اغتيال وتمرد ومظاهرات (2 -2): فصل من كتاب “طبيب من السودان”

 


 

 

 

مقدمة: هذه ترجمة لمعظم ما جاء في الفصل العاشر من كتاب الدكتور البريطاني ليونارد بوسفيلد "طبيب من السودان Sudan Doctor"، الذي نُشرته دار نشر Christopher Johnson في عام 1954م. وتدور أحداث هذا الفصل عن أحداث حركة 1924م، من وجهة نظر الكاتب وقومه.
وبحسب ما جاء في نعي له صدر في العاشر من مارس 1954م بالمجلة الطبية البريطانية، ولد ليونارد بوسفيلد في يوم 27 فبراير من عام 1876م في مدينة St Leonards-on-Sea في شرق اسيسك بإنجلترا، وتوفي في 25 فبراير من عام 1954م. تلقى بوسفيلد تعليمه الطبي في جامعة كمبردج، التي تخرج فيها عام 1903م، ثم حصل على درجة الدكتوراه في الطب عام 1907م. وأنتدب للعمل في الجيش المصري عام 1906م، وأرسل للخرطوم بعد عامين للقيام ببحث حول وباء الكالا زار (الداء الأسود) وطرق انتقاله وانتشاره. عاد بعد ذلك لبريطانيا ليتزوج، وليحصل على دبلوم الصحة العامة من إيرلندا. وفي عام 1912م التحق ببلدية الخرطوم للعمل كمفتش طبي (وصحي) لمديرية الخرطوم (بمدنها الثلاث) وتقاعد عن العمل بالمديرية في عام 1922م. نال بوسفيلد إبان خدمته بالسودان أوسمة تشريفية من سلطان تركيا وملك مصر.
الشكر موصول لدكتور محمد صادق جعفر لجلبه لي هذا الكتاب لترجمته.
المترجم
************ *********** ********** *********
لاحظنا في مساء ذلك اليوم الباكر أن الآنسة موور رئيسة الممرضات والممرضة الأخرى ليستا في القصر مع بقية البريطانيين. وتوليت مهمة إحضارهما من المستشفى رغم حلول الظلام تنفيذا لأوامر القائد العسكري، الذي أوصاني بالسير بسرعة فائقة عند عبوري لشارع الخديوي، إذ أن المتمردين كانوا يصوبون نيرانهم على كل من يسير عليه. كانت كل المصابيح التي تضيء الشوارع قد أطفئت، ولم يبق لي إلا أن أعتمد على نور المصابيح الأمامية في سيارتي. وعند شارع الخديوي أطفأت تلك المصابيح وضاعفت من سرعة سيارتي كما نُصحت. سمعت أصوات الرصاص في ذلك الشارع، إلا أن السيارة لم تصب بأي سوء. أعدت تشغيل نور السيارة وواصلت السير حتى بلغت المستشفى ومقر سكن الممرضات، وكدت أن اصدم رجلا مستلقيا على الشارع، ولكن الله سلم. كان ذلك الرجل هو أحد ثلاثة جنود سودانيين مسلحين بالبنادق استلقوا على الشارع.
وجدت رئيسة الممرضات، الآنسة موور والممرضة الأخرى في غرفتيهما وهما في غاية القلق والاكتئاب. أبلغتهما بالأوامر الصادرة من نائب الحاكم العام (سير وايسي ستيري) بضرورة إحضارهما للقصر. كانت معهما أيضا ممرضة ثالثة لم أرها من قبل. رفضن جميعا ذلك الأمر بشدة وقلن إن واجبهن يحتم عليهن البقاء مع المرضى. وتطاول النقاش معهن لدقائق حسبتها طويلة جدا، وشددت على أن ذلك أمر مباشر واجب التنفيذ، إذ أنه صادر من أعلى سلطة بالبلاد. أجابتني الآنسة موور بصريح العبارة أنها لن تغادر المستشفى، ولكنها أصدرت أمرا للمرضتين الأخريين بالذهاب معي للقصر. لحسن الحظ بقيت رئيسة الممرضات الشجاعة في مستشفاها ولم يصبها أدنى سوء. ورغم تقديري لشجاعتها (ومهنيتها)، إلا أني أرى أن نائب الحاكم العام كان محقا في قراره، إذ أنه كان سيكون أمرا فظيعا ومسؤولية كبيرة إن حدث لأولئك النساء البريطانيات مكروه في تلك الأيام العصيبة.
عدت بالممرضتين وأنا أقود سيارتي بأقصى سرعة، ولحسن الحظ لم يقم الجنود السودانيون بالتعرض لنا. وبلغنا القصر سالمين.
