السُّودان.. الجذور الفاجعة لوطن منكوب (1 من 3)
shurkiano@yahoo.co.uk
بادئ ذي بدء، أي قبل أن نقول ما نودُّ قوله، أو نكتب ما نعتزم كتابته، أطَّلعنا على عددٍ عديدٍ من الإصدارات والمصادر التي كتبها مؤلِّفون أجانب وقليل من الكتَّاب السُّودانيين، وذلك لكيما نستكشف الوسائل والسبل الكفيلة التي اتَّخذتها حكومتا بريطانيا ومصر لإعادة احتلال السُّودان العام 1898م، ولكي نفهم الخطأ التأريخي الذي وقع فيه السُّودان في الشأن السِّياسي والاجتماعي معاً، فهماً قليلاً أو كثيراً. ولعلَّ العوامل السِّياسيَّة والعسكريَّة والاستخباراتيَّة، علاوة على العوامل الاقتصاديَّة هي التي تضاممت وتضافرت لجعل أمر الاحتلال ممكناً ومكتملاً، برغم من ضراوة السُّودانيين واستبسالهم في ساحات الوغى. إذاً، ماذا تقول المصادر السِّياسيَّة؟
أولاً، وفي مستهل أذار (مارس) 1896م تلقَّى الإيطاليُّون هزيمة قاسية على يد الأحباش في معركة عدوة، إذ استولوا على ملابس وأحذية الأسرى الإيطاليين، حتى إنَّك لترى 800 أسيراً من الطليان عراة، وضباطاً جياعاً، ورجالاً منهم يشيِّدون الطرق، وآخرين يرمِّمون الكنائس، والبعض الآخر أمسى يعاني من جروح ملتهبة؛ ثمَّ كان الإيطاليُّون قد لقوا من أسرهم ذاك نصباً، وبخاصة من الإثيوبيَّات الرِّيفيَّات. وقد وصف أحد ضباط المدفعيَّة الأسير كيف أُجبِروا على السير حفاة عراة مسافة 500 ميلاً من عدوة إلى أديس أبابا، وفي إثرهم رجال يقذفونهم بالحجارة، ويوسعونهم ضرباً، ومن ثمَّ كان البعض منهم يسقط موتاً، وكان هذا الضابط الحكواتي نفسه قد باع قميصه بدجاج ليأكله ويمسي على قيد الحياة. بيد أنَّ معاملة الملك الإثيوبي منليك ووزيره رأس مكونين هي التي أنقذت حياة كثرٍ من الطليان الأسرى.
كان الانتصار الحبشي على إيطاليا بمثابة ضربة قاصمة للفخر والاعتداد الأوروبي. وطالما نجح الأحباش في انتزاع نصر مجلجل، وإلحاق هزيمة ماحقة بالطليان، يمكن أن يستقوي الخليفة عبد الله التعايشي في أم درمان بهذا النَّصر ويقدم على مهاجمة الطليان في كسلا، واحتمالات الهجوم على المصريين في سواكن، أو في جبهة وادي حلفا الحدوديَّة. بيد أنَّ هزيمة الطليان بواسطة أسلحة تحصَّل عليها الأحباش من مصادر فرنسيَّة وروسيَّة قد عقَّدت الأوضاع، مما أربك التحالف الثلاثي (البريطاني والفرنسي والإيطالي)، وبات في حيرة من أمره، لأنَّ الشريك الثالث أمسى ضعيفاً، وكان لزاماً على بريطانيا أن تقوم بشيء ما، أو تقدم على عمل ما من شأنه أن يستظهر تعاطفاً، أو يرسل إشارة واضحة للتضامن مع إيطاليا.
ثانياً، كان الزحف الفرنسي من جمهوريَّة إفريقيا الوسطى، وتمدُّد نفوذهم شرقاً يهدِّد منابع النيل في جنوب السُّودان، وكان على بريطانيا عمل شيء ما للحد من التوغل الفرنسي في قلب القارة والاستئثار بمواردها ومصادر ثرواتها.
