التونسي محمود المسعدي: شـيخُ الروايـة الفـلسـفـية

 


 

 

 

(1)

كُنتُ قبل سنوات بعيدة، وعلى أيامي نائباً للسفير في لندن بين عامي 2000 و 2004 الميلاديين، قد التقيت الراحل الطيب صالح في مجلس دعانا إليه عمنا الراحل ابراهيم الطيب في بيته العامر في حي "نايتسبريدج" الراقي في قلب لندن. يحب عمنا الراحل ابراهيم أن يكون كبار السودانيين الزائرين لندن، أن يكونوا ضيوفاً في بيته يكرمهم ويرحب بهم فهو بمثابة كبير الجالية السودانية هناك. كان من بين الحضور الأنيق في تلك الجلسة، السفير حسن عابدين والراحل فتح الرحمن البشير وصديقنا أطال الله عمره الأستاذ أخمد بدري، ونفرٌ كرامٌ أخرون.
كعادته وبتواضعه الجمّ، لم يكن الطيب ممّن يحصر الكلام عن نفسه ، أو هو يحتكر الحديث احتكارا، بل يترك للآخرين مساحات الحكي والدردشة ، ويكتفي آكثر الوقت بالإنصات، أو بالتعليقِ بكلمة أو كلمتين بأسلوبه الساخر والساحر في آنٍ واحد. كنتُ أجلس غير بعيدٍ عنه ، فبادرتُ أسألته عرضا عن علاقته بالأستاذ الكاتب التونسي محمود المسعدي ، فعرفتُ منه تقديره له بما أدهشني. ولم يكن للمسعدي حتى ذلك الوقت، كبير ذكرٍ في الساحات الروائية العربية، وأمن الطيب على ملاحظتي تلك . استطرد الطيب عن محمود المسعدي قائلاً إنه صديقه، وأنه روائي مفكر كبير ، وما يدعو للأسف، أن لا يكاد يعرف أكثر أهل المشرق، قدره في الكتابة الروائية ورسوخ تجربته وتفرّده فيها . .


(2)
حفزني ذلك الحديث، لمراجعة مكتبتي لأطالع بعض أعمال المسعدي الأدبية التي لا أزال أحفظها بمكتبتي الشخصية في لندن. .
للمسعدي رواية كالمسرحية، بعنوان "السُّـــد " ، كتبها الأديب المسعدي في شبابه، وعلى أيامه في باريس في عام 1938وتركها وديعة عند صديق له ، خشي من ضياعها والحرب العالمية الثانية قد أوشكت نارها أن تشتعل في كامل أوروبا . لم تخرج مخطوطة "السّــد" ، للناس إلا في خمسينات القرن العشرين، وبعد انطفاء نيران الحرب الثانية وهدوء أركان الأرض بعد عام 1945. قصة خروجها للناس من يد ذلك الصديق، هي في حد ذاتها قصة تروى، ولندعها لسانحة أخرى. .

(3)
هناك في مكتبتي أيضاً رواية له أحدث عمراً بعنوان "حدّث أبوهريرة قال..". ولا يلتبس عليك الإسم والكنية فأبوهريرة عند المسعدي غير راوية الحديث الذي تعرفون. ظللت أحمل أعمال المسعدي ترافقني في سفري من عاصمة إلى عاصمة، وأنا أتنقل دبلوماسيا في سفارات بلادي، منذ أيام عملي قبل سنوات في تونس. . غير أني أغرمت بمسرحية "السّـــد" البديعة، فهي تطرح أسئلة الوجود بعمق، وتتصل بطروحات الفكر الوجودي . حسب عميدُ الأدب العربي طه حسين في عرضه لرواية "السّـــد" حين صدرت عام 1955، أن كاتبها تأثر بالكاتب الفرنسي "البيـر كامـو" في رواياته الوجودية . غير أن المسعدي، وبعد أن أبدى ارتياحاً لما جاء من العميد طه حسين، كتبَ مُعقباُ :
(. . ولكني لا أظن أني قرأتُ لأديبٍ فرنسي أقلّ ممّا قرأتُ لـ"كـامـو"، لا لأني لا أقدّر أدب هذا الكاتب، بل لسببٍ لا أدريه ولعله "حجاب المعاصرة" ، فإن كتابات "كامـو" الأولى يرجع عهدها تقريباً إلى الزمن الذي ألفتُ فيه "السُّـد" بقليل ، وعلى أني لم أقرأ لهُ "أسطورة سيزيف" و "سوء تفاهم"، إلا بعد ظهورهما بسنوات، وبعد تأليف "السّــد" بكثير. . )
تعدّ كتابات المسعدي ، خاصة مسرحية "السّــد"، تلك التي أنجزها عام 1939، قبيل بدايات الحرب العالمية الثانية ، إسهاما مبتدعاً في طرح فكري "وجودي" جريء يماثل ما جاء بعد ذلك من "جان بول سارتر" ومن البير كامو"، بل هو في حقيقة الأمر، أول إسهام فكري عربي، عن الوجودية التي الذي ازدهرت في أعوام الثلاثينات والأربعينات، وصارت تقليعة فلسفية في سنوات الستينات والسبعينات من القرن العشرين في فرنسا وألمانيا. لكأن عميد الأدب العربي في عرضه لمسرحية "الســـد"، قد استكثر أن يكون لكاتب عربي سهمٌ معتبرٌ في التنوير بالفكر الوجودي، أوّل ذيوعه حينذاك. .