كان المسؤولون بمبنى المديرية (وهي رئاسة مديرية العاصمة) وقادة الشرطة يحاولون الاستمرار في أداء واجباتهم. وفي عصر اليوم التالي للجوئنا للقصر أتت إشارة عاجلة للقصر من البريطانيين بالمديرية تطلب إرسال رجال مسلحين لثكنات الشرطة من أجل حمايتهم، فقد هاجمهم عدد من الجنود المتمردين وقتلوا بعضهم.
تطوع تسعة عشر من الرجال في القصر للذهاب للمديرية، كنت من بينهم. قابلنا هناك حكمدار الشرطة، وتسلمنا منه بنادق وذخائر كثيرة من مستودع الأسلحة عنده. ذهبنا بعد ذلك إلى ثكنات الشرطة، ولم تصادفنا في طريقنا إلى هنالك أي عوائق أو حوادث تذكر. كانت ثكنات الشرطة عبارة عن حوش كبير به أربعة مبانٍ في وسطها ساحة رملية واسعة. رأينا جثة شرطي ملقاة في وسط تلك الساحة.
حُدد لكل منا موقعه في تلك الثكنات، وكان نصيبي – مع رجال آخرين – في خارج المبنى وخلف دعامات مقوسة (flying buttresses) بنيت لتقوية الجدران الخارجية. وقمنا بحراسة أرض خالية من أي عمران تبعد حوالي خمسمائة أو ستمائة ياردة من ردمية السكة حديد (railway embankment) التي شيدت أعلى حزام من الحشائش الطويلة والشجيرات والأشجار.
أُخبرنا بأن عدد خصومنا الذين كانوا يختبؤون خلف ردمية السكة حديد، أو ربما خلف تلك الأشجار والشجيرات على جانب خط السكة جديد الذي نواجهه يبلغ نحو عشرين إلى ثلاثين من الجنود السودانيين المتمردين. وكان الصمت المطبق يلف المكان. وبقينا منتظرين لساعة أو أكثر دون أن تنطلق منهم رصاصة واحدة. وأصابنا المَلَل.
وفجأة تناهت لأسماعنا أصوات خيول تركض آتية من خلفنا. أتانا مفتش الشرطة روبن بيلي في رفقة رجلي شرطة.
أنتحى بي مفتش الشرطة جانبا وقال لي بأن لديه معلومات تجعله يؤمن بأنها ستوقف هجوم المتمردين على الثكنات. وطلب مني أن آمر جميع من معي بألا يطلقوا نيران بنادقهم حتى يعود، أو يطلقوها فقط في حالة التأكد من أن المهاجمين يتقدمون بالفعل نحونا.
وبشجاعة فائقة تقدم الرجال الثلاثة على ظهور خيولهم نحو ردمية السكة حديد، وقائدهم بيلي يحمل رمحا علقت عليه راية بيضاء. لم يقم أحد من المهاجمين بإطلاق النار عليهم، فتقدموا وعبروا تلك الردمية نحو الجانب الآخر واختفوا عن أنظارنا. وأرخينا سمعنا ولكن لم نسمع أي صوت.
وبقينا في انتظارٍ قلق لنحو ربع ساعة حين رأينا موكب رجال الشرطة يظهر مجددا ويتقدم نحونا. تنفسنا الصعداء حين أخبرنا بيلي بأن المتمردين وافقوا على الانسحاب، وأنهم قد بدأوا بالفعل في العودة لثكناتهم، وأن بإمكاننا الآن العودة للقصر. غير أن القلق كان واضحا على وجه الرجل وهو يحدثنا بأن معلوماته كانت تفيد بأن هنالك ما بين عشرين إلى أربعين رجلا يختبؤون تحت تلك الأشجار الصغيرة، بينما اكتشف هو أن عددهم هو مئة وخمسين من الجنود المدربين المسلحين. وأضاف بأنه لو هاجم أولئك الرجال ثكنات الشرطة لقضوا علينا جميعا. كان بالثكنات نحو ثلاثين من رجال الشرطة، إضافة لنا، نحن التسعة عشر مدنيا، وكان كثير منا لا يجيد التصويب، وأغلبنا من المتزوجين.
