حول فهمنا ودراستنا لدخول الإسلام: المحور الشرقي (12)

 


 

 

 

ahmed.elyas@gmail.com

ممالك منطقة أعالي النيل الأزرق قبل قيام دولة سنار - 1
أشرنا فيما سبق إلى ارتباط منطقة أعالي النيل الأزرق بحركة التجارة الخارجية منذ العصر الفرعوني ومروراً بمملكة كوش الأولى والثانية ومملكة علوة ومملكة اكسوم وممالك الحبشة الإسلامية. ومن الطبيعي أن يؤدي ارتباط المنطقة بحركة تجارية كبيرة ومتصلة الى تطور نظم اجتماعية وسياسية تشرف على ذلك النشاط وتديره. وقد تضمن التراث المحلي الحبشي والسوداني عدداً من الروايات عن الممالك التي نشأت في غرب الهضبة الاثيوبية على الأراضي السودانية الحالية إلى جانب مملكتي قوجام وداموت مثل مملكة فازوغلي ومملكة البرون ومملكة كيلي والممالك التي تحكمها ملكات وبلاد العرب والممالك التي ارتبطت بظهور أسرة الفونج. وسنتناول في هذه الحلقة مملكة فازوغلي، ونواصل في الحلقات التالية بقية الممالك

مملكة فازوغلي
يرجع تاريخ منطقة فازوغلي وارتباطها بالعالم القديم إلى أوقات مبكرة، فقد أشرنا فيما سبق إلى أن منطقة أعالي النيل الأزرق ارتبطت تجارياً بمصر القدية منذ بدلية حضارتها. وكانت مناطق أعالي النيل الأزرق جزء من مناطق السلع الواسعة التي عرفت في المصادر القديمة ببلاد بونت. كما ذكرنا أن بعض المؤرخين يرون أن السكان القدماء الذين يرمز لهم بالمجموعة جC- Group تحركوا من منطقة أعالي النيل الأزرق شمالاً حتى استقروا شمال حلفا.
وقد جاء في وثيقة ميناء أدولس - الذي يقع اليوم في دولة اريتريا - والتي نقلها كوسماس في القرن السادس الميلادي أن حكام مصر البطالمة عزو ميناء أدولس في القرن الثالث قبل الميلاد وتوغلوا في الداخل جنوب مملكة اكسوم بحثاً عن ثروات المنطقة وعبروا نهر عطبرة ووصلوا مناطق انتاج الذهب التي عرفت فيما بعد باسم ساسو. (Periplus of the Periplus,, p 541, 550.)
وقد أولت مملكة اكسوم عنايتها منذ قيامها بمناطق انتاج الذهب على حدودها الجنوبية الغربية المعروف بطريق ساسو واهتمت بالطريق المؤدي إليها. وكان ملوك أكسوم وغيرهم من التجار يتحصلون على ذهب ساسو عبر ملك أجاو في قوجام، حيث تقوم قبيلة الأجاو بقيادة وحراسة قوافل التجارة. وكان التجار يأخذون معهم الملح الذي يمثل أهم سلع التبادل إلى جانب الحديد وبعض السلع الأخرى مثل الحديد. وعندما يصل التجار إلى منطقة التبادل يضعون بضاعتهم وينسحبوا، ثم يأتي أهل المنطقة ومعهم الذهب ويضعون كمية من الذهب للبضاعة المعروضة وينسحبوا. ويعود سكان المنطقة فإذا رأوا التجار قد أخذوا الذهب يأخون السلع المعروضة، وإن وجدوا التجار لم يأخذون الذهب دل ذلك على عدم قبولهم بالذهب الموضوع مقابل السلعة وعليهم زيادة كمية الذهب، وهكذا تتم معاملة المقايضة. Periplus, p 541)) وتعرف هذه الطريقة في البيع بالتجارة الصامتة، وكانت معروفة في عمليات التبادل التجاري في مناطق جنوب الصحراء الكبرى.
ويرى المؤرخون كرفورد وترمنجهام وسلاسي أن وثيقة ميناء أدولس التي ترجع إلى القرن السادس الميلادي والتي كتبت عن طريق الذهب إلى ساسو (أوساسون( في غرب أثيوبيا تشير إلى منطقة فازوغلي الحالية، ويحددها كرفورد بأنها منطقة خور تومات الحالي . Crawford, Ethiopian Itineraries. P 80. Trimingham. Islam in Ethiopia, p 48. Sellessie, Ancient and Medieval Ethiopian History, p 60, 65, 131.

