مقدمة: هذه ترجمة لما جاء في الفصل السابع عشر من كتاب (السودان في طريق التطور Sudan in Evolution) لمؤلفه البريطاني بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin (1861-1941)، الذي صدر بلندن في عام 1921م عن دار نشر كونستابل وشركاه. Constable & Company ويتناول هذا الفصل تاريخ التعليم بالبلاد في العقدين الأولين لعهد الاستعمار الإنجليزي – المصري. كُتب الكثير عن تاريخ التعليم (الحديث) في السودان. ويمكن النظر، على سبيل المثال في كتاب هيذر شاركي المعنون (العيش مع الاستعمار: الثقافة والوطنية في السودان https://rb.gy/oz3rjj)، ومقال ويليو بيريدج المترجم بعنوان: "التعليم تحت ظل الاستعمار وتشكيل الأيديولوجيا الاسلامية في السودان" https://tini.to/t5d))، ومقال صغير لجي. أم. ريتشاردز عن تعليم كبار نساء الريف: تجربة في أم جر (tiny.cc/o4cwiz)، ومقال ليزا ساندال المترجم بعنوان: "مقدمة لتاريخ التعليم الحديث في السودان . https://shorturl.do/Q3Fbb المترجم ***** ****** ***** أول ما يسأل عنه المرء وهو يستفسر عن التنمية الاقتصادية في قطر ما هو: "ما الذي أنجز في شأن التعليم في ذلك القطر؟". جاء في قول لرجل الدولة البريطاني اللورد هنري بروهام (1778 – 1868م) ذات مرة:" فليبق الجندي في خارج البلاد إن شاء، فبديله موجود بالبلاد – ذلك هو مدير (ناظر) المدرسة. أثق في أنه سيعد جيلا ناشئا خير إعداد، أكثر من ثقتي في الجندي بكل ما معه من أسلحة". لقد ظفر السودان بخدمات الاثنين معا: الجندي ومدير المدرسة، وأستفاد من كليهما أيما استفادة. وخلافا لكثير من الحكام الأجانب الذين حالوا بصرامة وتشدد دون حصول محكوميهم من الأهالي على كل ضروب المعرفة، كان البريطانيون يقومون عند سيطرتهم على الطبقة الحاكمة عند جنس معين، بوضع كامل ثقتهم في أمرين: حرية الفكر في الأمور الدينية، وتعليم الشعوب المستعمرة. لقد طبقت تلك المبادئ بالفعل في الهند. وفي ذلك الشأن، رد اللورد ماكولي عندما سأله أحد أعضاء مجلس العموم عما إذا كان من اللازم إبقاء الشعب الهندي جاهلاً حتى يتسنى لبريطانيا حكمه. جاءت إجابة اللورد بالنفي القاطع. وهذا ما فعله الحكم الثنائي (الإنجليزي – المصري) في السودان، حيث أقام في البلاد نظاما تعليما يناسب الأهالي بأعراقهم المختلفة، ويوافق ظروفهم الخاصة، وحالة كونهم تحت إدارة ثنائية منذ يوم استعادة السودان. وكانت النتائج، على وجه العموم، ممتازة للغاية. ولا نبتعد عن الحقيقة إن ذكرنا أن النهضة التعليمية التي شهدها السودان كانت أكبر من تلك أعقبت سيطرة بريطانيا على مصر. وثبت أن إقامة المدارس في المدن والقرى كان واحدا من أهم وأصوب وأحكم الأعمال التي قامت بها حكومة السودان في غضون سنوات العقدين الذين أعقبا بدء الإدارة الثنائية الحاكمة للبلاد. ولا شك أن ذلك التطور التعليمي الاستثنائي الذي أُنجز يعزى - بدرجة كبيرة – لاتباع الخطط الأصلية التي أرسى قواعدها في كل مجالات التعليم العام سير جيمس كيري (أول مدير لمصلحة المعارف)، المعروف بحكمته ورعايته وبعد نظره. وصاحبت تلك المجهودات الباكرة الكثير من خيبات الأمل والصعوبات والاحباطات بسبب قلة التمويل اللازم، التي كانت تعيق دوما تنفيذ بعض المشروعات التي كانت تمثل جزءًا من خطة شاملة متكاملة موضوعة سلفا. ويلاحظ المرء من مراجعة صفحات كل التقارير السنوية التي أصدرتها مصلحة المعارف منذ إنشائها حتى الآن المجهودات الحثيثة التي قامت بها المصلحة لتنفيذ مشروعاتها رغما عن كل ما ذكرنا من صعاب وعوائق. لقد تم إلى حد كبير إنجاز الكثير كنتيجة للسياسات الحكيمة التي سُنت ونُفذت منذ البداية (في ظل شح في الإمكانيات) على أساس متين من خطة تعليمية شاملة مناسبة بصورة خاصة لشعوب السودان. لقد كان النظام الذي خططه سير جيمس كيري عند تعيينه لأول مرة، وأسس له لاحقا، يقوم على إنشاء مدارس أولية، وورش تعليمية، ومدارس وسطى، وكليات تدريب مهنية / فنية، ومدرسة عليا. وقسمت المدرسة العليا إلى ثلاثة أقسام: مدرسة لتدريب مساعدي المهندسين، ومدرسة ثانوية تُدرس المواد (الأدبية) المعتادة، وكلية تربية لتدريب المدرسين. وبقيت فوائد التعليم الحكومي حتى عام 1905م مقصورة على الأولاد. غير أنه ظهرت بعد ذلك الحاجة لإنشاء مدرسة حكومية للبنات في الخرطوم، ودار حول ذلك الأمر الكثير من النقاش. غير أن مدير المعارف كان يرى أن الوقت لم يحن بعد للشروع في تعليم البنات. غير أن تعلميهن بدأ بعد ذلك (بسنوات قليلة). وهناك الآن ثلاث مدارس (كُتاب) للبنات، اثنان منها في قريتين صغيرتين على النيل الأزرق في رفاعة والكاملين، والثالثة في دنقلا. وفيما عدا ذلك ظل تعليم البنات السودانيات في أيدي المؤسسات التبشيرية. ورغم أن المدارس التبشيرية كانت تقوم بعمل جيد، إلا أنه ليس بمقدورها، كما ذكر سير كيري في تقريره (الوداعي) الأخير "أن تنال ثقة الغالبية الغالبة من المجتمع السوداني – وهم العرب الذين يدينون بالمحمدية". وكان اللورد كتشنر قد أنشأ في عام 1899م "كلية غردون التذكارية" تخليدا لذكرى الشهيد الجنرال غردون، مستفيدا من صندوق هبات بلغت قيمته مئة ألف من الجنيهات المصرية، تبرع بها بعض الخيريين في إنجلترا استجابة لنداء من اللورد كتشنر. وتولت مصلحة المعارف الإنفاق على تلك الكلية بحسبانها مؤسسة مهمة تقدم خدمات عامة جليلة لا غنى عنها للحكومة، إذ أنها تعد بمثابة "جامعة السودان" والمركز العضوي لمصلحة المعارف. وفاقت تكلفة تسيير أعمال الكلية في عام 1919م مبلغ خمسة وثلاثين ألفا من الجنيهات المصرية. وألزمت الكلية نفسها باتباع طابع عقلاني وطرق تدريس تهيئ خِرّيجيها للعمل في وظائف عملية، وتجعلهم يحترمون الأعمال اليدوية ولا يتأففون منها. وكان كتشنر حريصا بصورة خاصة على أن تنتهج الكلية سياسة أساسها "الكفاءة العملية" وتدريب الطلاب مهنيا بحسب إمكانياتهم الفردية. ووافق كرومر ووينجت وكيري على رؤية كتشنر وأيدوها وعملوا بجدٍ على تطبيقها. لقد نجحت كلية غردون نجاحا عظيما، وعمت شهرتها ونفوذها في الدول