الإدارة الإنجليزية – المصرية للسودان (2/2)

 


 

 

 

الإدارة الإنجليزية – المصرية للسودان (2/2)
The Anglo- Egyptian Administration
Percy Martin بيرسي مارتن
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لما جاء في الفصل الخامس من كتاب (السودان في طريق التطور Sudan in Evolution)، الذي صدر بلندن في عام 1921م عن دار نشر كونستابل وشركاه Constable & Company لمؤلفه البريطاني بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin (1861 – 1941م). ويتناول هذا الفصل تاريخ الفصل تاريخ إرساء قواعد الإدارة بالبلاد في العشرين عاما الأولى من حكم الاستعمار الإنجليزي – المصري.
للمزيد عن تاريخ الإدارة الإنجليزية – المصرية للسودان يمكن الاطلاع عدد من المقالات المحكمة (والأكثر حيادا) منها مثلا مقال مترجم بعنوان: "إدارة السودان السياسية بين عامي 1899 و1955م" https://bit.ly/3bhZhnV ، وعرض مترجم لكتاب "السودان تحت حكم الاستعمار الإنجليزي – المصري ..." https://bit.ly/2OwOU5Q.
المترجم
***** ****** *****
كان طِمَاح كل موظف بريطاني مسؤول، كما هو متوقع، أن يغدو مديرا لمديرية ذات يوم. وبالفعل كان هذا ما كان يهيئ له المفتشون أنفسهم. ولم تعد تلك الوظائف المميزة حصرا على العسكريين فحسب، كما كان في سنوات تثبيت الحكم الثنائي الباكرة، حين كانت للسيف الكلمة الأولى في حكم البلاد، بحكم الضرورة. ويسود الآن اتجاه قوي لسياسة جديدة تقضي بأن تسند إدارة المديريات لمديرين مدينيين، متى ما كان ذلك آمنا وراشدا. لذا فقد كان المفتشين المدنيين، عند وصولهم لدرجة كافية من الأقدمية، يعينون في وظائف مديري مديريات، ويمنحون مرتبات مناسبة.
وفي بداية العهد الحالي كان البريطانيون الذين يعملون ضباطا في الجيش المصري يعينون للعمل في السودان كمديري مديريات وكبار مفتشين (باشمفتشين) ومفتشين. وستستمر مثل تلك التعيينات من ذلك المصدر إلى حين.
ولا شك أن وظيفة مدير مديرية وظيفة مهمة تتضمن العديد من المسؤوليات الجسام، وسلطات لا حد لها. فمدير المديرية يقوم مقام الحاكم العام في مديريته، وليس مسؤولا أمام أحد سواه. وإلى الآن لم يتم اختيار إلا رجال ذوي خبرة واسعة وتجارب كبيرة في الإدارة. ويجب، من باب الانصاف، أن نذكر أن هؤلاء الرجال لم يقعوا في غضون سنوات حكمهم إلا في أخطاء يسيرة وقليلة.
ويقوم مدير كل مديرية بعمليات المراقبة والاشراف والتحكم في مالية مديريته، بما يتوافق مع نظم المالية للحكومة المركزية. ولدى كل مدير السلطة الكاملة على كل ما للحكومة في مديريته، ويشمل ذلك الممتلكات العامة من دواب وأسلحة وأجهزة ومخازن، وكل ما يجب تجهيزه وتقديمه فور طلبه بصورة جيدة لخدمة الأغراض العسكرية. وينبغي على مدير كل مديرية أن يلتزم، مثله مثل أي مواطن أو أجنبي مقيم بالبلاد، بالقوانين واللوائح والنظم التي تصدرها الحكومة. وعليه أيضا أن يقيم العدل، وأن يُري الناس العدل وهو يقام. ويجب عليه أيضا أن يوقع على أي مكاتبات رسمية من مديريته موجهة لأي جهة حكومية في العاصمة. ورغم أن مدير المديرية يجد العون من عدد كبير من المساعدين والمعاونين، إلا أن عبء العمل عليه يظل ضخما، خاصة في موسم جمع الضرائب المحلية، حين تكثر الدعاوى من المحتجين على ما قُدر عليهم من ضرائب، والمطالبين بإعادة النظر فيها. والمدير مطالب أيضا بالطواف على كل أرجاء مديريته، وقد يستغرق ذلك الطواف ليلا ونهارا عبر الصحارى، أسبوعا أو أسبوعين كاملين. هذا بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الواجبات الصغيرة. ولا تترك له كل المهام إلا ساعات قليلة ليستريح فيها. وقد يضطر في بعض الحالات لحمل السلاح ضد أفراد القبائل التي تتمرد، مثل ما حدث للرائد سي. أتش. استيقاند (1877 – 1919م)، مدير مديرية منقلا في ديسمبر من عام 1919م، حين قدم روحه في خدمة الحكومة.
ويلي مدير المديرية في الترتيب الإداري الباشمفتش، ويعمل كنائب له عند غيابه. لذا ينبغي أن يكون الباشمفتش قد تدرب عمليا من قبل بصورة ممتازة على أداء مهام المدير. وعادة ما يُختار مدير المديرية من بين مجموعة من أفضل الباشمفتشين.