ثالثاً، ففي سبيل الاستهلاك الشعبي وإيقاظ الضمير البريطاني من أجل دعم جهود الحرب، ورفع الرُّوح المعنويَّة للجنود البريطانيين، لجأت الحكومة البريطانيَّة والإعلام البريطاني إلى العزف على دم غوردون الذي قتله ثوار المهديَّة عند سقوط الخرطوم العام 1885م، واتِّخاذه كقميص عثمان والمطالبة بالثأر عنه. إذ استطاع قائد الجيش الغازي كيتشنر بحنكته الاستخباراتيَّة وتدريبه الهندسي وإجادته للُّغة العربيَّة أن يجنَّد قبيل العبابدة كقوات صديقة أو ميليشيات أو جنجويد أو قوات الدعم السريع (بلغة اليوم)، واستعان بهم في خوض المعارك في البحر الأحمر وحول سواكن، ثمَّ أنشأت أوَّل كتيبة سودانيَّة في مصر العام 1884م استعداداً لغزو السُّودان. لكن قد يتساءل سائل من هم أولئك السُّودانيين الذين تمَّ تجنيدهم في هذه الكتيبة حينئذٍ؟ إنَّهم من أولئك الأرقَّاء السُّودانيين الذين استاقوهم إلى مصر وتمَّ ابتياعهم في أسوق النَّخاسة. وبعد إلغاء الرِّق وتحرير الأرقَّاء انخرط بعضهم أو جلُّهم في الجنديَّة، وبرعوا فيها، وأخلصوا لها، وكانت دوافعهم في الانخراط أو ذاك الإخلاص هو عودتهم إلى السُّودان والانتقام من النِّظام الذي باعهم في أسواق النَّخاسة، وانتهى بهم الأمر في مصر. كما كان يحلم بعضهم بأنَّهم ربما يستطيع القدر أن يجمعه بذويه، أو التعرُّف على ما حاق بهم. ثمَّ هناك الغريزة النَّفسيَّة في الشخصيَّة السُّودانيَّة، والتي فشلنا أيما فشل في إيجاد تفسير لها. فما هي إلا ساعات من هزيمتها في معركة ما حتى يبدِّل الجيش المهزوم موقفه في اليوم التَّالي، وينخرط في صفوف الجيش المنتصر، ويشترك معه في حربه ضد رفاق الأمس من بني جلدته! فهل هذا نابع من الحب في خوض المعارك أيَّة معركة مهما كانت دون التبصُّر بالأهداف السِّياسيَّة، والغاية المرجوَّة من هذا الاحتراب، أم ماذا يكون هذا! أيَّاً كان من شأن، فهذا ما كان من أمر جنود الأنصار المهزومين بعد معركة فركة ودنقلا وعطبرة، وفي كرري التي استبسل فيها "الرِّجال كالأسود الضارية، وخاضوا اللَّهيب"، ولكنهم قطعاً لم يشتتوا كتل الغزاة الباغية. وفي نهاية الأمر أمست المعارك عبارة عن حرب أهليَّة بين السُّودانيين أنفسهم، وبإشراف ضبَّاط بريطانيين ومصريين.
فالجندي من الفلاحين المصريين (الصعايدة) كان منقاداً لرؤسائه، صبوراً كان ثمَّ لا يعصي لهم أمراً. غير أنَّ الجنود السُّودانيين المجنَّدين في مصر آنذاك، ومن الأرقَّاء السَّابقين، وبرغم من نحافة قاماتهم بالقياس إلى الصعايدة المفتولين، إلا أنَّهم كانوا أكثر إثارة، وفي شدَّة البأس كانوا يتجلُّون، ثمَّ كانوا يملكون قلوباً أشبه بقلوب الأسود. وبهذين الكيانين – المصري والسُّوداني – بات الجيش المصري قوَّة عسكريَّة قويَّة الشكيمة في المعارك. إذ وجد العسكر السُّودانيُّون أنفسهم عن طريق الصدفة أو التصميم في الخطوط الأماميَّة. وإزاء ذلك فاقت خسائر الكتائب السُّودانيَّة الست، وباتت الأكثر في المحصلة النهائيَّة لتعداد الجيش كله في حملة النيل، أو "حرب النَّهر". ولكن أليس من من سخريَّة القدر أن يحارب المرء في صفوف عدوِّه وقد كان قبلئذٍ يقاتل ضده، وذلك كما فعل المجنَّدون السُّودانيُّون!
أما الجانب الثالث، فقد تمثَّل في وحدة الاستخبارات في الجيش المصري، والتي كانت تحت إدارة العقيد ريغينالد وينغيت، وقد أدارها ببراعة فائقة. ففي خلال عشرة أعوام كان التأريخ والمناخ والجغرافيا والسكان في السُّودان مواضيع الفحص الدقيق المنقطع النَّظير. كان جيش الاحتلال قد رسم خطاً حاداً في وادي حلفا بين ما أسماه الحضارة من ناحية، والوحشيَّة من ناحية أخرى، ولكن ما وراء ذلكم الخط إلى أعلى النهر، حتى سور أم درمان العظيم، وفي مخزن الذخيرة والخزينة (بيت المال) والمسجد، وفي داخل بيت الخليفة عبد الله نفسه كان يقبع جواسيس وعملاء الحكومة المصريَّة متنكِّرين في شكل تجَّار ومحاربين، أو كنساء، ويقومون بمهامهم بسريَّة تامة. ففي بعض الأحايين كانت الطريق في النيل متعثِّرة، وكان على الجواسيس حينئذٍ أن يشقوا طريقهم في الصحراء سرباً عبر دارفور، وخلال رحلة شاقة، ثمَّ يظهرون فجاءة في أم درمان. وفي أحايين أخرى قد يتَّخذ التاجر العميل طريقه من سواكن، أو من المستوطنات الإيطاليَّة في شرق السُّودان.
