحكم الثنائي بين عامي 1899 – 1916م". وعمل بعد ذلك أستاذاً في جامعة حيفا حتى تقاعده في عام 1996م.
نشر الرجل الكثير من المقالات المحكمة والكتب عن السودان ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى، منها كتاب بعنوان "الإسلام والقومية والشيوعية في مجتمع تقليدي: حالة السودان "، وكتاب "إعادة الشريعة الإسلامية في السودان في عهد النميري "، وكتب أخرى، إضافة لعدة مقالات عن الإخوان المسلمين، وأنصار المهدي، والحزب الشيوعي السوداني. وسبق لنا أن قمنا بترجمة شذرات من بعض كتب ومقالات هذا المؤرخ.
المترجم
************ ************* ***************
يوهان البرت فيرنر مونزينقر (1832 – 1875م)
ولد مونزينقر في سويسرا ودرس في بيرن وميونخ وباريس والقاهرة. وفي أثناء وجوده في مصر التحق بالشركة التجارية الفرنسية التي أوفدته إلى كردفان وبوقوس Boghos والبحر الأحمر. وانضم مونزينقر في عامي 1861 – 62 م إلى حملة ترأسها تي. فون هوقلين أرسلت للبحث عن مستكشف ألماني اسمه ايدوارد فوقل فُقد أثره في وداي عام 1856م (ورجح مونزينقر أنه قد قتل). وترك مونزينقر تلك الحملة ليطوف في منطقة حوض القاش ونهر أتبرا، ثم آب إلى الخرطوم ليلتحق بتلك الحملة، ولكنه أخفق في دخول سلطنة دارفور. وفي عام 1864م صار مونزينقر قنصلا لفرنسا في مصوع، وفي عام 1870م التحق بخدمة الخديوي، وعين في العام التالي حاكما على مصوع، تحت قيادة أحمد ممتاز باشا حاكم عام شرق السودان. وضُم الإقليم لاحقا لمصر وأطلق عليه اسم (سنهيت)، وشمل كل ما كان تحت السيطرة المصرية على البحر الأحمر من ساحل الصومال إلى نهر ستيت. وتسبب ذلك الضم في حرب بين الحبشة ومصر في عامي 1875 – 76م (يمكن النظر في المثال المترجم بعنوان: "ثلاث سنوات من الهيمنة السودانية على ساحل الصومال، 1877 – 1880م". المترجم). وفي أيام تلك الحرب بين مصر والحبشة قاد مونزينقر (ومعه زوجه التي تنتمي للبوقوس وطفله منها) حملة لينضم لجنود منيلك حاكم شوا (Shoa) الذي كان يحارب الملك يوحنا. وقتل مونزينقر وزوجه وطفله في تلك الحرب على يد رجال قبائل صومالية.
وكان مونزينقر يرى أن حكام مصر والحبشة آنذاك كانوا لا يقيمون وزنا كبيرا لسكان سواحل تلك المناطق (الواقعة على البحر الأحمر) لاختلاف ثقافتهم وحضارتهم عنهما. ويصدق ذلك – في رأيه – على سكان المناطق الصحراوية الفاصلة بين كردفان ودارفور، وبين دارفور ووداي. فهي تعد أراضٍ هَمَل لا يملكها أحد بعينه (no – man’s land). وهنالك أيضا عامل الدين. فقد اعتنقت مصر الإسلام، وبذا صار أهلها يعادون المسيحيين والوثنيين من سكان تلك المناطق الساحلية. وكان اعتماد مصر بصورة كبيرة على مياه النيل الأزرق سببا آخر للنزاع مع الحبشة، التي بها منبع ذلك النهر. لذا تنبأ مونزينقر بحتمية قيام حرب بين البلدين في "المستقبل القريب". وثبتت بالطبع صحة نبوءته.
وبالإضافة لذلك فقد كانت مصر في حاجة للأيادي العاملة، للتجنيد في جيشها الحديث التكوين، وللعمل في مشاريعها الزراعية الجديدة التي قرر محمد علي باشا (وأفراد أسرته الحاكمة) إنشائها بعد أن حثه /أمره الأوربيون بذلك. لذا كانت لأعالي النيل أهمية كبرى لمصر، ليس فقط بحسبانها مصدرا للمياه، ولكن أيضا من أجل قيام تجارة رائجة للرقيق، في المناطق النيلية، وعلى الحدود الإثيوبية.
