من تاريخ القضاء والمحاكم بالسودان في العقدين الأولين للحكم الثنائي .. بيرسي اف. مارتن .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لما جاء في الفصل الثامن من كتاب (السودان في طريق التطور Sudan in Evolution)، الصادر بلندن في عام 1921م عن دار نشر كونستابل وشركاه Constable & Company، لمؤلفه البريطاني بيرسي اف. مارتن (1861-1941) Percy F. Martin.
ويتناول هذا الفصل تاريخ مصلحة العدل، وإدارة القضاء المدني والشرعي بالسودان في العقدين الأولين لعهد الاستعمار الإنجليزي – المصري.
من ضمن الأعمال الأكاديمية الكثيرة المنشورة عن النظام القضائي والقوانين بالسودان هنالك ورقة لمحمد إبراهيم خليل في العدد العشرين من مجلة The International and Comparative Law Quarterly الصادرة في عام 1971م. وهنالك عرض عام لتاريخ السلطة القضائية بالسودان في موسوعة الويكيبيديا (https://cutt.ly/ErRIOBO)
المترجم
************* *********
مرت سنوات عديدة بعد "إعادة فتح" السودان قبل أن تتمكن الحكومة من إدخال نظام قضائي مناسب لاحتياجات البلاد. وحدث تقدم تدريجي في هذا المجال، وترك أمر التفاصيل في يدي السيد (الآن سير) بونام كارتر، الذي شغل بامتياز كبير منصب السكرتير القضائي منذ عام 1899م إلى أن خلفه السيد دبليو. استيري، الذي كان يشغل منصب رئيس المحكمة العليا (Chief Justice). وكان أكبر عيب في النظام القضائي (القائم في السنوات الأولى للحكم الثنائي) هو قلة عدد القضاة. ورغم أن عدد القضاة بالبلاد تزايد مع مرور السنوات، إلا أن الزيادة المتسارعة والكبير في الدعاوى المرفوعة حتمت ضرورة تقوية الجهاز القضائي أكثر فأكثر. ولم يكن بالبلاد في عام 1906م سوى ست قضاة بريطانيين. أما الآن (عام 1920م) فهنالك خمس قضاة في المحكمة العليا وأحد عشر قاضيا جزئيا.
وتتكون منصة المحكمة المدنية من قاضٍ يرأس المحكمة، وتسند اليه مهمة تقديم الاستشارات القانونية ومراجعة الأحكام، وقلما يجلس في محكمة مفتوحة.
وحتى عام 1916م لم تكن بالسودان محكمة استئناف بها أكثر من قاضٍ. وثبت أن النظام القديم الذي كان الاستئناف فيه يتم من قاضٍ واحد إلى قاضٍ آخر لم يكن نظاما مرضيا البتة. ورغم أن (الفيلسوف والشاعر والطبيب والكاتب المسرحي الألماني) فريديريك شيلر كان قد قال بأن: " صوت الأغلبية ليس دليلاً على العدالة"، إلا أن المحاكم البريطانية درجت على أن تسمح، بل تشجع، أن يقوم عدد من القضاة بالفصل في قضايا الاستئناف، ولا تترك الفصل فيها لقاضٍ واحد فقط. ولتبيان أهمية وجود محكمة استئناف كفؤة وفعالة بالسودان، نذكر أنه كانت تقدم سنويا لمحكمة الاستئناف أكثر من مئة عريضة استئناف.
وفي الثلاثين من مارس عام 1915م صدر بالسودان أَمْرٌ (مرسوم) صادِرٌ عنِ السُّلْطَةِ التَّنْفِيذِيَّة أنشئت بموجبه محكمة عدل عليا تتألف من (أ) محكمة استئناف و(ب) محاكم لها سلطة قضائية أصلية. وكان ذلك المرسوم يسري على جميع أرجاء البلاد إلا إذا رأى الحاكم العام ضرورة تعديله في بعض المناطق. وتم بموجب ذلك المرسوم الجديد إلغاء مرسوم القضاة المدنيين الصادر عام 1901م، وبعض أجزاء مرسوم عام 1900م.
وتألفت المحكمة المؤلفة حديثا من رئيس المحكمة العليا وقضاة يعينهم من وقت لآخر الحاكم العام. وكان يشترط أن يكون نصف عدد هؤلاء القضاة، على الأقل، ممن سبق لهم العمل بالمحاكم العليا بإنجلترا أو إيرلندا (Barristers)، أو من الذين عملوا بسلك القضاء أو المحاماة في أسكتلندة لما لا يقل عن خمس سنوات متصلة. ونص المرسوم على أن يتولى نائب رئيس المحكمة العليا رئاستها في حالة غياب أو مرض رئيس المحكمة العليا، ويكون له نفس سلطاته وصلاحياته.
وكانت محكمة الاستئناف تتكون في العادة مما لا يقل عن ثلاثة قضاة، يجلسون في منصة واحدة معا، غير أنه حدثت بعض الحالات التي كانت فيها تلك المحكمة تتألف من أقل من ثلاثة قضاة. وكان هنالك اعتبار (عند إصدار الأحكام) لاختلافات آراء القضاة حول تفسير بعض مواد القانون، أو في قبول (أو رفض) البينات والأدلة.
وفي حالة إخفاق محكمة الاستئناف في الوصول لحكم ما (بالاتفاق بين جميع القضاة)، يتم حل الأمر بواحد من هذه الطرق الثلاثة:
1/ إذا اتفق أغلبية القضاة على حكم ما، يصبح ذلك الحكم هو الساري.
2/ إن أنقسم القضاة في حكمهم في قضية ما، قدمت لمحمة الاستئناف لإصدار حكم نهائي، إلى قسمين متساويين، يجب رفض الاستئناف. ولكن يمكن في بعض الحالات إحالة القضية إلى واحد أو أكثر من قضاة المحكمة العليا، ويكون الحكم النهائي هو ما يتفق عليه غالبية أولئك القضاة الذين أحيلت إليهم أوراق القضية.
3/ إن اختلف القضاة في حكم ما على قضية بنسبة 50% لكل فريق، وكان الحكم ابتدائيا / مؤقتا (interlocutory)، أو ليس مقدما للبت في استئناف نهائي، يؤخذ برأي أكبر أعضاء المحكمة سناً.

وقد يعجب المرء من حجم ما ينجز من عمل في العام بالنظر إلى صغر عدد العاملين في المؤسسة القضائية بالبلاد. هذا خلافا للعدد الضخم من القضايا التي تفصل فيها في المحاكم المحمدية (أي الشرعية. المترجم)، التي لا يعمل فيها سوى القاضي الأكبر (قاضي القضاة) ومعه نائبه وعدد من المفتشين والكتبة وصغار العاملين الآخرين. وكان لكل مديريه قاضيها الشرعي، وقضاتها الجزئيين. ومع كل هؤلاء كان هنالك مفتي واحد بالبلاد.
وكانت محاكم القانون المحمدي تفصل في كل ما يشجر بين المحمديين من أمور (الأحوال الشخصية) المتعلقة بالزواج والطلاق وحضانة الأطفال والعلاقات العائلية والمواريث والأوقاف الخيرية. ولا شك أن تلك المحاكم كانت تفيض بالقضايا الشديدة التنوع، خاصة إذا علمنا أن الرجل المحمدي يحق له الاقتران بأربع زوجات، ويمكنه أن يطلقهن جميعا دفعةً واحدة إن أراد.
وكانت المحاكم المحمدية العادية بالسودان تشكل جزءًا من النظام القضائي لحكومة السودان الإنجليزي – المصري، وهي مستقلة قضائيا عن الجهاز التنفيذي. غير أن الأحكام التي تصدرها تلك المحاكمة كانت قابلة للمراجعة من المحاكم المحمدية الأعلى، ويمكن أن تراجع لجنة تفتيش كل أعمالها. ويتبع القضاة وكل الموظفين في تلك المحاكم إداريا للسكرتير القضائي، الذي له أن يقرر في كل المسائل المتعلقة بالنظام والإدارة العامة فيها. ويتم اختيار السودانيين للعمل في المحاكم المحمدية من بين خريجي كلية غردون بالخرطوم، ويوزعون على مختلف المحاكم بالبلاد بعد أن يتلقوا على يدَيَّ محاضر متخرج من كلية الحقوق بالقاهرة تدريبا قانونيا ودينيا جيدا، خاصة في مواد الفقه وعلم التشريع. وعلى وجه العموم، أظهر أولئك القضاة الجدد كفاءةً وحماسا في العمل تحت إشراف لصيق من مصلحة العدل وقاضي القضاة. وثبت أن تعيينهم كان خطوة متقدمة في مسيرة التخلص من المسؤولين الجهلاء (الفاسدين أحيانا) وإحلال هؤلاء القضاة الجدد مكانهم. ويمكن القول بكل ثقة إنه في سنوات هذا العهد تم تدريب عدد من القضاة الممتازين، أثبتوا كفاءة واقتدارا عظيمين. ونال قاضي القضاة الراحل، على سبيل المثال، ثقة واحترام كل السودانيين لتميزه في أداء واجباته (لم يذكر الكاتب اسم ذلك الشيخ، وقد يكون محمد شاكر أحمد (الذي عمل في منصبه بين 1900 – 1904م)، أو محمد هارون (1904 – 1908م). المترجم). ولا يمكن البَتَّةَ استئناف الأحكام التي تصدرها المحكمة المحمدية العليا.
والسودانيون بطبعهم – خاصة العرب منهم – مغرمون بالتقاضي. وتشهد الأعداد الكبيرة من الدعاوى المرفوعة سنويا أمام المحاكم العليا، والمحاكم الأقل منها درجة، ومجالس الصلح على الطبيعة المشاكسة لهؤلاء الناس، وشغفهم بالتَنازُع والخصام.
وكانت قوانين الإفلاس المجحفة هي أحد العوامل التي أفضت لعدم الاستقرار التجاري بالسودان. فقد كانت قد بُنيت على أساس واهٍ شديد التساهل، بصورة أتاحت للتجار الذين تعوزهم الأمانة، فرصا عديدة للتحايل وعدم الالتزام بدفع ما عليهم من ديون متراكمة في كثير من الأحوال. وفي بلدٍ كالسودان، تم تحريره منذ وقت قصير وظلت فيه التجارة لسنوات طويلة بيد حكومة فاسدة، غدا من الضروري للإدارة الجديدة بالسودان أن تشجع التجارة بسن قوانين تجارية معتدلة ومُلَطّفة أو حتى شديدة الكرم، وأن تتبنى سياسية تقوم تشجيع التجارة الداخلية والخارجية.
ولحسن الحظ لم تعد الأحوال التي كانت سائدة بالبلاد قبل عشرين عاما موجودة الآن. فقد انتبهت الحكومة لضرورة مراجعة قوانين الإفلاس وإعادة تنظيمها، للتحكم في عمليات ممارسة التجارة بالبلاد، إذ أن تلك القوانين ترسي القواعد للاستقرار والثبات المالي، ولحسن سيرة واسم الممارسين للتجارة من الأهالي.
وكانت الأحول (التجارية) في العهود التي سبقت الحكم الحالي سيئة لدرجة أن التاجر الذي يخفق في دفع ما عليه (من استحقاقات)، يمكنه في اليوم التالي أن يعاود نشاطه التجاري دون مساءلة. وكانت دوائر الأعمال التجارية بالسودان لا ترى بأسا ولا عيبا مخلا بالشرف والأمانة في أن يعجز التاجر على الإيفاء بجميع ديونه. وكان هنالك عدد من التجار الذين عرفوا بالغلو في الاقتراض وعدم رد ديونهم، أو دفع أقساط زهيدة لفترات متطاولة، بينما تجدهم يزهون بين الناس في أبهى الحلل، ويدخلون في صفقات تجارية جديدة (بأموال مستدانة) دون أن يرف لهم جفن أو يخطر على بالهم تردد أو خشية من العواقب.
غير أن اللوم هنا لا يمكن أن يلقى على القانون (التجاري) وحده، فالمشكلة الكبرى تكمن في سلوك من يقرضون أمثال أولئك التجار، وفي قبولهم – بتساهل مفرط - للتعامل مع تجار مفلسين رغم علمهم بوضعهم المالي. ولا يخفى أن مثل ذلك السلوك المتساهل يقوض أسس القواعد المالية. وإن استمر الحال على ذلك المنوال، فهذا يعني أن تقاطع الشركات الأجنبية تجار الخرطوم دون استثناء، وأن توقف تعاملاتها في هذا البلد.
وليس من العسير ربط آثار المضاربات الكارثية في الأراضي التي حدثت في عامي 1907 و1908م بتلك الأوضاع المالية الرديئة التي سادت بالأسواق. إضافة لذلك كانت هنالك عوامل مساعدة على تعقيد الأوضاع في الأسواق منها أن حصاد المحاصيل لسنوات عديدة متتالية كان ضعيفا، ومستوى النيل متدنيا. غير أن السبب الأهم في الركود الاقتصادي في تلك السنوات كان هو التداولات التجارية المستهترة المتهورة التي قامت بها بعض الشركات التجارية المحلية، ولجوء أصحابها للحماية عبر محاكم الإفلاس عند ظهور أي بادرة تهديد لصفقاتهم التجارية. ولم يكن من الغريب أن الفاسدين من المديونين كانوا هم من قدموا بأنفسهم طلبات إعلان إفلاسهم، بينما لم يتعلم المقرضون شيئا عن أوضاع مدينيهم المالية السيئة، أو عن استسلامهم الوشيك. وغدا ذلك الضرب من "الفجور التجاري" شائعا بأكثر مما يطاق، وهذا ما دفع بالحكومة – في نهاية المطاف - لتعديل قوانين الإفلاس في عام 1917م.
وكان قانون الإفلاس المعدل يشابه في كثير من بنوده قواعد قانون الافلاس المعمول به في مصر، وهي مأخوذة بدورها من القواعد القانونية النابليونية. ويتبع القانون السوداني في قواعده الأساس الممارسات القانونية الإنجليزية، ولكن بصورة أكثر بساطةً. ويُعتمد على تلك القوانين في تقوية يد المحكمة، وتحسين التعامل مع قضايا الإفلاس.
وكانت أكثر محاكم العدالة ازدحاما بالقضايا في السودان هي محكمة الشرطة police magistrate.
لقد كانت جرائم القتل هي أكثر الجرائم شيوعا في السودان لسنوات طويلة. وكان ذلك هو الحال في مصر أيضا، التي لاحظ الناس فيها تزايد حالات القتل عبر عدد من السنين. ووضح من الكثير من حوادث الاعتداءات التي حدثت في غضون اضطرابات العام الماضي (1919م) أنه لم يتم بعد القضاء على ذلك العنصر الوحشي في مصر (المقصود بـ "اضطرابات عام 1919م" الثورة الشعبية التي قادها حزب الوفد – مع آخرين - ضد سياسيات الاحتلال البريطاني لمصر. المترجم)
ويبدو أنه على الرغم من تحسين وسائل الكشف والتحري وعقاب المجرمين، إلا أنه كان من المستحيل كبح معدلات جرائم القتل، التي تقع - في السودان بخاصة – بسبب الغيرة أو دوافع الانتقام. ورغم أن لعقوبة الإعدام بعض التأثير الرادع (على المجرمين)، إلا أن السودانيين والمصريين – كغيرهم من الشرقيين – لا يبدون خوفا كبيرا من الموت، ولا تنطوي عقوبة السجن عندهم على أي وصمة عار كما هو في الدول الأوروبية. غير أن غالب السودانيين من القبائل الأفضل (هكذا؟!. المترجم) فضلاء بطبعهم، ويمتازون بالطيبة والأخلاق الحميدة، لذا يعد العدد المرتفع – نسبيا – لمجموع حوادث القتل بالسودان أمرا مروعا، خاصة في مناطق قَاصِيَة ولا تُزار إلا فيما ندر، مثل منقلا وبحر الغزال وجبال النوبة، ومناطق واسعة أخرى في أرض السودان ليس للإدارة (الحكومية) فيها وجود يذكر.


alibadreldin@hotmail.com

 

آراء