ولكن أينما جاءت هذه المصادر البشريَّة، وكيفما وصلت تلك المعلومات الأمنيَّة إلى حلفا، كان يتم تصنيفها في القاهرة، ثمَّ أخذت تتراكم حتى باتت مذكِّرات شعبة الاستخبارات ضخمة في الحجم ومكتظة بالعلم. وفي نهاية الأمر، أمسى كل أمير من أمراء المهديَّة من ذوي الشأن العظيم مرصوداً ومراقباً، وقُدِّرت كل حامية من الحاميات العسكريَّة تقديراً، حتى المؤامرات والمشاجرات التي لم تكن لها نهاية باتت تُدوَّن وتُحلَّل باحتراز. هذه المعلومات الأمنيَّة كان يتمُّ تدقيقها بواسطة الأب النمسوي أوهولدر، الذي كان قد هرب من سجن الخليفة عبد الله في أم درمان، ووصل الأراضي المصريَّة العام 1891م، ونشر كتاباً مثيراً للجدل عن تجربته في الأسر بعنوان "عشر سنوات أسيراً في معسكر المهدي: 1882-1892م" (2016م) (Ten Years’ Captivity in the Mahdi’s Camp: 1882-1892). لقد ترك هذا الكتاب وكذلك السفر الذي أصدره حاكم دارفور السَّابق النمسوي سلاطين باشا بعنوان "السَّيف والنَّار في السُّودان" (1895م) (Fire and Sword in the Sudan: A Personal Narrative of Fighting and Serving the Dervishes (1879 – 1895)) انطباعاً مشؤوماً وعميقاً وسط الإنكليز في إنكلترا. وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ سلاطين باشا هو الذي ظهر فجاءة في 16 أذار (مارس) 1895م في أسوان متنكِّراً كعربي أشعث أغبر من مكابدة الطريق، ووحشة الاغتراب، ووعثاء السفر، الذي لقي منه نصباً، ومرتدياً جبَّة متَّسخة، وعلى جمل أعرج هزيل جاء ممتطياً، وقدَّم نفسه لقائد الحامية، وتمَّ استقباله باندهاش ذي دهشة. فالاندهاش هو حال الإحساس بالمفاجأة، وإنَّ الدَّهشة لهو شعور فجائي بالفرحة، وضدها تماماً الصدمة، وهي شعور مفاجئ نقيض للشعور بالدَّهشة مع توافر الفجائيَّة في كلاهما؛ إذاً الصدمة شعور مفاجئ بالحزن أو الغيبة.
مهما يكن من شيء، فقد كان سلاطين يعرف كل شيء عن إمبراطوريَّة الدراويش، وكان بمثابة خادم في موضع الثقة عند الخليفة عبد الله، وكان الخليفة يسمح له بتعاطي الإطعام والتشراب معه كصديق، برغم من أنَّه كان يلقبه ب"شويطين"، والتصغير هنا على وزن فوعيعيل للتحقير. وكان سلاطين يسترق السمع ويسمع ما كان يدور في مجالسه الخاصة والعامة، وكان يعرف كل أمرائه، ثمَّ كان سلاطين جنديَّاً باسلاً وإداريَّاً فذاً، وهو الذي كان باستطاعته أن يقيِّم كل ما تعلَّمه، ومن ثمَّ مُنِح لقب الباشا وأُلحِق بشعبة الاستخبارات. إذ كانت معرفته الدقيقة بدولة المهديَّة قد دعمت اعتقاد السلطات المصريَّة بأنَّ سلطة الدراويش في اضمحلال، وباتت تتهاوى، أو على وشك الهاوية. غير أنَّ قصَّته في تأليفه "السَّيف والنّار في السُّودان" قد أثارت موجة من الرُّعب والغضب الشديدين وسط النَّاس في إنكلترا ضد قساوة الخليفة عبد الله كما أشرنا آنفاً، وساقت الرأي العام البريطاني نحو سياسة إعادة احتلال السُّودان.
والخليفة عبد الله، الذي كان يتحدَّر من قبيل التعايشة العرب في دارفور، لم يكن يحظى بشيء من التأييد شديد، وبخاصة عند أهل البحر في الخرطوم والشماليَّة والجزيرة. ولكي يتمكَّن من إدارة دولاب الدولة استقدم عشرات الآلاف من قبائل العرب في غرب السُّودان، وأسكنهم في أم درمان لحمايته في نفسه وفي سلطته. هؤلاء الآلاف المؤلَّفة من الجنود كانوا في حاجة إلى الغذاء، وفي سبيل الحصول على ذلك باتوا يغيرون عشوائيَّاً على المزارع التي تصل إليها أرجلهم وأياديهم، حتى أمسى الأهالي لا يجدون ما يغريهم لزراعة أكثر مما هم في الحوجة الآنيَّة إليه في أسرهم. ومن ثمَّ أخذ مخزون الغذاء يتضاءل. وفي العام الأسيود 1889م قل منسوب هطول الأمطار، والتهمت أسراب الجراد محاصيل الذرة، ومن ثمَّ ضربت البلاد مجاعة طاحنة، عُرِفت بمجاعة سنة ستة (1306ه/1888-1889م).
إذاً، ما هي الدروس المبتغاة من هذا السَّرد التأريخي السِّياسي؟ أولاً، لقد بات من الأمر الجلي أنَّ الأرقِّاء الذين تمَّ استياقهم كالأنعام وتم ابتياعهم في أسواق النَّخاسة في مصر، قد عادوا مع العدو لينتقموا عن أنفسهم من أولئك الذين أوقعوهم في مأساة الاسترقاق، وأوصلوهم ذلكم المقام غير المحمود؛ ثمَّ ما أن امتشقوا السِّلاح، ونالوا التدريب العسكري، حتى راودتهم فكرة الثأر والانتقام – وبالطبع بتشجيع من الإنكليز – وكذلك كان يراود بعضهم حلم الاقتران بأهله، أو حتى التعرُّف عما حاق بهم من مصير الأمصار. ثانياً، لعلَّ في استخدام السُّودانيين ضد بعضهم بعضاً لأمر عُجاب، وإنَّه لمسألة تعود جذوره إلى تأريخٍ موغلٍ في القدم، ولكنه اشتدَّ أوراها بعد اتفاقيَّة البقط العام 652م باستقدام واستخدام العاملين الإثني والدِّيني. فإرجع البصر كرَّة أخرى لمعركة بارا في نيسان (أبريل) 1821م حين اشترك العرب البدو – الذين أسمَّوهم المقرَّبين (القوات الصَّديقة، أو الميليشيات العربيَّة، أو الجنجويد بلغة العصر) – مع القوات التركيَّة-المصريَّة بقيادة محمد بك الدفتردار ضد قوات المقدوم مسلَّم حاكم كردفان في مملكة المسبَّعات، وقد كان مصرعه بواسطة رصاصة أطلقها عليه أحد هؤلاء البدو. وها هم الإنكليز يأتون بالأمر نفسه في حروبات البحر الأحمر ضد قوات المهديَّة بقيادة عثمان دقنة، و"حرب النَّهر" حتى كرري، وضد السلطان علي دينار في دارفور 1916م، والسطان عجبنا في منطقة أما (النيمانج) بجبال النُّوبة (1917-1918م).
وفي شأن السلطان عجبنا يقول المؤرِّخ السُّوداني مكِّي شبيكة إنَّ السلطات الاستعماريَّة هاجمته "بدوريَّة مكَّونة من 31 من الضباط الإنكليز و105 من الضباط المصريين والسُّودانيين، و2.875 من الجنود ومعهم 8 مدافع كبيرة و18 مكنة. وقامت هذه القوَّة بضرب الحصار على مجموعة الجبال، ورابطت أشهراً عديدة. وقد تمَّ الاستيلاء على الجبال والقبض على زعيم الثورة في كانون الأوَّل (ديسمبر) 1917م." وفي الحق، لقد استسلم السلطان عجبنا حفاظاً على أرواح المواطنين الأبرياء العزل من محرقة الإنكليز، ولم يتمُّ القبض عليه كما أرَّخ مكي شبيكة، وهذان أمران مختلفان تماماً، فالقبض يأتي دوماً كنتيجة للهروب والمطاردة، أو الاختباء والعثور على المختبي المختفي، أما الاستسلام فيأتي طوعاً وتلقائياً من الشخص المطلوب، ومن هنا تتجلَّى الشجاعة. هذا، فلقد أفردنا حيزاً كبيراً في تأليف ضخم لسرد معارك السلطان عجبنا مع سلطات الحكم الثنائي.
وللحديث بقيَّة،،،