كتب مونزينقر ببعض التوسع عن الرق وتجارة الرقيق، ووضح من نوعية كتابته أنه كان يكتب عن تلك التجارة بطريقة واقعية وعملية وخالية من العواطف، بخلاف الطريقة التي كتب بها الأوربيون الآخرون الذين كانوا قد زاروا المنطقة قبله أو بعده. وهنا ينبغي أن ندرك أن الرق في السودان كان، كما هو الحال في مناطق أخرى من أفريقيا، شائعا، حتى في عصور سابقة. ونعلم عن شيوع الرق في عهد (سلطنة) الفونج، حيث كان المسترقون يستخدمون في الأعمال الزراعية، وفي الحروب، عند الحاجة لتعويض الفاقد من الجنود الذين كانت أعدادهم في اضمحلال. ومَيّز بروفيسور جاي اسبولدينق منطقة النيل الأزرق بحسبانها أكثر منطقة شاع فيها استخدام الرقيق بأعداد كبيرة في الأعمال الزراعية عوضا عن استخدام العامة من غير المسترقين "الأحرار".
ويُعد الوصف الذي قدمه القسيس الكاثوليكي ثيودورو كرمب (المولود في 1660م في القرية البافارية آي شاخ Aichach. المترجم) لسنار بين عامي 1700 و1702م أقدم وأهم مصدر لدينا حول تاريخ السودان فيما قبل عصر الاستعمار. فقد كشف لنا وصفه عن تفاصيل هيكل بنية سلطنة الفونج وتسيير الأعمال فيها في ذلك الوقت، وقدم لنا معلومات قيمة عن التجارة والتبادل التجاري عبر الصحراء، خاصة تجارة الرقيق. وعند وصوله لسنار في عام 1700م وصف كرمب المدينة وسوق الرقيق كما يلي:
"يجب أن نعلم أنه ربما تعد سنار أكبر مدينة تجارية في كل أفريقيا (وإلى بلاد المغرب / البربر). فقد كانت تقبل عليها القوافل باستمرار من القاهرة ودنقلا وبلاد النوبة، وعبر البحر الأحمر، ومن الهند ودارفور وبورنو وفزان وممالك أخرى".
وذكر كرمب أن تعداد سكان سنار ربما كان مقاربا لعدد سكان القاهرة، وأن سكانها كانوا من أعراق وأديان متعددة. وكان يقام يوميا في وسط المدينة سوق للرقيق يمكن للمرء فيه شراء كل شيء. وتوسع كرمب في وصف تجارة الرقيق في ذلك السوق فذكر أنه:
"كان يُجلب لذلك السوق يوميا بشر مسترقون من الذكور والإناث من مختلف الأعراق ويباعون كالماشية. ففي كل صباح يعرض في السوق ما بين 200 إلى 300 من هؤلاء المسترقين. كان التجار الأتراك – بحسب ما تسمح به قوانينهم – يستعبدونهم ثم يحضرونهم للبلدان الأخرى مثل مصر والهند حيث ينالون من بيعهم مكاسب حرام! وكان صغار المسترقين والمسترقات الذين تقل أعمارهم عن 12 سنة يعرضون عرايا كما ولدتهم أمهاتهم، بينما يستتر من هم في سن أكبر بخرق بالية يلفونها لتغطية عوراتهم. وعندما يجد البائع مشتريا محتملا يسمح له – دون حياء أو خجل – بتفحص من يرغب في شرائه / شرائها، ويفتح الفم ليرى الأسنان، ويتَحَسَّسَ كل أجزاء الجسم وكأنه سيشتري بقرة. فإن سره ما رأى قدم عرضه لشراء ...."
ولم تكن للمسترقين أسعار محددة. لذا فقد كان من يرغب في الشراء يُجري أولا مُفَاوَضَة مطولة لإنقاص الثمن. وذكر كرمب الأسعار التالية للمسترقين المباعين في سوق سنار:


"يباع الصبي المسترق وهو في عمر الخامسة عشر بمبلغ ثلاثين فلورن (عملة ذهبية أوروبية. المترجم)، وإن كان قويا حسن الشكل فيباع بأربعين فلورن. أما إن كانت مسترقة في ذلك العمر فتباع بخمسين أو ستين فلورن (بحسب لون بشرتها). إما إن كانت المسترقة إثيوبية فيرتفع السعر إلى ثمانين."