الإفريقية الأخرى. وسعى زعماء الأهالي بالسودان وبعض المناطق المجاورة لإلحاق أبنائهم بها. وقدم إداريون من مناطق بعيدة في أفريقيا طلبات لاستقدام مدرسين تدربوا في تلك الكلية. وقدمت العديد من النداءات التي لا تقاوم لذوي القلوب المعطاءة الكريمة لتخليد ذكرى غردون، ولتكريم أسماء أولئك النفر من النبلاء الْمُخَلِّصين للسودان – كتشنر وكرومر ووينجت، ولحضهم على القيام بدورهم في حمل "عبء الرجل الأبيض". وليس هنالك أمر أكثر الحاحا أو جدارة بالاهتمام مثل التبرع لكلية غردون التذكارية، فهي، رغما عما تواجه مصاعب كبيرة، تقوم بأعمال جليلة ضخمة في حمل مشاعل النور والتمدن إلى قلب أفريقيا، ورفع جهل سكانها. ولا شك أن ريع صندوق هبات الكلية ليس بكافٍ لمقابلة الاحتياجات الكثيرة لهذه المؤسسة العظيمة النافعة. لقد ظل جلالة الملك يظهر دوما اهتمامه الكبير بكلية غردون التذكارية، التي هو راعيها. وكان كتشنر هو أول رئيس لها، ثم تلاه وينجت. أما الآن فرئيس الكلية هو الحاكم العام (سير لي استاك). وكان من ضمن أمناء الكلية ولجنتها التنفيذية المشير فيزكاونت اللنبي (المفوض السامي البريطاني لمصر والسودان)، والأيرل كرومر، ولورد ريفيلاستوك، ولورد هيللنقتون (أمين الصندوق الفخري)، والفريق سير ريجلاند ونجت (الرئيس)، والفريق سيرارشي بولد هنتر، وسير ويليام قاريستين، والسيد ام. سي. نورمان (محافظ بنك إنجلترا)، وسير إيدوارد كاسيل، وسير هنري كريك، والسيد هنري اس. ويليام (ويلكم)، ودكتور أندرو بالفور، وسير جيمس كيري. وكانت من أبرز إنجازات كلية غردون في غضون خمسةَ عشرَ عاماً وهي تحت الإدارة الحكيمة لسير جيمس كيري هي: 1. خلق طبقة مهنية من السودانيين أنفسهم، لهم قدرة على أخذ نصيب في إدارة بلادهم. 2. وضع القواعد لنظام واسع الانتشار للتعليم الحرفي والفني 3. أثبتت الأيام صلاحية المشروع الأصلي للتنظيم، الذي ذُكر في تقرير المدير عام 1900م.
لم تؤثر الحرب (العالمية الأولى) إلا قليلا في بعض نشاطات الكلية. وكان عدد طلابها في عام 1918م 6,087 طالبا. لقد كانت إدارة المدارس الأولية أشد عسرا من إدارة غيرها من المدارس، إذ أن تلاميذها خليط مكون من صبية صغار وشيوخ، وقليل من الطلاب الحربيين. وكان كل واحد من هؤلاء يحتاج لرعاية من نوع مختلف. وكان التلاميذ السودانيون في تلك المدارس يبدون في حالة صحية أفضل من نظرائهم المصريين، وكانوا يتميزون عنهم أيضا بالنَّبَاهَة والسرعة في الإجابة عن الأسئلة التي تقدم إليهم. وكانوا دوما يفوقون المصريين في التمارين الرياضية، إذ كانوا دوما أكثر يقظة وحرصا على اتباع تعليمات المدرب. وكان عندهم حماس طاغٍ لا يخفى وهم يبدؤون في تدريباتهم الرياضية، ولهم في تمارين القوة مهارة متميزة تثير الاعجاب (مثل المبارزة بهراوة single stick، واللعب بعِصِيّ غليظة مُتَأَرْجِحة Club Swinging). وكانت ساعات العمل التي يقضيها الطالب في المدرسة طوال العام تمثل نحو 33% من الأسبوع. وكانت تدرس كل مقررات المرحلة في أربع سنوات. وأهتم واضعو المقررات باللغتين العربية والانجليزية على نحو خاص، وبمواد الحساب والهندسة والجغرافيا ورسم الخرائط. وكان القرآن يُدرس أسبوعيا لأولاد المسلمين لمدة ثلاث ساعات في السنة الأولى، وساعتين في السنة الثانية، وساعة واحدة في السنة الثالثة. وكان أبناء الأقباط المسيحيين يتلقون حصصا في الديانة المسيحية. وكان الطلاب يعطون إجازات لفترات معقولة. أما الاختبارات والامتحانات فقد كانت تؤخذ دوما على محل الجد، وتُعقد في خلال أيام العام الدراسي. ويجلس الطلاب لامتحانات في اللغتين العربية والانجليزية والحساب والترجمة وقياسات الأرض (مبادئ المساحة) والخط. وكانت نتائج طلاب المدارس الثانوية ومدرسة تدريب القضاة الشرعيين؟ (Sheikhs’ Training College) ومدرسة الهندسة طيبة جدا على وجه العموم، وكان التنظيم العام في كل أقسامها ممتازا. وكانت المؤسسات التعليمية الرئيسة مقامة في الخرطوم، غير أنه كانت هنالك بعض المدارس الممتازة في أم درمان وبربر وحلفا وسواكن وواد مدني، وهي تتبع قواعد نفس النهج الذي خُط لكلية غردون. والحقت بالكلية ورش للتدريب المهني، وهي تشكل جزءًا مهما من العملية التعليمية بالكلية، وتخرج للبلاد عددا كبيرا من الفنيين. ولهذا القسم أربع شُعَب هي شُعَب النجارة والميكانيكا والحدادة والطلاء / النقش على المباني. ويتلقى بعض الطلاب تدريباتهم على صناعة الخزف وأعمال البناء وتقطيع الحجارة والنقش عليها بالمدرسة الفنية بأم درمان. وتعتمد الورش الملحقة بكلية غردون في تسيير أعمالها على تبرعات كريمة من محسن بريطاني هو سير وليام ماثر، النائب السابق في مجلس العموم عن دائرة سالفورد قورتون وأقسام روزينديل بمانشستر. ولم يكن ذلك هو التبرع الوحيد الذي قدمه الرجل للسودان، فقد ظل يقدم تبرعات لمختلف المؤسسات بالبلاد. وفقد السودان بموت سير وليام ماثر (في 18/9/1920م) رجلا محسنا مِجْوادا. وكانت المؤسسات التعليمية بالبلاد مفتوحة لكل الطلاب الراغبين في التعليم دون أي اعتبار للجنسية أو الديانة. وكان كل طالب يتلقى تعليما دينيا بحسب ديانة والديه. وإن اعترض الوالدان على ذلك يٌعفى الطالب من حضور الحصص الدينية. أما مصاريف الدراسة فهي أكثر من أسمية، ويُعفى من دفع المصاريف طلاب المدارس المهنية والفنية. كان العقاب البدني بالمدارس يمارس ولكن بصورة نادرة جدا. وعند الضرورة يقوم بتنفيذ العقوبات البدنية الناظر (شخصيا) أو من ينوب عنه. وكانت العقوبات على المخالفات البسيطة تتضمن زيادة الواجبات، والحبس في المدرسة لساعات إضافية، أو إلزام التلميذ بعمل تمرينات رياضية إضافية. أُلحقت بالكلية معامل ويلكم لأبحاث المناطق المدارية (توسعت في وصف تلك المعامل في جزء آخر من هذا الكتاب). وتقوم هذه المعامل الحسنة التجهيز والاعداد بإجراء أبحاث في مختلف أمراض الإنسان والحيوان، والمواد الغذائية والبستانية، وتحليل المياه والمعادن والتربة وأنواع الوقود ومواد التشحيم وغيرها. ولمثل تلك الأبحاث قيمة علمية عظيمة، إلى