ورغم انه لم ترد إشارة في المصادر إلى مملكة قديمة في منطقة فازوغلي يرجع تاريخها إلى تلك الفترة المبكرة، إلا أن النشاط التجاري المبكر والارتباط بالعالم الخارجي يتطلب التطور المبكر للنظم الاجتماعية والسياسية في المنطقة مما يرجح قيام مملكة في منطقة فازوغلي منذ وقت طويل قبل قيام مملكة الفونج في سنار، ويعزز ذلك ما ورد في الروايات الشفهية المحلية.
تناول التراث الشفهي عدداً من الروايات التي تناولت قيام مملكة فازوغلي. والرواية الأكثر شهرة هي الرواية التي سجلها المك زكريا بن المك حميدة (أنطر قائمة المراجع) ارتبط قيام مملكة فازوغلي في هذه الرواية بحضور المهاجر الأموي داؤود بن خالد بن اليزيد بن معاوية بن أبي سفيان الذي دخل فازوغلي في عهد الملك الجاكر بن حمادة بن سامي بن سليمان بن داؤود في عام 812 هـ الموافق 1427 م. (ويلاحظ عدم الدقة في تحويل التاريخ من ميلادي إلى هجري أو العكس. فعام 812 هـ يقابل عام 1409 م، وعام 1427 م يقابل عام831 هـ)
ونقل المك زكريا رواية مصدرها المك الحسن بن مطر جاء فيها أن أول ملوك فازوغلي هو المك فاجاك بن حمادة بن سليمان بن داؤود الذي تولى العرش عام 782 هـ الموافق 1397م. ويلاحظ هنا أيضاً عدم دقة القابلة بين التواريخ إذ عام 782 هـ يوافق عام 1380 م وعام 1397م يوافق عام 800 هـ، بينما تذكر رواية المك علي عبد الرحمن دفع الله (أنظر قائمة المراجع) أن بداية حكم الملك الجاتر (تكتبه الرواية بالتاء وليس الكاف كما في رواية المك زكريا) ابن حمادة بن سامي بن سليمان بن داؤود كانت عام 1415م.
وقد اختلفت الروايات في اسم أول الملوك ما بين الجاكر والجاثر وفاجاك، وانفقت في ذكر باقي الأسماء. وترجع الروايات وصول المهاجر الأموي فازوغلي إلى نهاية القرن الرابع عشر وأول القرن الخامس عشر الميلاديين. ويتضح من الروايات أن مملكة فازوغلي كانت قائمة عند وصول هذا المهاجر. ويبدو أن أحداث الحروب في الحبشة في القرن الرابع عشر الميلادي وما ترتب عليها من تحركات سكانية وتغيرات سياسية ظلت حية في الذاكرة الشعبية لسكان منطقة فازوغلي وارتبطت بقيام مملكتهم.
وتقول رواية المك زكريا أن حدود مملكة فازوغلي امتدت جنوباً إلى فداسي وشرقاً إلى بني شنقول وشمالاً إلى أم بارد وغرباً إلى فرخانة. وتواصل الرواية أن مؤسس مملكة فازوغلي ينتمي إلى قبيلة الفونج التي تعرف باسم الجبلاويين نسبة لاختيارهم سهول الجبال. ومن المعروف أن الفونج ليست قبيلة بل أسرة انتسب إليها السكان الذين صاهرتهم الأسرة الفونجية.
وتتفق روايتي المك زكريا وعلي عبد الرحمن على أسماء أربعة ملوك حكموا بعد مؤسس المملكة، وهم: التنكار وجلال الدين ومحمد وازوزة (يكتب أحياناً عزوز). وتوضح رواية المك زكريا أن أسماء هؤلاء الملوك لم ترد في كتب التاريخ والرحالة، بل وردت أسماؤهم في مستند ملك فازوغلى اموشد (الاموشتر في رواية بابكر دفع الله أبو عزة أحمد) والملك أموشد هو الذي تولى الملك قبل الملك حسن مطر الذي عزله اسماعيل باشا عام 1822. وقد ذكرت رواية علي عبد الرحمن حكم هؤلاء الملوك الخمسة امتد لماءتي سنة وانتهى عام 1615م. ويتفق هذا التاريخ مع روايته التي جعلت بداية المملكة عام 1415 م.
ويوجد تاريخ على نحاس ملوك فازوغلي الذي يرجع إلى عصر المك جلال الدين التنكار. والتاريخ على النحاس كما جاء في النسخة المطبوعة من رواية المك زكريا عام 1313م. وقد رأيت النحاس في فازوغلي وحسب قراءتي للتاريخ فإنه عام 1303. والمك جلال الدين التنكار هو الملك الثالث في قوائم ملوك فازوغلي. وقد جاء في رواية الملك علي عبد الرحمن أن مدة حكم الملكين الأولين خمسة وسبعين سنة. فإذا اعتبرنا أن تاريخ النحاس يمثل بداية حكم المك جلال الدين، فإن بداية حكم أول الملوك في القائمة تكون عام 1238م (1313 – 75) أو عام 1228م (1313 – 75) فيكون تاريخ قيام مملكة فازوغلي وفقاً لتاريخ النحاس وتقدير سني حكم الملوك النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي، عام 1238 أو عام 1228. وهذا التاريخ يجعل قيام الملكة قبل تاريخ رواية الحسن بن مطر بنحو 160 أو 170 سنة.