وهنا يمكننا أن نستشهد بما جاء في مرجع حديث نسبيا عن الرق في أفريقيا متعلق بأسعار المسترقين، خاصة بعد أن غدا الطلب على امتلاك الأرقاء أكبر من المعروض منهم (المرجع هنا هو كتاب همفري جي فيشر المعنون "الرق في تاريخ أفريقيا السوداء المسلمة Slavery in the history of Muslim Black Africa" الصادر بلندن عام 2001م):
"لقد ظل البشر دوما من المصادر النادرة عبر القرون في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بكل المناطق تقريبا ... ولعل سوء التغذية والأمراض عند البشر والحيوانات والجفاف وغزو الجراد وفشل الزراعة كانت كلها من أهم أسباب ذلك العجز الديموغرافي المتكرر. هذا بالإضافة إلى عوامل الفقر النسبي وندرة الموارد الطبيعية والأراضي الخصبة ونهب الماشية (خاصة المعز)، والغارات، وحملات الاسترقاق والحروب، وتعدد الزوجات (؟!. المترجم)، وارتفاع معدل وفاة حديثي الولادة، ووفاة الأمهات عند الولادة، والبطء النسبي في تعويض الفاقد من موتى البشر مقارنة مع الحيوانات، وكل العوامل التي تفضي لتقصير متوسط العمر المتوقع ..."
وعند إشارته لتجارة الرق في النيل الأزرق ذكر مونزينقر أن الشيء (الوحيد) الذي اتفقت عليه كل الدول الأوروبية هو أنه يجب إيقاف تجارة الرقيق. وعلى الرغم من الوعود التي بذلتها سلطات المصرية والعثمانية لإيقاف تلك التجارة، إلا أن شيئا من ذلك لم يتحقق، بل بقيت تلك التجارة في ازدهار مضطرد، ودون عوائق تذكر. وعندما سافر مونزينقر عبر البحر الأحمر بين جدة والسويس على ظهر باخرة مصرية حكومية في يناير 1863م وجدها تحمل نحو 200 من المسترقين أنزلوا في السويس دون أن يثير ذلك أي اهتمام من أحد من الناس. وسأل مونزينقر بعض المصريين من رفقاء السفر عن سبب إنزال مسترقين بمصر وهي قد تبنت سياسة منع الرق، فأجابوه دون خوف أو تردد بأن مصر في أشد الحاجة لتعويض النقص في أعداد المزارعين بالبلاد بعد أن ذُهب بهؤلاء للعمل في حفر قناة السويس. ولم تتوقف تجارة الرقيق في السودان أيضا، فقد شاهد المؤلف بأم عينيه مئات المسترقين يباعون في "سوق الرقيق" في الأبيض حاضرة كردفان. وهذا ما يثبت أنه على الرغم من وجود العديد من الفتاوى التي صدرت في أمر تجارة الرق وتحريمه، إلا أن شيئا من ذلك لم يتحقق إذ أن المتطلبات الاقتصادية والعادات الاجتماعية كانت قد فرضت استمرار تلك التجارة دون معوقات.
ولن يتيسر لنا أبدا معرفة أعداد المسترقين (بأفريقيا) في أي وقت من الأوقات. غير أن همفري فيشر كان قد قدر عددهم في كتابه المعنون (الرق في تاريخ أفريقيا السوداء المسلمة) بما يساوي أو يفوق نصف عدد السكان.
بالإضافة لذلك أشار مونزينقر في كتابه إلى إيمان "الشرقيين Orientals" بأن "المسيحية كانت تهدف لمنع الرق حتى تقضي على الإسلام"، حين ذكر في كتابه أنه:
"ينبغي أن نتذكر ما يسود في الشرق من رأي – رغم أنه قد يبدو غريبا – يذهب إلى أن المسيحيين لا يهدفون من إلغاء الرق سوى تدمير الدولة الإسلامية."