ويُتوقع من الباشمفتش أن يكون دوما في مقر عمله (عاصمة المديرية)، وأن يشرف شخصيا على ضمان سير العمل الإداري في المديرية بصورة سلسلة، عند غياب المدير، وأن يكون "ذراعه الأيمن" عند وجوده. ويعمل الباشمفتش أيضا كقاضٍ، يفصل في كل القضايا الجنائية والمدنية التي تعرض عليه. وكثيرا ما يكلف بالأشراف الكامل (أي حكم) منطقة من المديرية قد تفوق مساحتها مساحة إنجلترا وويلز مجتمعة. وفي هذه الحالة فهو "المدير"، ولكن من غير ذلك اللقب. ويعمل في مديريات معينة مفتشين من رتب مختلفة (مثل مفتش أول وباشمفتش)، ويقوم مدير المديرية بتوزيع اختصاصات ومهام كل واحد منهم. على سبيل المثال فقد كان بمديرية كردفان (ومساحتها 100,000 ميلا مربعا) تسعة مفتشين ومساعد مفتش. بينما كان في مديرية منقلا (ومساحتها 90,000 ميلا مربعا) نفس عدد المفتشين في كردفان، وكان بمديرية أعالي النيل (ومساحتها 42,350 ميلا) ثمانية مفتشين.
وكانت وظيفة المفتشين (من الدرجة الثانية والثالثة) تتضمن مسؤوليات أقل، ولكن لا يعني هذا البتة أنها أقل أهمية. فمهام صغار المفتشين جد مرهقة وفي غاية الجدية وتتطلب بذل الكثير من الاهتمام الشديد والانتباه الدقيق، والعمل المتواصل بإخلاص. ويتم اختيار هؤلاء الرجال بعناية فائقة للعمل كمفتشين في المناطق المختلفة. وهم مسؤولون أمام محافظ المديرية عن أداء مهامهم بطريقة جيدة. ويرأس المفتشون من هؤلاء مساعدين لهم يسمون "المآمير"، وهم عادة من صغار القضاة المحليين (native magistrate). ومن مهام المفتشين الأشراف على هؤلاء المآمير، ومتابعة أدائهم، خاصة وأنهم يشرفون على أعمال الشرطة بمنطقتهم.
وغالبا ما يكون المأمور من الجنسية المصرية، مع ضابط سوداني مجيد يعمل قاضيا يحكم في القضايا الصغيرة، ومهمتهما الرئيسة هي تنفيذ ما يأمر به المفتش (من الدرجة الثانية والثالثة)، وتنفيذ أحكام القاضي الشرعي (في قضايا الأحوال الشخصية).
وبالإضافة لأولئك المسؤولين (الدائمين) في كل مديرية وكل منطقة، هنالك أيضا ضباط سجون وأمناء مخازن من المصريين أو الأهالي.
ويبدو أن كل أجهزة الإدارة كانت تعمل بدقة وانْتِظام وسلاسة، ونظام داخلي متكامل يتم الالتزام به والحفاظ عليه في كل مصلحة أو قسم. ويعطي خلو الإدارة من الاحتكاكات أو الفوضى انطباعا إيجابيا، خاصة عند المقارنة مع مظاهر الفوضى التي يراها المرء في بعض مكاتب الحكومة في بلدان الشرق.
وهنالك محاكم منفصلة للقضاء الشرعي في كل المديريات وغالب المناطق، يترأسها قاضي شرعي مختص بقوانين الأحوال الشخصية. وكانت القضايا التي تعرض على القاضي الشرعي شديدة التنوع، وتبقيه مشغولا طوال اليوم. والقضاء الشرعي مستقل عن الجهاز التنفيذي ولكنه يتبع للسكرتير القضائي لحكومة السودان. غير أن الجهاز القضائي والجهاز التنفيذي يعملان بتنسيق تام ولا تنشأ بينها اختلافات إلا في أحيان نادرة جدا. ويعمل الموظفون في الجهاز التنفيذي (برئاسة مآمير مسلمين في الغالب) على تنفيذ الأحكام التي تصدر من القضاة الشرعيين بدقة وحرص، تنفيذا لوعد اللورد كرومر القاطع للسودانيين بعدم التدخل بتاتا في أمورهم الدينية.
غير أن المنتقدين المعادين يقولون بأن مسلمي اليوم يختلفون عن المسلمين قبل 1300 سنة في أنهم متقدمون قليلا من ناحية الطبع والمزاج. وكدليل على زعمهم هذا، يشيرون إلى حالة الاسترقاق التي تعيشها نساءهم في مصر والسودان الآن. بل يقرون بأن فرض الحجاب على النساء لم يعد يساير الزمن (وهو بالفعل كذلك)، ويقول كثير من المحمديين أنفسهم بأنه يعارض مبادئ وقواعد الاسلام. ولا شك بأن مؤسسات مثل كلية غردون التذكارية قد ساعدت، وتساعد يوما بعد يوم، المسلمين في السير على طريق التطور والتقدم. ولا ينكر أحد أن الجيل الحالي من المسلمين يفوقون فكريا وأخلاقيا من سبقهم من أجيال سابقة، وأن البيروقراطية المصرية (تحت وصاية وإشراف البريطانيين) قد أثبتت نفسها كمساعدة قوية في إدارة البلاد - رغم أن بعض أفرادها قد أثاروا بعض الاضطرابات مؤخرا (لعل المقصود هو ثورة 1919م التي قادها حزب الوفد المصري. المترجم)
وما ينقص الموظف المسلم حتى الآن، هو يد قوية معينة تأخذ بيده وتوجهه. فهو قادر جدا على أداء عمل جيد ومفيد، ولكن هذا لا يتأتى له بِالبَدَاهَة أو بشكل حدسي، مما يستلزم استخلاص ذلك منه في المقام الأول. ويجب أيضا مواصلة تشجيعه بمواصلة ضرب المثل، وأحيانا بالتحذير والتوبيخ.