جانب فائدتها العملية، خاصة في جانب الأبحاث الكيميائية والميكروبية في مختلف أنواع المواد الغذائية المحلية. وبالإضافة للأبحاث، تقوم معامل ويلكم بفحص السموم والاستعراف عليها لمساعدة الشرطة في الكشف عن الجرائم والمجرمين. وتحظى أعمال هذه المعامل بكثير من التقدير في كل أرجاء العالم، خاصة في الجانب الأهم في أبحاثها المتعلقة بأمراض وصحة الإنسان والحيوان بالمناطق المدارية. ولمعامل ويليكم مختبر عائم مزود بآخر ما توصل إليه العلم الحديث من معدات وأدوات لإجراء البحوث في أمراض المناطق المدارية. ويقيم العاملون بذلك المختبر في سكن محمي من البعوض. (للمزيد عن هذه المعامل يمكن النظر في مقال هيذر بيل المترجم بعنوان عرض لكتاب: "تاريخ الطب في السودان الإنجليزي المصري، 1899 – 1940م.tiny.cc/e68yiz .المترجم). وكان المعمل يُجر بباخرة أسموها كيوليكس Culex (يمكن رؤية صورة لهذه الباخرة هنا https://bit.ly/2TOVXdp المترجم)، مما أتاح للباحثين الوصول إلى مناطق مميتة عبر ممرات النيل المائية لجمع عينات مَرَضِيَّة، وفحصها في ذات المكان دون تأخير، مما يجعل النتائج أكثر موثوقية. لا يمكن إنكار دور سير جيمس كيري الإيجابي في النظرة الاستشرافية الباكرة للقيمة العملية لمعمل ويلكم في تطوير تنمية السودان الاقتصادية، وحماسته في تشجيع وتسهيل عمل العلماء والباحثين فيه. ومن أجل الحصول على تمويل لإقامة مدارس في الأقاليم قامت حكومة السودان بفرض ضريبة أو رسم على التعليم تم تقديره بناءً على نظام العشور التركي (وهي ضريبة حكومية) تضاف لرسم التعليم بنسب متفاوتة. وكانت تلك الرسوم تُجبى نقدا أو عينا، أما الآن فإنها تجمع نقدا فقط (بعد معرفة سعر أردب الذرة في السنة المعينة (الأردب بحسب تعليق الكاتب في الهامش يساوي 300 إلى 560 رطلا. وقد تسبب ذلك التفاوت الكبير في الوزن في مشاكل عديدة بسبب خداع التجار الماكرين لـ "الجهلاء من الأهالي". وتمنى الكاتب لو استخدمت الدولة النظام المتري المستعمل في مصر كوحدة معيارية للوزن. المترجم). ويُسمح لمن يدفع "رسم التعليم" بإرسال أبنائه للمدارس الأولية (الصغرى) مجانا. ولم يستفد من تلك المجانية عدد كبير من آباء التلاميذ إما لعدم اقتناعهم بأهمية ومزايا التعليم الرسمي أصلا، أو لبعد بيوتهم عن المدارس. غير أن مواقف واتجاهات السودانيين تجاه التعليم العام قد تحسنت كثيرا، بدليل ازدياد أعداد الأطفال الذين يذهبون للمدارس في كل عام، وامتلاء المدارس الكبيرة بالتلاميذ. وليس من الملائم أو الممكن ماليا في الوقت الراهن جعل التعليم العام إلزاميا. فما يحدث الآن في الدول الأوروبية لا يمكن أن يحدث في السودان في ظل ظروفه الحالية. إن الزامية التعليم تجعل من المستحيل على الوالدين الأوربيين أن يقدما مصالحهما الأنانية الخاصة على مصلحة أطفالهم. وتمنع الزامية التعليم الأطفال من العمل بصورة دائمة في المصانع قبل أن يبلغوا سن الرشد. ولكن ليس هنالك عمليا حتى الآن مصانع في السودان، ولا يتداخل عمل الأطفال بالسودان – إن وُجد – مع نيل قدر معين من التعليم، إن رأى الآباء أنه من المصلحة لأطفالهم تلقي التعليم بصورة يومية. وهنالك دليل قوي على أن أفضل عناصر السودانيين قد بدأوا يدركون أهمية التعليم، وتزداد باستمرار الطلبات على الحكومة لفتح مدارس جديدة. وفي ظل هذه الظروف الجديدة المشجعة ـ يبدو أنه ليس هناك من داعٍ لفرض إلزامية التعليم في البلاد*. لقد رأيت بنفسي في كل المدن السودانية التي زرتها مظاهر الفرح والمتعة عند الأولاد السودانيين وهم يقبلون على المدارس ويؤدون فيها واجباتهم المدرسية. وليس عندي من شك في أن رفاهية أولئك الصغار الثقافية والأخلاقية كانت محط اهتمام ودراسة المسؤولين عن التربية والتعليم بالبلاد. ولم يغفل هؤلاء المسؤولون أمر الثقافة البدنية، فهي عظيمة الأهمية للصحة العقلية والأخلاقية لهؤلاء التلاميذ. لقد وجد (الخبراء) أن غرس مفاهيم العيش الصحي في أذهان الناس باكرا يساهم بقدر عظيم في حل الكثير من المشاكل الإدارية والاقتصادية الصعبة. وللمدارس بأنواعها المختلفة بلا شك دور عظيم في تحسين الأوضاع النفسية والعقلية للجيل الناشئ. وهذا ما أدركته السلطات التعليمية السودانية وعملت على تنفيذه بطريقة منهجية محكمة. لقد عمل السير جيمس كيري (أول مدير لمصلحة المعارف بالسودان) لفترة تجاوزت خمسة عشر عاما، جَهَدَ في غضونها لخلق نظام فعال في كلية غردون التذكارية، وتنفيذ أهدافها. ولا بد أنه أحس بعد أن قدم استقالته في أبريل من عام 1914م بأن ما بذله من جهود لم تذهب سدى. لقد كانت للرجل روح طامحة وعبقرية في التنظيم تجلت في نجاحه في جعل أقسام المعارف المختلفة تعمل في كفاءة وانسجام. وكما ذكرنا شملت تلك الأقسام –مدارس أولية من أرفع طراز، ومدارس لتخريج الفنيين والعرفاء والقضاة الشرعيين الخ. وأوْرَثَ كيري كل ذلك النجاح لمن أتى بعده، ومطلوب من خليفته الآن أن يحافظ على كل ما أنجزه كيري ويزيد عليه، وأن يسير على نفس نهجه وسياساته التي أثبتت نجاحها عمليا. ولا شك عندي أن عمل السير كيري في مجال تعليم الأهالي بالسودان سيعد مثالا تاريخيا يحتذى، وانجازا شديد الأهمية في تطور البلاد مستقبلا. خلف السير جيمس كيري في إدارة مصلحة المعارف مساعده لسنوات، السيد جون وينتر كروفورت. (كروفورت، 1873 – 1959م، هو خبير تربوي وعالم آثار عمل في مصلحة المعارف بمصر، ثم بالسودان بين عامي 1914 – 1926م. وكان من المعضدين لبابكر بدري في فتح مدرسة للبنات برفاعة، وتبرع له بعشرة جنيهات لذلك الغرض، بحسب ما جاء في موسوعة الويكيبيديا. المترجم). * ذُكرت إلزامية التعليم في دستور السودان الانتقالي لعام 2005م، إذ نص على الآتي: 13ـ (1) (أ) ترقي الدولة التعليم على كافة مستوياته في جميع أنحـاء السودان، وتكفل مجانية التعليم وإلزاميته في مرحلة الأساس وبرامج محو الأمية. وجاء في الوثيقة الدستورية -المادة 39 الحق في التعليم: (2) التعليم في المستوى الأساسي إلزامي وعلى الدولة توفيره مجانا مع التعليم العام. المترجم.