وعلى الرغم من أن مونزينقر قد وصف ذلك الرأي بالسخافة واللامعقولية وبأنه خيالي تماما، إلا أنه أضاف أن الرق ضروري في المجتمع المسلم اليوم (أي عند تاريخ كتابة مؤلفه. المترجم)، تماما كان ضروريا بالنسبة للإغريق والرومان في العصور القديمة. وكان مونزينقر يدرك بأن المسترقين السود هم من كانوا يؤدون كل الأعمال اليدوية (الوضيعة في الأصل. المترجم) في ذلك الوقت بالسودان، ولكنهم كانوا، في كثير من الحالات، أفضل حالا وهم مسترقين. لذا كان مونزينقر يرى بأن:
"الرق هو جزء لا يتجزأ من الحياة في الشرق / الإمبراطورية العثمانية، ولا يستطيع أحد (ولا ينبغي له) أن يحاول اقتلاعه باتفاقية أو قرار يُخط على الورق، كما يعتقد – خطأً – كثير من الأوربيين، فالقرارات والتدابير الجزئية half measures (أي تلك القرارات الضعيفة التي تتخذ دون دراسة ولا رغبة حقيقة في تنفيذها. المترجم) لا يمكنها إلا أن تُحدث المزيد من الضرر."
لذا فقد كان مونزينقر يرى بأن أوروبا بإصرارها على منع الرق في أفريقيا لا تفعل شيئا سوى مضاعفة بؤس القارة وسكانها. فقد ساءت أحوال التجارة بذلك التدخل الأوروبي، وارتفعت الأسعار بسبب تزايد عوامل الاختطار (risk) التي صارت ملازمة لتلك التجارة التي غدت "غير قانونية"، وما كان يقوم به الأوربيين من تحرير المسترقين عنوةً وهم في القوافل المتجهة للأسواق. وغضب السكان المحليون مما عدوه تدخلا - غير مرغوب فيه – في شأن محلي يقره دينهم، وهو بالتالي في نظرهم لا يخالف القانون.
وذكر مونزينقر بأن غالب المسترقين كانوا من الأطفال الصغار من الجنسين والنساء إذ أن الرجال كانوا في كثير من الحالات يلاقون حتفهم في المعارك التي تشن لجلب الرقيق.

**** ***** ****
أوغسطس بلاندي وايلد Augustus Blandy Wylde.
جاء في قاموس السير الذاتية في السودان للمؤرخ ريتشارد هيل أن البريطاني أوغسطس بلاندي وايلد عمل قنصلا لبلاده في جدة، وعمل أيضا في مجال تزويد القوات البريطانية في سواكن بالأغذية في غضون سنوات المهدية. وكان هو من أوصى اللورد ساليسبوري برفع الحظر عن التجارة مع دولة المهدية. قضى الرجل عددا من السنوات يعمل على ساحل البحر الأحمر في ميادين تجارة الحيوانات البرية، وتزويد القوات المصرية والإثيوبية بالأغذية والأزياء العسكرية.
ومن مؤلفات الرجل كتاب عنوانه (83 إلى 87 في السودان) كان قد صدر في عام 1888م، وكان يدور حول الأحداث في منطقة ساحل البحر الأحمر، والعلاقة بين الدولة المهدية مع الحبشة في تلك السنوات. وكان وايلد من الذين يقولون بأن إصرار بريطانيا على إلغاء الرق كان واحدا من أهم أسباب قيام الحركة المهدوية. فقد جاء في كتابه:
"كان أكثر أتباع المهدي تعصبا وحماسا هم الذين لم يتلقوا إلا القليل من التعليم الذي قُدم لهم في مختلف مدارس (خلاوى) الدراويش. وكانوا في تلك الخلاوى يُحفظون عن ظهر قلب آيات من القرآن ليتلوها مرارا وتكرارا. غير أنهم كانوا يجهلون القراءة والكتابة ... ولا ريب البتة في أن دراويش شرق السودان كانوا من أشد مناصري المهدية. وكان قائدهم / مرشدهم الأعظم في مناطق سواكم (سواكن) هو شيخ الطاهر المجدوب (شيخ المجاذيب)، وهو جعلي من الدامر."
وكتب وايلد أيضا:
"ليس هناك أدنى شك في أن أساس الحركة المهدوية وعمودها الفقري كانوا هم تجار الرقيق، وكل الذين كانوا ينقمون من الحكومة المصرية (وهم كُثْر)."
كان الأوربيون قد أصابوا بعض النجاح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في كبح الرق وتجارته في غرب أفريقيا. وكان ذلك مما أغراهم للاتجاه بعد ذلك لإلغائه في شرق أفريقيا ومناطق النيلين الأبيض والأزرق. لذا حثت / أمرت بريطانيا الخديوي المصري إسماعيل بإلغاء الرق في السودان، ولعل ذلك كان واحدا من أسباب قيام الثورة المهدية. غير أنه بغض النظر عن دوافع البريطانيين من إلغاء الرق (سواء أن كانت دوافعهم إمبريالية أو إنسانية محضة)، إلا أنهم أخفقوا في الأخذ في الاعتبار الوضع القانوني للرق في الإسلام، أو الحقائق الاجتماعية والاقتصادية في الدول (الإسلامية) التي كان الرق فيها شائعا (علما بأن نحو 20 إلى 30% من السكان كانوا في ذلك الوقت من المسترقين، وأن المجتمع في سنوات الحكم التركي – المصري كان يقوم على عمل الرقيق محليا، وللتصدير بحسب رأي اسبولدينق). ولا ريب أن الإسلام يأمر معتنقيه بإحسان معاملة المسترقين، إلا أنه لم يرد نص صريح في القرآن أو السنة النبوية يمنع الرق، ولا يفضي اعتناق الإسلام تلقائيا إلى العتق من العبودية. لذا فقد كانت رغبة الأوربيين في تحرير المسترقين المسلمين لا تجد قبولا أو احتراما (في البلاد المسلمة).
ومن رأي فيشر (في كتابه المذكور آنفا) وغيره من البُحَّاث فقد كان هنالك بديل لغارات وتجارة الرقيق، وهي الهجرة السلمية (peaceful migration). وجد المرء في كثير من مناطق أفريقيا المسلمة تداخلا بين الإثنين، إذ أن المسترقين الهاربين كانوا يقومون لاحقا بالتوجه لأماكن أخرى ويغدون مهاجرين "اختياريين" في مناطق يجدون فيها أراضٍ يفلحونها ويسكنون فيها، ويجدون فيها أيضا فرصا أوسع للزواج والضرائب الأقل والعدالة المستقرة.
**** ***** ****
الدولفس سليد Adolphus Slade (1804 – 1877م)
عمل (السير) البريطاني الدولفس سليد ضابطا في البحرية البريطانية، ثم أصبح أميرالا في البحرية العثمانية. وكان يُعد أكثر البريطانيين واقعيةً في شأن الرق. ونشر مذكرات عن رحلاته في تركيا وغيرها في عام 1832م جاء فيها:
"تبدو كلمة (الرق) مثيرة للاشمئزاز عند سماع البريطاني لها. يمكن بسهولة أن نغير تلك الكلمة! وأي البلاد تخلو منه؟ العامل مقيد إلى محراثه، والنساج إلى نوله، والمعدم في ملجأه."
وعلى وجه العموم كان الأوربيون في ذلك الوقت يعبرون بحماس وبصريح العبارة ودون أدنى مواربة عن معارضتهم القوية للرق، دون الأخذ في الاعتبار واقع الأحوال في البلاد الإسلامية بأفريقيا. وفي ذلك كتب إتيان فيليكس بيرليوكس (1828 – 1910م) بروفيسور التاريخ في جامعة ليون الفرنسية:
"القرآن (هكذا.. sic) الذي دمر العائلات بإقراره المخجل بتعدد الزوجات، دمر أيضا الأمة باستبداده المفرط، وقضى على النشاط والمبادرة الفردية بالجبرية والقضاء والقدر (fatalism). ومهد كل ذلك الطريق للرق، الذي أكمل ما بدأه ذلك الدين من قضاء على القيم الأخلاق (morals)، وهو ما حكم على الشرق بالجمود والموت ...".
**** ***** ****
إدوارد شنيتزر Eduard Schnitzer
ولد إيدوارد شنيتزر عام 1840م في اوبلن بالمقاطعة البروسية سليسيا، ودرس الطب في بيرسلاو وبرلين. سافر بعد ذلك إلى تركيا للعمل طبيبا في سكوتاري تحت إمرة واليها إسماعيل حاكي باشا. ورافقه في جولاته في أرمنيا وسوريا والجزيرة العربية. ثم انتقل شنيتزر للعمل في السودان التركي – المصري حيث غير اسمه إلى "أمين أفندي" وتوجه إلى المديرية الاستوائية للعمل طبيبا بها، تحت إمرة قائدها غردون باشا. وعقب ذهاب غردون للخرطوم لتولي منصب الحكمدار عام 1877م عُين " أمين أفندي" حاكما على الاستوائية في العام التالي، وبقي في منصبه حتى أجبرته حملة لإنقاذه قادها ستانلي على مغادرة منصبه.
كان إيدوارد شنيتزر قد غير اسمه إلى أمين وأجاد اللغتين التركية والعربية وصار يرتدي الملابس العربية ويمارس العادات والطقوس العربية كما قال: " حتى ينغمس تماما في الحياة العربية ". غير أنه ليس من المعروف إن كان أمين ممارسا للشعائر الإسلامية أم لا.
وفي عام 1882م (أي بعد عام من بدء الحركة المهدية) أرسل أمين تقريرا للخرطوم ذكر فيه أنه أفلح في "تنظيف مديريته تماما من تجار الرقيق". وفي ذلك العام نجح أيضا في تحقيق فائض في ميزانية مديريته بلغ 8,000 من الجنيهات الإسترلينية، علما بأن المديرية كانت تعاني من عجز في ميزانية العام السابق بلغ 32,000 جنيها استرلينيا. وبعد مقتل غردون بالخرطوم قرر أمين البقاء بالاستوائية و"مواصلة الكفاح ضد الرق وتجار الرقيق، فهذا أهم وأقدس واجباته، وهو واجب دفع غردون ثمنه بدمه"، كما كتب في إحدى رسائله.
وصف أمين في رسالة له لاشفاينفيرث عام 1881م حالة المعسكرات/ "الزرائب" التي كانت يُحبس فيها المسترقون، ووصف له في تلك الرسالة أيضا تجارة الرقيق في رول (Rol) ببحر الجبل كما يلي:
"يقوم على شؤون تلك "الزرائب" ويتحكم فيها بصورة حصرية رجال من الدناقلة (هكذا!) ]وردت (هكذا!sci) هذه في النص الأصلي. المترجم[. وفي هذه المديرية تتم تجارة الرقيق بصورة علنية ومنهجية. ويبلغ عدد الرجال المقيمين بتلك الزرائب 455 فردا، منهم 136 من الدناقلة. أما البقية فهم من المسترقين الذين تم تحريرهم، ويسمون (مترجمين؟ Dragomans). ويعمل هؤلاء كجنود غير نظاميين، ويقومون أيضا بالتفاوض مع الأهالي المحليين لمعرفتهم بلغتهم. وكان لكل رجل في "الزريبة" حوالي أربع نساء وأطفال يخدمونه كزوجات وخليلات أو خدم. وكان تعداد (زَنَابِقَ الْحَقْل) هؤلاء 2,200 على الأقل."
تعبير (زَنَابِقَ الْحَقْل Lilies of the filed) مقتبس من الانجيل (متى 28:6). المترجم.

وبالنظر إلى أن العدد الكلي لمنطقة أمادي كان لا يتجاوز 8,000 إلى 10,000 نسمة، فقد كان عدد تجار الرقيق لا يتناسب مع عدد سكان المنطقة، ويشكل كارثة على حياة السكان المحليين الذين لم يكن بمقدورهم بسهولة الحصول على معائشهم أو الدفاع عن أنفسهم ضد هجماتهم. وشاعت حوادث خطف ساكنو تلك "الزرائب" لأطفال ونساء السكان المحليين (سرد أمين بعض تلك الحوادث، كان أبرزها حادثة خطف "فكي" اسمه محمد صالح وهو في رفقة ستة من مسترقيه المسلحين لستة وعشرين فردا من الأهالي، وحكى أمين عما قام به من تحرير للمختطفين وحبس ذلك الرجل وحرسه المسلحين). وأشتكى أمين في رسالته من بخيت بيه، الحاكم المحلي في إحدى المناطق، الذي كان لا يفعل شيئا إزاء حالات الخطف العديدة التي تحدث في منطقته. بل اكتشف أمين أن أحد المسؤولين معه كان قد جمع لنفسه نحو ثمانين من المسترقين (زعم الأهالي أنه استرق منهم 400).
وكتب أمين متحسرا عن أنه لا يستطيع صنع المعجزات وتحته "مثل أولئك الموظفين". وأضاف بأن "يبدو ألا أحد هنا يعرف للعيش طريقا سوى النهب وتجارة الرقيق".


alibadreldin@hotmail.com

 

آراء