قضينا في القصر ليلة مرهقة أخرى يسودها القلق وعدم اليقين مما سيحدث. وفي فجر اليوم التالي سمعنا هدير المدافع وطلقات البنادق الآلية، ثم أتت الأخبار بعد ساعات قليلة بأن الوضع قد غدا تحت السيطرة بعد أن قتل بعض المتمردين، وانسحب أو استسلم معظمهم. لم يبق منهم إلا قليل من المتشددين (لا يفوق عددهم العشرين) الذين أصروا على الاستمرار في التمرد والمقاومة إلى النهاية. كان هؤلاء قد احتلوا مقر إقامة الأطباء العسكريين المصريين ومطعمهم، وكانوا لا يزالون يشكلون تهديدا كبيرا، وكان من الواجب محاصرتهم. وبالفعل هاجمتهم قوة بريطانية بمدافع الهاوتزر، التي نصبت قريبة جدا من أماكن تحصنهم. وأفلحت تلك القوة في هدم المبنى ودفن من كانوا فيه تحت أنقاضه. وأطلق أحد الجنود السودانيين المتمردين النار، وهو يكاد يحتضر تحت الأنقاض، على ضابط بريطاني شاب أُرسل ليتفقد آثار ضربات المدفعية، فأرداه قتيلا.
حزنت أنا وزوجي – بصورة خاصة - على مقتل ذلك الضابط الشاب، فقد كان من ضمن الذين كنا قد دعوناهم لحفل تنس في دارنا قبل أقل من أسبوع. وأذكر أننا كنا نعده من ألطف الشباب البريطاني الذين التقيناهم في الخرطوم. كان يبدو صغيرا في السن مثل طالب في المرحلة الثانوية. كان أمرا بالغ الفَجْع والمَأسَاوِيَّةً أن لقي ذلك الشاب مصرعه بآخر طلق ناري أُطلق في طوال أيام التمرد.
ولما بلغت القصر الأنباء بأن التمرد قد تم سحقه تماما، طُلب مني العودة لممارسة عملي المعتاد. عدت لداري أولاً لأرى إن كان قد تعرض للسلب والنهب. وإن لم يكن الأمر كذلك، أن أحمل بعض الملابس الداخلية لزوجتي في القصر. كان باب الدار مغلقا، وناديت مرارا على من بداخله ليفتحوا لي الباب ولكن دون فائدة. وذهبت إلى حيث كان الخدم يسكنون وطرقت بابهم مرات عديدة، وصحت مناديا إياهم بأسمائهم، ولم يرد أحد. ولكن بعد دقائق سمعت صرير الباب وهو يفتح بحذر شديد، وأطل منه بعضهم وهم في حالة فزع جَارِف، وكان يعلو وجوههم الخجل. غير أنهم لما رأوني بدأوا في الابتسام والثرثرة معي في حبور. كان أولئك الخدم من (البرابرة)، وهم من قبيلة لم يشتهر أفرادها بالشجاعة (بحسب رأي الكاتب بالطبع. المترجم). وخلصت إلى أن خدم بيتي كانوا أمناء، إلا أن البيت قد تم اقتحامه وسرقة ما فيه.
قمت أيضا بزيارة المستشفى العسكري ورأيت جثثا ملقاة بين الأنقاض، وسمعت من بعضهم معلومات مؤكدة من أفواه من شهدوا مقتل النقيب كارلايل.
كان أمرا مثيرا لافتا للنظر أنه لم تقع سرقة لبيت واحد في الخرطوم في غضون تلك الأيام التي لجأ فيها البريطانيون للقصر. دع أولئك الذين لطخوا سمعة حكمنا لبلاد الأهالي يذكرون تلك الحقيقة المدهشة. فقد كانت ممتلكاتنا تحت رحمة أولئك الناس، لكنهم لم يقربوها (زعم الكاتب من قبل أنه اكتشف أن محتويات بيته قد سُرقت وهو في القصر! المترجم).
كان ذلك التمرد قد تزامن تقريبا مع الشغب الذي وقع في السجن المركزي بالخرطوم بحري. وبدا وكأن اغتيال سير لي استاك قد كان بمثابة الشرارة التي أوقدت احتجاجات كل المتذمرين في آن واحد معا.
قدت سيارتي لذلك السجن في أحد أيام نوفمبر للقيام بتفتيش صحي. وبعد أن اجتزت خطوط حراسة القوات البريطانية التي كانت تحيط بالكتيبة المصرية الأولى وجدت مسؤولا كبيرا في ذلك السجن يقف مع حراس بريطانيين في بوابة السجن، وكانوا في غاية الإثارة وهم يتحدثون.