(4)
دعني أقتطف لك طرفاً من كتابات هذا الأديب التونسي المُبدع، فترى حقيقة ما كتبتُ عنه هنا، وأريدك أن تنظر في اللغة والأسلوب عند هذا المفكر الأديب.
جاء في صفحة 121 من كتابه : "حدث أبو هريرة قال .. " :
( . . وقالَ : ما شأنكم في الدنيا ؟ باطلٌ أم حق ؟ قلتُ : ألـكَ فــي خَــمـْـرٍ عـتيـقـةٍ ؟ وكانَ لي منها دنّ جاءتني بهِ قافلةُ الشام في يومي . قالَ : أمّا هذا وحدهُ فلا . فإذا زدتَ عليهِ ناراً نوقـدها ونشرب فنعم . قلتُ : وَجهنم إنْ شئت . قال وَضحك : أنتَ غِـرّ يا معنّ . أتظنُّ بجهنم نارا ؟ ألا وَربّها لو كانتْ فيها شرارة لذهبتْ هباءً وبطلَ العقابُ. إنما النار يا ابن سليمان مِن أمر الدنيا. ثمّ قامَ وهممنا بالبابِ فإذا هو يلوي ويقف، فقلنا : مالكَ؟ قال : سترون . ثمّ صفَّق بيديهِ، فأقبل غلمانه جميعا . فجعل يسمّي كُلاً باسمه ويقول : اذهب يا فلان ، فأنت حرّ . حتى صرفهم واعتقهم جميعاً. ثم اقبل علينا فقال : وددتُ والله من شِـدّة القلبِ ما ابلغ به كسْر الحياةِ حتى أراها حُطاما، أو مِن الحكمةِ ما اقدر بهِ على اللعب كالصبيـان حتى تذهب أيامي ، أو من القدرة ما أُعتق الحياة كغلماني فتمضي .)

لعلّ الاشارات ألى الفكر الوجودي في هذا النص البديع، بينة ناصعة التبيان.

(5)
دعني ثانية أقتطف لك طرفاً ممّا ورد في كتابه الروائي : "حدّث ابو هريرة قال . ." ، حتى أثير عجبك أكثر.
كتب محمود المسعدي:
(هذه الأرض نحن خلقناها وهذه السماء نحن نصبنا عمادها فاقمناها. فهل ملكتم من خيراتها شيئا ؟ لقد قالوا عنكم : ليسَ لهُم إلا جزلة من رغيفٍ ولعبة تلهيهم كالصبيانِ. وحجبوا الشمسَ وفيها لكُم نور ٌ به تهتدون ، وامسكوا العيونَ وفيها لكم حياة، وذبحوا عنكُم البقرةَ الصفراءَ وقالوا ما يُولد منكُم اليوم ، غداً نأكل جَهدَه ونمتصّ دَمَـه. وما حرثتم اليومَ ، إلى أفواهنا مِن الساعةِ سنابلُه. وقالوا نساؤكم لنا إماءً وأرواحكم مَرعَى أيّها الضعفاء. ثمّ القوا لكم بعظام مقشرات هزال . فجثوتم على الرّكبِ تصلّون . وقلتم: طاعةَ وحمداً يا أولي الأمر فينا. فحشروكم فألقوكم في الأصفاد. أفأنتم راضون؟ أمَا آن أن ترتفعوا إلى الشدّة والبأس؟ ألا توقدونها حمراء ليس يرُدّها جانٌ ولا إنس ؟)
(ص 153 من كتاب "حدث أبوهريرة قال. . ")


(6)
إن المسعدي بحق هو رائد سباق في هذا الضرب من الكتابة الروائية والمسرحية الموغلة في الطرح الفكري العميق، وبلغة عربية صلبة التراكيب، اقترف صاحبها من لغة القرآن ونحتَ من قواميس الكهان القديمة، ما أعانه لصياغات جديدة لقضايا استجدت في القرن الذي عاش فيه . . أما لو جئنا لتوثيق ورصد التجليات الإبداعية والأدبية للفكر الوجودي الذي خبا إبراقه في العقود الأخيرة، ، فإن أعمال الأديب التونسي محمود المسعدي على أية حال، تقف جنباً إلى جنب مع أعمال "سارتر " و "البير كامو" . لا فرق بين التجربتين إلا في لغة الكتابة، فالأول كتب بالعربية، والثاني والثالث كتبا بالفرنسية . . أما ما نهل ثلاثتهم منه وأضافوا إليه، فهو استهلالهم لفكر وجودي زاحموا به الفلسفة التقليدية والمادية، كلٌّ بما ملك من رؤى ومن معالجات فكرية مثيرة للجدل ومُحفّزة للإبداع. .

الخرطوم- 18 نوفمبر 2019

 

آراء