ويبدو قيام مملكة إسلامية في فازوغلي في القرن الثالث عشر أو الرابع عشر مقبولاً نسبة لتطور الأحداث في الحبشة بعد اعتلاء الأسرة السليمانية العرش في القرن الثالث عشر، وبداية الحروب بين الممالك الإسلامية وملوك الحبشة كما وضحنا في موضوعاتنا السابقة السابقة.
ويلاحظ كذلك أن القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر تكرر في الروايات الشفهية المتعلقة بمملكة فازوغلي مما يشير إلى بقاء أحداثه حية في ذاكرة مواطني المملكة مثل وصول المهاجر الأموي داؤود مملكة فازوغلي وزواجه واعتلاء ابنه التنكار بن داؤود بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان العرش، ويلاحظ الفارق الزمني الكبير بين عصر خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان في القرن السابع الميلادي وبين ملك فازوغلي المك الجاكر في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي. ولعل التاريخين اللذين وردا في رواية مبارك يعقوب طه الأتية 1305 و1317 تعود جذورها أيضاً إلى أحداث وقعت في تلك الأوقات.
ومن جانب آخر فإن احتمال وجود مملكة في منطقة فازوغلي قبل القرن الثالث عشر أو قبل اعتناق ملوكها للإسلام وارد ومقبول نسبة لعلاقات منطقة النيل الأزرق القديمة بوادي النيل في مصر والسودان وبمملكة اكسوم والبحر الأحمر، ودخول منطقة فازغلي مجال التجارة الخارجية وبخاصة تجارة الذهب منذ وقت طويل قبل ظهور الاسلام.
وهنالك رواية أخرى أشارت باختصار إلى عمر مملكة فازوغلي رواها مبارك يعقوب طه (أنظر قائمة المراجع) وذكر أنه جمع مادتها من أبيه وكبار أقاربه عام 1946. تقول الرواية أن حكم ملوك مملكة فازوغلي بلغ بين 1305 و1317 سنة، أسسها جد الجبلاويين على بن أبي سفيان. وبناءً على هذا التاريخ فإن مملكة فازوغلي تكون قد تأسست في القرن السابع الميلادي في عام 629 م (1946 – 1317) أو تأسست عام 641 م (1946 – 1305) أي في نهاية عصر الخلفاء الراشدين أو في بداية العصر الأموي. ولم تسجل الرواية أسماء الملوك، ولكن جعل الراوي ثلاثة وثلاثين جيلاً بينه وبين مؤسس المملكة. فإذا أخذنا بأن متوسط عمر الجيل 35 سنة يكون متوسط الزمن بين الراوي وتأسيس المملكة نحو 1155 سنة مما يجعل متوسط تاريخ قيام المملكة في نهاية القرن الثامن الميلادي في عام 791 م.
ويبدو أن تاريخ قيام المملكة في هذه الرواية مبكراً جداً بالنسبة لقيام مملكة إسلامية في فازوغلي، لأن الروايات توضح أن الملك الأول في قائمة الملوك كان مسلماً وكان قومه مسلمون. ورغم أن الملك الأول الجاكر بن حمادة بن سليمان بن داؤود يحمل أسماء ثلاثة آباء مسلمين إلا أنه لا يوجد في الروايات التي اطلعت عليها أسماء ملوك قبل المك الجاكر، ولا يمنع ذلك احتمال قيام المملكة قبل عصر الجاكر.
وقد اتفقت الروايات الشفاهية – مثل رواية المك زكريا وبابكر دفع الله في وصل داعية إسلامي مهاجراً عام 812 هـ (1409م) يدعى داؤود بن خالد ين اليزيد بن معاوية بن أبي سفيان ومن معه إلى فازوغلي. وقابل داؤود الملك الذي سأله من المكان الذي جاءوا منه، فأجاب بأنهم أتوا من مكة وعندما علم بمهمته وهويته رحب به، وإذن له بالإقامة، وسهل له الإعاشة وأمر الدعوة. واستقر المهاجر ومن معه في وسط أهل جبل كاكَتُر. ونجح داؤود في نشر تعاليم الاسلام وأصبحت منطقة كاكتر مركزاً للعلم وكان الملك يزورها كل شهر، وأطلق عليها اسم فاتا مكة وتعني أهل ملكة، وبمرور الزمن أصبحت تنطق فامكة.
وتذكر الرواية أنه كان للملك بنت تدعى ديشي تساعد أباها في الحكم. وجاء في رواية بابكر دفع الله النسخة المطبوعة اسم بنت الملك مكتوباً ديشني، ولم أطلع على نص الرواية المسجل. وتضح الرواية أن ديشي كانت تجلس في معظم اجتماعاتها على صخرة عند مباشرتها للحكم. ولا زالت ذكرى تلك الصخرة عائشة في الأذهان، وعرفت باسم ديشي. ونسبة لنجاح داؤود وحُسن سيرته ومحبة الناس له قرر الملك الجاكر أن يزوجه ابنته ديشي، فتزوجها وأنجب منها إبناً اسمه التنكار. وبعد وفاة جدة تولى التنكار بن داؤود العرش مؤسساً أسرة ملوك فازوغلي. فنسب ملوك فازوغلي بناءً على هذه الرواية يلتقي بنسب ملوك الفونج في داؤود بن خالد ين اليزيد بن معاوية بن أبي سفيان. وتقول الرواية أن "ناس قبا وناس الكيلي كلهم بينتموا لقبيلة الفونج"

المراجع
- رواية المك زكريا المك حميدة رجب مك عموم جبال فازوغلي، "رواية ملوك فازوغلي" سجلت في مدينة فازوغلي يوم 15/3/2005، أعدها مهدي حامد أحمد، متحف فازغلي، محفوظات الروايات الشفهية ج ن ق / 9.
- رواية المك علي عبد الرحمن دفع الله، وكيل المك بولاية الخرطوم "سلسلة ملوك مملكة فازوغلي التاريخية" تحصلت على نسخة مطبوعة من صاحب الرواية مؤرخة بيوم 17 / 3 / 2012.
- رواية بابكر دفع الله أبو عزة أحمد، من أعيان الفونج "رواية تاريخ مملكة فازوغلى" سجلت الرواية في الدمازين في يوم 30 / 9 / 2004، أعدها مهدي حامد أحمد.
- مبارك يعقوب طه، "رواية تاريخ مملكة فازوغلي" تم تسجيلها 21 / 10 / 2004 بحي الرياض بالدمازين. أعدها مهدي حامد أحمد. متحف فازغلي، محفوظات الروايات الشفهية ج ن ق/2

- Periplus of the Erythrean Sea, published in William Vincent, The Commerce and navigation of the Ancients in the Indian Ocean, London: 1908.
- Crawford, O. G. S. Ethiopian Itineraries circa 1400 – 1425, Cambridge University Press 1958.
- Trimingham. J. S. Islam in Ethiopia, 3d impression New York: Routledge 1967.
- Sellessie, Ancient and Medieval Ethiopian History to 1270.

/////////////////////

 

آراء