أخبروني بأنه ليس بمقدوري القيام بالتفتيش (المعتاد) إذ أن الطلاب الحربيين الذين كانوا شاركوا في موكب الاحتجاج في أغسطس، قد ثاروا على حراسهم واندفعوا خارج زنزاناتهم، وهم الآن يسرحون ويمرحون في ساحة السجن. كان هؤلاء الطلاب الحربيون قد سجنوا في زنازين بعيدة عن السجناء الآخرين. وكان معسكرهم الصغير يتكون من ست زنزانات مبنية على طول جانبي المبنى، الذي ينتهي بجانبين آخرين وضعت على جدارهما أسلاك حديدية شائكة. وكان هنالك باب في منتصف أحد الجوانب. وكان أحد أولئك الطلاب قد تمكن من كسر باب زنزانته خلال الليل، وأفلح أيضا في فتح أبواب زنزانات رفقائه مستخدما قضيبا حديديا كبيرا. تجمع كل أولئك الطلاب بعد أن حرروا أنفسهم في ساحة السجن المربعة وهم مسلحين بعصي خشبية، ولم يكن هنالك ما يحول بينهم وبين الخروج من السجن سوى مباني الزنزانات والأسلاك الشائكة في جدرانها.
وفي تلك الأثناء كان الحراس قد أبقوا بقية المساجين في زنازينهم التي تقع في منتصف السجن إلى حين الفراغ من التعامل مع السجناء المتمردين. خطوت نحو الطلاب الحربيين في رفقة أحد حراس السجن. لم أُقابل قط من قبل (في هذه البلاد) بمثل ذلك الغضب العارم والإيماءات المجنونة التي لقيتها من أولئك الطلاب الحربيين.
كانوا شبابا أقوياء البنية، وأغلبيتهم من أعراق عربية مختلطة بدماء الزنوج. ومع اقترابنا منهم، زاد صخبهم وخبطهم للسور الحديدي بعصيهم الخشبية الغليظة، وصراخهم بأعلى أصواتهم والزبد يسيل من أفواههم. كان منظرا لا يكاد يصدق.
كنت أنوي التحدث إليهم، ولكني عدلت عن ذلك بعد أن بصق بعضهم في وجهي، ونجح واحد منهم في إصابة الهدف مباشرة. عدت لحراس السجن ووجدتهم يطلبون من رئيسهم السماح لهم بالعودة لداخل السجن والسيطرة على أولئك الطلاب الحربيين المتمردين. لم يكن المسؤول موافقا على دخولهم في صدام مع أولئك المساجين خشية حدوث إصابات خطيرة في وسط الحراس وفي أوساط الطلاب الحربيين أيضا.
غير أن عامل الوقت كان عاملا مهما ينبغي أخذه في الاعتبار، إذ أنه كان من الممكن أن يفلح بقية المساجين (المدنيين) في الخروج من زنزاناتهم، وأن ينضموا لأولئك الطلاب الحربيين في تمردهم، وينجحوا جميعا في كسر أسوار السجن والهرب. اقترحت عليهم أن أعود سريعا للقصر كي أبلغ الحاكم العام بما يجري في السجن كي يتخذ ما يراه من إجراءات مناسبة، وقوبل اقتراحي بالترحيب والموافقة.
أدخلت على الحاكم العام في إحدى غرف الاستقبال بالقصر. ما أن سمع بما رويته له من شغب بالسجن المدني حتى اتخذ قرارا سريعا قال لي فيه: "عد لهم في الحال وأخبرهم بأننا سنتخذ ما يلزم من إجراءات ضد أي مشاغب. أخبرهم بأن عليهم استخدام أي قدر من القوة يرونه ضروريا، وسأدعم موقفهم".
وفي طريق عودتي للسجن المدني حدث أمر غاية في الغرابة. مررت في الطريق بمسؤول السجن في سيارته. أوقفته ونقلت له قرار الحاكم العام حيال حادثة شغب أولئك الطلاب الحربيين. أجابني بهدوء وبرود: "حسنا! سأذهب الآن للبيت لتناول إفطاري ثم أعود للتعامل مع الموقف".
كان ذلك التأخير الغبي فعلا قاتلا. فقد نجح الطلاب الحربيون في كسر الحاجز بينهم وبين بقية السجناء، وصنعوا بسرعة من أسياخ الحديد في السور رماحا حادة، وأسياخا حديدية غليظة (وصل بعضها لعشرة أقدام). وأقدموا على إطلاق سراح السجناء الآخرين من زنازينهم، واقتحموا الورشة، واستولوا على ما فيها من أشياء (تصلح للاستخدام كأسلحة). تحول الموقف الآن لحشد هائج من ثلاثمئة من الرعاع اليائسين يجوبون ساحة السجن بحرية ويسيطرون فعليا على كل أجزاء السجن. كانت بأيديهم مختلف أنواع الأسلحة. بل ورفع أحدهم علما أخضر أعلى مبنى السجن الرئيس. كان ذلك الرجل يلف رأسه بعمامة خضراء، مما يدلل على أنه كان قد أدى فريضة الحج بمكة (هكذا! المترجم).