أما إذا تُرك الموظف السوداني المتوسط المستوى على هواه تماما، فليس هنالك من شك في أن مستواه سيتراجع سريعا، وسيغدو بطيئا ومتهاونا (في أداء واجباته)، وسيعيد ممارسات الموظفين الفاسدين في العهد التركي، تلك التي أزكمت أنوف السودانيين قبل نحو أقل من ربع قرن من الزمان. وكانت تلك الممارسات الفاسدة هي من أسباب تعرض الأهالي التعساء لسنوات طويلة من الشقاء والقمع. وحلت بعدها لعنة خمس عشرة سنة من حكم المهدية، لم تكن أقل بؤسا وقمعا من حكم المصريين.
كانت إحدى الصعوبات التي واجهتها إدارة السودان، وصعب عليها حلها هي انتشار عادة أهل الشرق التي يقوم فيها الأهالي بتقديم هدايا (بعضها كبير القيمة) لرؤساء الأقسام الحكومية ولصغار الموظفين أيضا.
وفي الماضي كانت هناك قاعدة مشابهة في الهند – ربما لا تزال منتشرة إلى الآن – تقول بأن الهدية الوحيدة التي يسمح للموظفين الهنود قبولها من الأهالي تأخذ شكل دُمُيات Dollies)). وتحتوي كل دمية على صوانٍ مليئة بالمؤون، يُحدد عددها بحسب رتبة الموظف الذي تقدم له الهدية. فمساعد المدير مثلا يحصل على خمسين صينية، ويقنع أصغر موظف مسؤول بعشر منها! ويبدو أن قاعدة عدم قبول الموظف لأي هدية من مواطن ليست مطبقة بما يكفي من الصرامة. والدليل على ذلك الكم الهائل من "التحف" اللافتة للأنظار التي يجنيها الموظف البريطاني في غضون سنوات عمله بالهند (والتي لم يبتاعها بحر ماله من السوق بالطبع)!
ويعمل كل هندوسي كل ما في وسعه لتقديم ما يقدر عليه لمن هم في موقع سلطة. وغدا تفادي تلك الممارسة في الهند من الصعوبة بمكان. غير أن الأمر مختلف جدا في السودان، إذ تنعدم فرص تقديم هدايا من ذلك النوع، وليس هنالك أيضا استعداد روحي لتقبلها.
لقد كان قبول الهدايا أمرا مستهجنا عند عقل الطبقة البريطانية الحاكمة، إذ أنها يمكن أن تكون "رَشَاوَى" من محكوميهم. غير أن عادة تقديم "الهدايا" كثيرة الشيوع في السودان لدرجة أن منعها نهائيا ودون أي استثناءات قد يكون أمرا مسيئا جدا لمشاعر وعقول الأهالي، وقد يؤذي نفوس من يقدمون تلك الهدايا بدافع من طيبة وحسن مقصد. وعلى كل حال لم يكن مسموحا للبريطانيين تقديم هدايا للأهالي تشتمل على أسلحة نارية إلا بموافقة مسبقة من الحاكم العام، ومن غير المحتمل أن يوافق الحاكم العام عليها. ووضعت قواعد صارمة ليهتدي بها مسؤولو الحكومة في أمر تلك "الهدايا". وكان حكام المديريات، على وجه العموم، شديدو الحرص على تنفيذ تلك القواعد (الصادرة بمرسوم رسمي) بحكمة ورَويّة.
وكان الحاكم العام كثيرا ما يجد نفسه مضطرا لأن يخرج عن القاعدة المفروضة بخصوص الهدايا، إذ أنه كان – بحكم منصبه الرسمي – ملزما بتبادل الهدايا بينه وبين شيوخ القبائل وكبراء الأهالي عند لقائه بهم في المناسبات الاحتفالية. ومن جانب آخر، كانت هدايا الحاكم العام دوما ذات قيمة معنوية أكبر من تلك التي يتلقاها من أولئك الشيوخ. وكان مديرو المديريات ومن تحتهم من كبار المسؤولين يرجعون كل ما يتلقونه من هدايا إلى الحكومة المركزية (ما عدا الهدايا عديمة القيمة المادية). ولم تكن هنالك أي استثناءات لذلك الأمر إلا بموافقة صريحة من الحاكم العام. ويمكن مقارنة ذلك السلوك بعادة الحكام المصريين الذين حكموا السودان من قبل، الذين كانوا لا يتورعون ليس فقط عن قبول الهدايا من محكوميهم، بل كانوا يطالبونهم بها ويجبرونهم عليها بقسوة مفرطة. وكان هؤلاء المصريون قد فقدوا في هذا العهد مصدرا رئيسا للثراء. ولحسن الحظ أبعد الآن معظم هؤلاء من الخدمة نهائيا. غير أن المرسوم الصادر في شأن قبول المسؤولين للهدايا، والذي التزم به البريطانيون بصرامة، كان شديد الفائدة من ناحية أخلاقية على عقول ونفوس الأهالي.
وكان كل موظف عام يدان بتهمة خرق "مرسوم الهدايا" المذكور يعاقب بغرامة كبيرة أو بالسجن لثلاثة أعوام، أو بالعقوبتين معا. غير أن عدد الذين أدينوا بتلك المخالفة كان صغيرا جدا.
ولا يزال هنالك الكثير من الذي ينبغي عمله في إصلاح "حياة القرية" في بعض مناطق السودان، خاصة فيما يتعلق بمراقبة أدق لممارسات العمد والشيوخ. فما يزال الأهالي يكنون احتراما وتقديسا خرافيا لشيوخهم وزعمائهم. وبلا أدنى ريب، سيكون من الخطورة بمكان قيام الحكومة المركزية بتبني سياسة تهدف لتقليل حرارة تلك العاطفة التالِدة، إذ أنها هي التي تبقي القرى والمجتمعات ملتحمة متماسكة، وترفع عن كاهل الحكومة نفسها عبء عمل كثير في أمور صغيرة، ومسؤولية شخصية ضخمة.
إن هدف وسياسية الحكومة هي اختيار أصلح وأكفأ عناصر الأهالي في كل منطقة، وأكثرهم جدارة بالثقة، لتولي منصب العمدة أو الشيخ. ولا بد أن يكون هؤلاء من الذين يثق فيهم الناس ويحترمونهم. ويتفاوت أفرد القبائل السودانية المختلفة تفاوتا كبيرا في الذكاء والوعي والتَنْوِير والشخصية والاعتمادية والموثوقية. فبعض القبائل أنجبت رجالا صالحين، انتفعوا من الفرص التي أتاحها لهم هذا العهد، فطوروا من أنفسهم، ونالوا بسبب كفاءتهم مناصب رسمية تحملوا فيها أعباء الوظيفة بشرف. وفي الجانب الآخر، هناك أيضا قبائل جاهلة لم يبزغ فيها فجر التمدن إلا حديثا جدا بعد قرون من الوحشية المظلمة. لذا ما من عجب أن يُدان بعض صغار الموظفين من رجال تلك القبائل بجرائم سرقة وقمع وممارسات قهر وطغيان. ولا ريب أن التقاليد القديمة عند هؤلاء الموظفين تدعم وتشجع على تلك الممارسات الفاسدة، خاصة في سنوات النظام التركي - المصري الجائر، وما تلاه من حكم المهدي وخليفته الذي أثار الرعب والإرهاب.
ولا ينال العمد والشيوخ أي رواتب من الحكومة نظير خدماتهم، غير أنها تسمح لهم بفرض رسوم / مكوس غير محددة على الأهالي في منطقتهم. وهذا مما من شأنه أن يغري الجُشَاعَى من هؤلاء بالفساد. ولا شك أن تحديد رواتب حكومية معلومة لهؤلاء العمد والشيوخ سيسهم في تقليل أو منع الاحتيال والعسف والجور. ويمكن مقابلة زيادة العبء على الميزانية الذي يجلبه صرف مرتبات للعمد والشيوخ بفرض ضرائب حكومية أو محلية أو غير ذلك.
وعندما يصرم العسكري أو المدني البريطاني بعض أفضل سنوات حياته في العمل بالسودان، يتقاعد وهو يعلم تمام العلم أن سيقضي بقية سنوات شيخوخته في حياة مريحة، إذ أنه سيتلقى معاشا سخيا. وفي هذا الجانب تختلف إدارة السودان عن الحكومة البريطانية، التي تعامل المعاشيين من جنودها أسوأ معاملة، في الوقت الذي تتبنى سياسة تنفق فيها بتبذير شديد على أصدقائها المعينين سياسيا.
وهنالك قانون ينظم ويحدد معاشات من عملوا في خدمة حكومة السودان، ولا يعتمد أمرها على حسن نوايا أو إحسان أحد من الناس في الإدارة. ولجعل ذلك المعاش كاملا بقدر الإمكان، تستقطع نسبة 5% من راتب كل موظف مستحق للمعاش كمساهمة منه في المبالغ المرصودة للمعاشات. وتسمح حكومة السودان بالتقاعد اختيارا، ولكن قلما يحدث ذلك، فكل موظف بالحكومة يؤمل أن يستمر في العمل بها لأطول فترة ممكنة ما دام ذلك ممكن قانونيا وصحيا.
أما الذين يفضلون ترك خدمة الحكومة بعد بلوغهم عامهم الخامس والأربعين، فلابد أن يكونوا قد عملوا لعشرين عاما بها على الأقل. ويحسب معاش هؤلاء من متوسط مرتباتهم التي تلقوها في خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، بمعدل 48/1 من مرتب كل سنة قضاها في الخدمة.
وإذا كان التقاعد بسبب المرض أو إلغاء الوظيفة، فيمكن للموظف الحصول على التقاعد بعد خدمة اثني عشر عاما. وكل من عمل بالوظيفة لأكثر من ذلك يمكنه الحصول على "مكافأة نهاية الخدمة" تعادل راتب شهر ونصف لكل سنة من السنين السبع الأولى للخدمة، ثم راتب ثلاثة شهور لكل سنة بعد السنة السابعة إلى الثانية عشر.
وتماشيا مع متطلبات البلاد، تسمح، بل تشجع حكومة السودان موظفيها على أخذ عطلاتهم السنوية كلما كان ذلك متيسرا. وبحسب القانون، يمكن للموظف الحصول على عطلة (بعد قضاء عام في الوظيفة) تمتد لتسعين يوما في كل عام، تحسب من أول يوم سافر فيه الموظف من القاهرة لبريطانيا أو عاد منها للسودان. ويمنح الموظف فترة أطول للعطلة من المدة المذكورة في حالات المرض. ولا يتم تجاهل ذلك الاستثناء في حالة الضرورة، أو في الحالات الإنسانية.
وبسبب سوء الأحوال المناخية في مناطق السودان النائية، تحصل الحاكم العام على امْتِياز من سلطات الجيش البريطاني تحسب بموجبه سنوات خدمة العاملين في مناطق تقع تحت خط عرض 12، والمناطق غير الصحية (الوخيمة الهواء) مضاعفةً – كما هو الحال في غرب أفريقيا ونيجيريا.
وهنالك نقطة واحدة وقفت فيها الحكومة موقفا حازما لا يعرف التردد، وهو تفضيل تعيين العُزْب على المتزوجين بسبب أن ظروف السودان المناخية وأحواله المعيشية غير ملائمة البتة للنساء البيض. و إلى الآن ليس هنالك في هذه البلاد مكان يمكن فيه للمرأة البريطانية أن تعيش في وضع مريح سوى في مدن قليلة كالخرطوم وأتبرا وبورتسودان والأبيض وود مدني. لذا فقد كان المتقدمون لشغل الوظائف الحكومية يبلغون في أول معاينة معهم بأن عليهم أن يظلوا عُزْبا وألا يفكروا في خطبة امرأة للزواج ما داموا في فترة الاختبار. وكانوا يحذرون أيضا بأن كل من يقدم على الخطبة أو الزواج في تلك الفترة فسيفصل فورا من الخدمة.
وهنالك عدد كبير من كبار المسؤولين البريطانيين المتزوجين يعيش قليل منهم مع زوجاتهم في المدن الكبيرة (للمزيد من هذا الجانب يمكن قراءة المقال المترجم بعنوان "من ذكريات بعض زوجات موظفي القسم السياسي بحكومة السودان https://www.sudaress.com/sudanile/70067"، ومقال آخر بعنوان "جوانب من الحياة الاجتماعية (الخاصة) للإداريين البريطانيين بالسودان https://www.sudaress.com/sudanile/24443". المترجم).
أما وضع الموظف البريطاني الذي لا يعمل في وظيفة معاشية، فهو وضع لا يحسد عليه. فالمرتب العالي الذي يناله، سرعان ما يتبخر أمام غلاء المعيشة في السودان، ويصبح الادخار منه من رابع المستحيلات. وحتى إذا قتر ذلك الموظف على نفسه، وأفلح في ادخار بعض المال، فإن العطلة السنوية في بريطانيا كفيلة بالقضاء على تلك المدخرات القليلة. وربما كان أفضل لهؤلاء أن يعملوا في أي مستعمرة بريطانية أخرى أو في الهند.
وفوق كل هذا وذاك، فقد كانت المزايا الاجتماعية لصغار الموظفين البريطانيين ضئيلة نسبيا. وكان الفارق (الاجتماعي وغيره) بين كبار الموظفين وصغارهم محددا بصورة واضحة وقاطعة. غير أنه لم تسمع الكثير من الشكاوى أو التبرم من ذلك.
ومن جانب آخر، وبجانب الآفاق المستقبلية المشجعة التي كان ينعم بها كبار الموظفين البريطانيين وصغارهم، كانت الحكومة تبذل ما في وسعها لجعل الحياة سهلة بقدر الإمكان لكل العاملين في السودان. فحتى وقت قريب لم يكن الموظف يطالب بدفع أي نوع من الضرائب. ولم تفرض حتى الآن إلا ضرائب قليلة واسمية فقط. وكان الموظف يمنح تذاكر مجانية وتخفيضات كبيرة في مطاعم القطارات والبواخر عند سفره في مهام رسمية. وكان ينعم أيضا بأفضل سكن في المدينة التي يزورها أو يعمل بها.
وكان المسؤولون البريطانيون يعيشون في الخرطوم (وفي مدينة أتبرا أيضا) في أفضل الأحياء وفي أرقى المساكن، مقارنة بالمباني المتواضعة التي كان يسكنها باقي مديري المديريات والمفتشين في المدن الأخرى. ويقطن غالب المسؤولين في تلك المدن الأخرى في منازل غير صحية تنعدم فيها وسائل الراحة. ولا يساعد سكن المسؤول البريطاني في مثل تلك البيوت البائسة على إبراز قوة وكرامة الدولة وعظمتها في عيون الأهالي، ولا على تبيان تفوق وسمو قدرها وقدر الموظف الذي يمثلها. ولا شك بأن حكومة السودان ستقوم بأعجل ما تيسر باتخاذ الخطوات اللازمة لتحسين الظروف الحياتية الصعبة لموظفيها في المحطات البعيدة، التي يواجهون فيها الكثير من الأهوال، خاصة أمراض المناطق المدارية المميتة. لقد قال رجل الدولة البريطاني جوزيف شمابرلين (1836 – 1914م): "إن من أهم الأشياء التي ينبغي أن نحرص على تنفيذها والمحافظة عليها بكل الطرق هي صحة المسؤولين البريطانيين العاملين في المناطق المدارية وذلك من أجل ضمان كفاءة ونجاح إدارة وتطوير تلك المناطق. وسيكون من سوء التدبير الاقتصادي تجاهل هذا الأمر".
إن من خصائص الموظف البريطاني القدرة على العيش بسهولة ويسر في أي مكان يرسل للعمل فيه، سواءً أكان في المناطق المفرطة الحر في أفريقيا، أو الشديدة البردة مثل مناطق الشمال. فهو سريع التأقلم على البيئات الغريبة عليه. ويكتفي مثلا بالسكن في عشة صغيرة أو بيت متواضع من الطين اللبن، ويقوم بتزيين جدرانها بما يجمعه من تحف ولوحات وهو في منفاه. بل يجهد في تجهير ملعب للتنس أو الاسكواش أو أي لعبة أخرى. ومبلغ همه أن يظل صحيح البدن وهو في مثل تلك البيئة غير المواتية. وقد يتطلب البقاء صحيحا أن يمارس رياضة عنيفة مجهدة، حتى في حر أفريقيا الوسطى اللافح.
وكان كثير من المسؤولين في المديريات من صغار السن، وكانوا يجدون عنتا في التوفيق بين الترفيه وبين إدارة مناطق واسعة يستغرق العمل في شؤونها غالب ساعات اليوم. فيستقطعون من ساعات نومهم وراحتهم للقيام بتمارين بدنية تبقيهم أصحاء. فهم ليسوا على استعداد ليدعوا أجسادهم تترهل أو تعجز عن العمل المرهق، ويبذلون كل ما في وسعهم للبعد عن "قائمة المرضى"، ولذا تجدهم على أتم استعداد لتحمل مشاق التمارين البدينة بكل سرور. بالإضافة لذلك، فإن انحراف صحة المسؤول قد تكون – بسبب الاعتقاد السائد بين الموظفين - عاملا من عوامل تأخير الترقية والعطلات المعتادة. وهم يرون أن مرض الموظف ونيله لإجازة مرضية ليس عدلا في حق "الزميل الآخر" الذي قد يسند إليه القيام بأعباء الموظف المريض، رغم ما عليه سلفا من أعباء ثقيلة يَنوءُ بحملها الكاهل.
لقد كانت روح الإخلاص للعمل وحسن الزمالة بين الموظفين البريطانيين واضحة جلية. وقد تنعدم عند بعضهم مشاعر الانانية لدرجة كبيرة تدعوا للإعجاب.
سجل اللورد كرومر في تقريره له عن السودان صدر في عام 1906م أنه " ينبغي لمن يرغب في تقدير مدى الحماس والذكاء الذي كان المسؤولون في السودان يؤدون به أعمالهم، ألا يكتفي بقراءة التقارير التي يكتبونها، بل يقوم بزيارة المناطق البعيدة ذات الطبيعة القاسية التي يديرون شؤونها. إن لهذه البلاد كل الحق في أن تفاخر بهؤلاء الرجال. وأتمنى، بل أؤمن بأن أهل هذه البلاد – عدا فئة قليلة جدا – يفتخرون بهم".
وكنت قد زرت خلال رحلاتي في مناطق السودان المختلفة الكثير – إن لم نقل غالب تلك " المناطق البعيدة ذات الطبيعة القاسية" التي أتى اللورد كرومر على ذكرها. وأستطيع أن أومن على كل كلمة وردت فيما ذكره اللورد كرومر في تقريره عن أولئك الموظفين العاملين في خدمة حكومة السودان.
وقد تبدو للمبتدئين غير الخبراء التغييرات المتكررة التي تجريها الحكومة في أوساط الموظفين في الإدارة المحلية أمرا غير معتاد أو حتى غير مرغوب فيه. وقد يفترض أحدهم أن الموظف الذي يقضي زمنا في منطقة ما، ويعتاد عليها وعلى سكانها ويعتادون عليه، سيكون له نفوذ قوي عليهم، ولن يمكن لهم يستهينوا به. وعلى الرغم من ذلك فقد كانت الحكومة قد أجرت بعض التغييرات الصغيرة دون تدبر أو مسبب كافٍ. ولا تُقدم - لأسباب معلومة – أي تفسيرات لتلك التغييرات في أوساط الموظفين.
وفي إحدى الحالات كان هنالك مأمور مصري أثبت - بقدر ما يمكن التثبت منه - ذكاءً وكفاءة وعدلا في عمله، ولكنه نُقل من منطقة عمله إلى منطقة نائية ليس له فيها خبرة سابقة. وأذاع المأمور بين الناس أنه ضحية لظلم إداري فادح. ولكني وجدت لاحقا أن السبب الحقيقي في نقل الرجل كان هو أنه جمع لنفسه تدريجيا وسراً ثروةً من أعمال خاصة في المنطقة التي كان يعمل بها، وفي هذا مخالفة صريحة للقوانين الإدارية، إذ أن ما فعله ذلك المأمور – وهو قاضٍ وإداري - يقدح في استقلاليته.
لقد كان هدف الحكومة المركزية هو إزالة أي إمكانية للفساد أو الإغواء عند الموظفين. ويتطلب هذا الأمر اتخاذ أكثر إجراءات النظام والاشراف صرامةً ودقة. وإن تم التغاضي عن أقل التجاوزات خطورةً، فإن تلك العلة الإدارية ستنمو وتتضخم كالسرطان. لقد دأب حكام السودان السابقين من الأتراك والمصريين لنحو قرن كامل، إلى حين دخول البريطانيين للبلاد، على التكسب الفاحش من محكوميهم من السكان التعساء. ولا تزال روح الطغيان والقهر والفساد تعشعش عندهم، وربما يستحيل إزالتها تماما من رؤوسهم. غير من واجب الحكومة القوية المتيقظة أن تحد من نفوذ هؤلاء الموظفين الفاسدين. وإن أخفقت الحكومة في السيطرة على ذلك الطغيان والقهر والفساد، حتى لدرجة قليلة، فسيقع السودانيون تارة أخرى ضحايا لطمع وظلم هؤلاء الحكام المصريين.
وفي بعض الحالات كانت الضغوط العقلية والنفسية على مسؤولي الحكومة في المناطق النائية كبيرة جدا. فقد تفصل المسؤول البريطاني في مقره مئة ميل أو أكثر عن مكان أقرب رجل أبيض، أو عن مكان يمكن له فيه أن يبعث برسالة برقية. وقد يقضي ذلك المسؤول الشهور الطوال قبل أن يرى وجه أحد زملائه أو أصدقائه أو يستلم رسالة بالبريد. وقد يكون ذلك الموظف مسؤولا بمفرده عن منطقة تتجاوز مساحتها ستة آلاف من الأميال، وليس معه سوى عشرين أو ثلاثين من الجنود الأهالي لمساعدته في حفظ الأمن والنظام في وسط نحو خمسة عشر أو عشرين الفا من السكان، من مختلف القبائل المتناحرة دوما، غالبا بسبب حالات النهب والسلب. وهذا ما يجعل مسؤول الحكومة في حالة مراقبة دائمة وتحفز مستمر، وترأس محاكمات لا يكاد ينقطع سيلها.
وغدت حالات القتل بالسودان نادرة الآن، ولكنها تحدث بين حين وآخر. وليس هنالك من يحول بين القتلة وضحاياهم سوي المفتش البريطاني. وعلى الرغم من أن موقف وسلوك الأهالي نحو الحكومة كان إيجابيا ووديا صادقا (تَأَتَّى بلا شك من إدراكهم للمنافع التي جنوها من تلك الإدارة الممتازة العادلة)، إلا أنه لا يتوقع أن تتغلب تلك العاطفة الودودة على طبيعتهم المتأصلة المفعمة بالشك والارتياب، التي تميل تقليديا للنهب والسلب والثأر عندهم منذ قرون طويلة مضت. ولك أن تتخيل عسر المهام التي تلقى على كاهل المسؤول الحكومي لإدارة شؤون مثل هؤلاء الناس في تلك المناطق القاصية.
وقد تضطر الحكومة، بين حين وآخر، لإرسال حملة عسكرية (تأديبية) لعقاب رجال القبيلة الذين يتحدون الدولة ويخرجون عن قانونها، من أجل أن تسترد الدولة سيطرتها وهيبتها. واتخاذ قرار بحملة مثل هذه يعد أقسى اختبار للمسؤول. فمراكز المديريات قلما تسعد بطلب المسؤول في منطقة نائية تسيير حملة ضد مخالفي القانون بها. غير أن المسؤول في المنطقة هو من عليه عبء تقدير خطورة الموقف وضرورة الاستعجال في اتخذ اجراء بشأنه حتى لا يستفحل ويغدو تمردا شاملا. وهنا تظهر حنكة المسؤول الإدارية، وقدرته على التمييز، واتخاذ القرار الصائب في التوقيت المناسب.
وهنا يمكن لي أن أقتطف من رسالة تلقيتها من لورد كرومر في ديسمبر من عام 1916م تعليقا على مقال لي حول "إدارة السودان" كنت قد نشرته في مجلة (Quarterly Review). كتب اللورد، ضمن أمور أخرى، ما يلي: " أسمح لي بأن أضيف هنا رأيا صريحا وقويا فيما يتعلق بالدَّيْن الواقع على أعناق سكان هذه البلاد لهؤلاء الشباب من الموظفين البريطانيين، المدنيين منهم والعسكريين، خاصة في مجال التعليم عامة، وبخاصة التعليم الفني. ورغم أنهم أقل دربة وخبرة من الفرنسيين والألمان من نفس الفئة، إلا أنه لا يوجد قطر في العالم له رُسل استعمار مثل البريطانيين في المنفعة والقيمة. وكل ما هو مطلوب ممن هم في السلطة هو أن يوجهوا (الأهالي) بكل لطف في أمور مبدئية، ثم يدعوهم لأنفسهم. سيقعون بالتأكيد في بعض الأخطاء. وفي هذه الحالة ينبغي على رؤسائهم أن يساعدونهم على إصلاحها، وأن يظهروا لهم التأييد والمساندة بصورة علنية. غير أن إصلاح أخطائهم لا ينبغي أن يميت في نفوسهم روح المسؤولية بكثرة الأوامر والتدخل في التفاصيل". لا شك عندي أن تلك الكلمات المتعاطفة والتلقائية لأكبر وأعظم قناصل بريطانيا في الخارج سيكون مصدر رضا وفخر للمسؤولين في السودان في كل الرتب الإدارية.
وكثيرا ما يُطلب من مفتش في مديرية ما أن يتوجه لمرابط قبيلة ما، وهو في صحبة عدد قليل من الجنود، ليبحث في أمر نزاع نشأ بسبب نهب بعض الأبقار أو الغنم من قبيلة أخرى. وسيحاول المفتش في البدء أن يقنع كبار رجال القبيلة بالحسنى بإعادة ما نهبوه. وإن لم يجْد النصح، فسيهددهم برد حكومي عنيف إن لم يستجيبوا لطلبه رد ما سرقوه لأصحابه. غير أن هنالك حالات – نادرة لحسن الحظ – تخفق فيها محاولات المفتش للإقناع بالحسنى أو بالتهديد، بسبب عناد رجال القبيلة، ولعلهم بعدم قدرة المسؤولين على تنفيذ تهديداتهم، ولإيمانهم بأنهم سيكونون في مأمن من العقاب لقدرتهم على الفرار بسرعة إلى مناطق جبلية يتعذر ملاحقتهم فيها. ويعود المفتش أدراجه مضطرا دون إحراز أي نجاح في مسعاه، سوى تحذيره للسراق بأن الحكومة لن تنسى هذه الحادثة الموجهة ضدها، وسيعاقبون على ما اقترفوه من جرم إن عاجلا أم آجلا. ولكن في العادة ستوصل زيارة المسؤول البريطاني رسالة أخلاقية لرجال القبيلة قد تفلح في حل المشكلة ورد المسروقات لأصحابها.
ويظن كثير من رجال القبائل التي تقطن في المناطق الجبلية بأنهم في مفازة من ملاحقة الحكومة لهم بسبب صعوبة الوصول إليهم، ولامتلاكهم أسلحة أوروبية (تأتيهم مهربةً عبر الحبشة). ورغم ذلك فالمرء يعجب من قلة مقاومتهم لمطالب الحكومة، وللاحترام الكبير الذين يبدونه لسلطتها الصامتة وغير المعلنة في غالب الأحوال.
ويخاطر الذين يعملون في خدمة حكومة السودان بسلامتهم الشخصية. ويتطلب العمل في بعض مناطق السودان من الإداريين العسكريين والمدنيين على حد سواء، شجاعةً كبيرة، ومخاطرة بالحياة أحيانا في المناطق التي كانت تشهد اضطرابات قبيلة أو في مناطق الحدود. وكان من بين الذين فقدوا أرواحهم في تلك الاضطرابات النقيب آر. ان. مونكريف قنصل بريطانيا في جدة (مع 160 من الضباط والجنود المصريين) في معركة ضد الدراويش في ترنكتات. وقتل في أبريل من عام 1908م بعض مثيري الشغب من رجال الحلاوين مسؤولا بريطانيا مهما هو سي. سي. اسكوت مونكريف ومأمور المنطقة المصري، بالقرب من المسلمية (بمديرية النيل الأزرق). وأثارت تلك الجريمة غضب واستنكار أعضاء مجلس العموم البريطاني، خاصة كير هاردي وأتباعه (هو نائب وقائد نقابي أسكتلندي ينسب له تأسيس حزب العمال البريطاني. المترجم). وفي الجنوب قتل رجال متمردون من الأنواك في أبريل من عام 1912م النقيب كنهان والنقيب ليشتنبيرق وهما يدافعان عن قبائل النوير. ولقي الرائد جي. ال. جي. كونري حتفه في وادي هادي (على بعد ستين ميلا من القضارف) وهو يقاتل عصابة من الخارجين عن القانون. وفي ديسمبر عام 1919م قُتل الرائد استيجاند مدير مديرية منقلا والرائد هوايت في معركة بالقرب من تومبي ضد رجال قبيلة المارادينق. ولا تزال هنالك بعض الاضطرابات التي تنشب أحيانا في قليل من المناطق التي لم يتم فيها بعد تثبيت دعائم الأمن والسلم. وفي بعض أجزاء السودان البعيدة يغادر الضباط مكاتبهم صباحا، ولا يعلمون إن كانوا سيعودون إليها عشاءً وهم أحياء.
غير أن حالة الأمن بالبلاد كانت – بصورة عامة –مرضية، ما عدا ببعض المناطق (القليلة) بالجنوب وعلى الحدود الاثيوبية التي تسودها الاضطرابات. وتؤمل حكومة السودان أن تقيم على تلك الحدود نقاط مراقبة وحراسة لصد هجمات العصابات على سكان البلاد في تلك المناطق. وما زالت مسألة الحدود الفرنسية في الغرب (أي مع تشاد. المترجم) عالقة لم تحسم بعد.
وعلى الرغم من الاضطرابات التي تنشب أحيانا، لا يملك المسافر في أجزاء السودان المختلفة عند اختلاطه بالسكان المحليين إلا أن يعجب بمظهرهم السعيد الراضي والقنوع. وزالت إلى الأبد عن نفوسهم مشاعر الشك والرعب عند رؤيتهم لرجل "غريب" أو مسؤول، فقد كانت رؤية أي منهما تثير الخوف عندهم من النهب أو من الاختطاف أو الاسترقاق. فالسوداني الآن حر طليق، تماما كالهواء الذي يستنشقه، وعادت إليه فرحته الطبيعية. فما دام يحسن السلوك، ويدفع ما عليه من التزامات ضريبية قليلة (لمساعدة الحكومة في إدارة البلاد) فليس هنالك من سيتدخل في شؤونه. وله أن يشتغل – إن أراد - في العمل الذي يريده، ويتلقى عن ذلك الأجر المناسب. وإن آثر أن يظل عاطلا عن العمل، فذلك شأنه، ولا أحد بمقدوره أن يجبره على العمل.
وأختم هذا الفصل بالخبر الذي نشرته صحيفة "سودان تايمز Sudan Times" في عددها الصادر في 17/6/1920م عن محاكمات جرت لمسؤولين حكوميين فاسدين في سنار اتهموا بالاستيلاء على أموال وعقارات من الأهالي بطرق غير مشروعة عن طريق الابتزاز والاختلاس والتلاعب، خاصة في عمليات جمع عشور محصول الذرة، مما أثر سلبا على المنطقة بأسرها، وكاد أن يحدث اضطرابا خطيرا بالأمن فيها. وحكم على المأمور اليوزباشي أمين أفندي المفتي بالسجن لأربع سنوات، والغرامة 500 من الجنيهات المصرية. وحكم على مساعدي المأمور م. أ. عزيز أفندي كامل و م. أ. حبيب أفندي عبد الملك بالسجن لمدة عامين وعام، على التوالي. وحكم على الملازم ثاني أحمد أفندي حلمي بالغرامة مبلغ 200 من الجنيهات المصرية، وعلى جورجي أسعد بالسجن لعام واحد والغرامة خمسين جنيها مصريا.



alibadreldin@hotmail.com

 

آراء