غدا الموقف يتطلب تعاملا أكثر حيطة وحذرا، إذ أنه كان موقفا ملتبسا بكثير من الاعتبارات والنتائج السياسية المحتملة.
وتواصل الشغب والهياج طوال ذلك اليوم. وفي صبيحة اليوم التالي زرت السجن لمعرفة تطورات الأحداث، فوجدت أنه قد تم استدعاء سرية من الجنود تحت إمرة قائد بريطاني كفء هو النقيب ليدلو، وكان ملحقا بالجيش المصري. كان الجو العام بالسجن مليئا بالإثارة والتوتر، وأخبرني النقيب بأن عددا من المساجين استطاعوا تحطيم عامود إنارة (كَشّاف) كبير موضوع على سقف مبنى الورشة، وتقدموا نحو البوابة الرئيسة وهم يحملون ذلك "السلاح" القوي.
تحرك إثر ذلك النقيب ليدلو بحكمة وبراعة، وصعد – في رفقة شاويش (رقيب) يحمل بندقية - إلى أعلى واحد من أبراج الحراسة، وذهبت معهما. رأينا ونحن في البرج حشد المساجين وهم يتقدمون ببطء نحو البوابة الرئيسة، من بينهم عشرين أو ثلاثين يحملون - بصعوبة كبيرة – ذلك الكَشّاف الضخم الثقيل.
أخرج النقيب مسدسه وصوبه نحو الرجال من تحته وصاح فيهم: "إن تقدمتم خطوة واحدة، فسأطلق النار، وسيقتل واحد من الصف الأول".
توقف موكب السجناء، ولاحظت على الفور أن السجين الذي كان يقود رفاقه قد وضع الكَشّاف بسرعة على الأرض، ولكنه لم يتزحزح عن مكانه.
وفي أثناء اللحظات التالية التي سادها التردد في وسط السجناء أطلق النقيب صيحة تهديد أخرى: "سأعد إلى ثلاثة، وإن لم تضعوا عامود الإنارة أرضا، فسأطلق الرصاص." بدأ في العد: واحد، اثنان ... فرموا بالعامود أرضا. ثم صاح النقيب مجددا: "تراجعوا للخلف."
تردد السجناء قليلا في تنفيذ ذلك الأمر، ولكن بعد فترة قصيرة جدا بدأ بعضهم في الانسحاب، فتبعهم جميع السجناء. وتقدم الجنود ونقلوا ذلك العمود الخطر، وهم تحت حماية بنادق الجنود الواقفين على جدران السجن. وفي غضون كل ذلك سألت النقيب إن كان ينوي بالفعل تنفيذ تهديده وإطلاق الرصاص، فأجاب بكلمة واحدة: "بالتأكيد".
بقي السجناء يحكمون سيطرتهم على السجن لعدة أيام، ولكنهم استسلموا أخيرا بسبب نفاد ما كان عندهم من طعام. ولم يحدث في غضون ذلك الشغب أي عنف أو إراقة دماء.
يجب ألا ننسى أن ذلك الشغب كان قد وقع في السجن المدني في ذات الوقت الذي تمردت فيه كتيبة الجيش المصري الأولى وأبت مغادرة الخرطوم. وكانت تلك أيام حافلة بالمواقف القابلة للاشتعال. ولا ريب عندي أن رفع المتمردين لتلك الراية الخضراء على سطح مبنى السجن كان القصد منه طلب العون والسند من إخوانهم المحمديين.
لقد تصرف النقيب ليدلو بصورة حازمة إزاء ذلك الموقف الحرج، ولعله أفلح في إخماد موقف كان سيفضي لوضع أسوأ مما حدث لاحقا بالفعل في نوفمبر من ذات العام. ولو ساندت الكتيبة المصرية الأولى أولئك المساجين في تمردهم، للقى السودانيون الذين تمردوا بعد ذلك بأيام، نجاحا أكبر مما وجوده.
أود أخيرا أن أعيد ما ذكرته آنِفاً من أن الزبد كان يسيل من أفواه بعض أولئك الطلاب الحربيين المسجونين. ولم يكن ذلك مجرد تشبيه مجازي. كان الزبد يسيل من شفاههم مثل ذلك الزبد الذي يسيل من زجاجة بيرة (رُجت) وفتحت لتوها. لم يسبق لي أن رأيت رجلا أبيض يفعل ذلك وهو في حالة غضب، رغم أني رأيت الكثير من الحالات التي فقد الناس فيها السيطرة على أنفسهم.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء