من تاريخ الخدمات الصحية بالسودان في العشرين عاما الأولى من الحكم الثنائي (1/2) بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذه ترجمة لما جاء في الفصل الرابع عشر من كتاب (السودان في طريق التطور Sudan in Evolution) الذي صدر بلندن في عام 1921م عن دار نشر كونستابل وشركاه Constable & Company ، لمؤلفه البريطاني بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin )1861 – 1941م). ويتناول هذا الفصل بعض تاريخ الخدمات الصحية بالسودان في العشرين عاما الأولى من حكم الاستعمار الإنجليزي – المصري. للمزيد عن تاريخ الخدمات الصحية بالسودان يمكن الاطلاع عدد من المقالات المحكمة منها مثلا مقال مترجم بعنوان: "عرض لكتاب: تاريخ الطب في السودان الإنجليزي المصري، 1899 – 1940م" لهيذر بيل 1955م"shorturl.at/lwzZ5 ، ومقال بعنوان "مدرسة كتشنر الطبية بالخرطوم " shorturl.at/fJPRY، ومقالين آخرين بعنوان "الأوضاع الصحية بالسودان قبل مجيء الحكومة الحالية shorturl.at/ehOWX "، و"الأبحاث الطبية التي أنجزتها البحرية الأمريكية في السودان الإنجليزي – المصري https://www.sudaress.com/sudanile/107168". المترجم *** ** ** لعل الكفاءة التي ميزت عمل المصلحة القائمة على شؤون الطب والصحة بالسودان كان مردها العناية الفائقة المستمرة التي أولاها المسؤولون لتعيين أفضل العناصر في تلك المصلحة، ولليقظة والاهتمام والدقة التي ميزت أداء أولئك العاملين في كل أرجاء البلاد. وينبغي أن يكون مدير تلك المصلحة – بوجه خاص – بالغ الحرص وشديد التمييز ودائم التَيَقُّظ، وأن يتمتع بخبرة ومعرفة واسعة بكل الأمراض المعدية وبالشؤون الصحية المختلفة. ويمكن الآن أن تُعد أحوال الصحة العامة بالسودان الإنجليزي – المصري جيدة بلا شك، على الرغم من احتمال ظهور الأوبئة القادمة من الخارج، إما عن طريق آلاف الحجاج الذين يسافرون لمكة ويرجعون منها عبر السودان، أو عن طريق الذين يدخلون البلاد عبر الحدود مع الكنغو والحبشة. وكان وباء الكوليرا ينتشر بالبلاد في فترات متباعدة، غير أن يقظة السلطات منعت انتشار ذلك المرض بصورة كبيرة. وكانت نوعية الإصابات بالكوليرا التي حدثت بالسودان خفيفة نوعا ما، وربما يشير الفحص المعملي البكتريولوجي إلى أنها ليست أصابات "كوليرا" حقيقية. فقد كانت أعراض المرض المعروفة (مثل القيء العنيف والاسهال وضعف النبض وبرودة وجفاف الجلد وتغير لونه للون رمادي أو مزرق) إما خفيفة جدا أو غائبة تماما. غير أنه من باب التحوُّط والحذر يتم اعتبار كل الشكاوى (أو أي من الأعراض المذكورة) هي بالفعل بسبب تلك الكوليرا اللعينة (cholera morbus) في أشد صورها حدة. وما تزال هنالك بعض الحالات الفرادى لمرض الجدري. ولا يتوقع أحد أن تخلو البلاد بصورة كاملة شاملة من أمراض مثل التهاب السحايا الدماغية أو الملاريا أو الحمى المعوية. وهنالك أيضا داء الملقوات (ويسمى أيضا الانكلوستومات Ankylostomiasis، وهو مرض طفيلي تسببه دودة مدورة. المترجم) ينبغي الحذر منه دوما عند فحص الفلاحين القادمين للعمل بالسودان. وهذا المرض موجود بالبلاد، ولكن لدرجة أقل كثيرا عما هو حادث بمصر. وتعذر أيضا القضاء على الارتفاع المهول في مُعَدَّلُ وَفَياتِ الرُّضَّع. ومع قلة عدد سكان السودان يصعب في بلد مثله الحصول على أي بيانات أو احصائيات دقيقة عن ذلك المعدل. ولكن يشير ما جمع من احصائيات قليلة حتى الآن إلى أنه معدل مرتفع للغاية. ولكن من حسن الحظ أن الحكومة مدركة لهذه المشكلة ولخطورتها، وتعمل الآن جاهدةً لإيجاد حلول لها. وتم الآن إعداد نظام دقيق لتسجيل الولادات والوفيات، وهذا مما شأنه أن يجعل الاحصائيات والبيانات الصحية أغزر مادةً وأكثر موثوقية. وصدر أخيرا قانون للصحة العامة، يؤمل في أن يساعد المسؤولين على تحقيق أهدافهم في تحسين الخدمات الصحية بالبلاد. ويساور القلق غالب مسؤولي الصحة بالبلاد من الزيادة المستمرة (ببعض البطء) في مرض النوم، الذي يسببه طفيل في الدم يسمى المثقبية الغامبية (Tryptosoma gambiense). ويكثر هذا المرض بصورة رئيسة في منطقتي يروب ومورو. وانتشر منذ فترة في مديرية مَنْقَلا، خاصة في منطقة تي، وظلت الحركة في الطريق بين تي وليباقو (الواقعة على الحدود مع الكنغو البلجيكي) مغلقة عمليا بسبب انتشار مرض النوم بالمنطقة. وقدمت لجنة متخصصة في مرض النوم بالمصلحة تقريرا عامرا بالمعلومات والبيانات والأدلة، بيد أنه كان قليل الفائدة، إذ أنه يثبت أن اللجنة ما زالت بعيدة كل البعد عن فهم أفضل الطرق لمكافحة هذا المرض الوبيل (للمزيد عن تاريخ مرض النوم في أفريقيا يمكن النظر في صفحة منظمة الصحة العالمية باللغتين العربية والإنجليزية shorturl.at/anNR1 و shorturl.at/gjrM8. المترجم). غير أن اللجنة تناولت باستفاضة دور ذبابة تسي تسي والحيوانات الوحشية في نقل المرض للبشر، وعما إذا كان من المصلحة القضاء على الحيوانات الوحشية، إما بصورة شاملة أو جزئية، من أجل التخلص من تلك الذبابة الناقلة للمرض، وعن إمكانية اتخاذ إجراءات أخرى لمكافحته. ويبدو أن لمرض النوم صنفاً ينتشر في السودان وأوغندا وأيضا في غرب أفريقيا، وآخر مختلف ومتميز يوجد في روديسيا ونياسيلاند (يعرفان الآن بزمبابوي وملاوي، على التوالي. المترجم). والنوع الأول شديد الوخامة والوبائية، إذ حصد بين عامي 1898 و1906م نحو خُمس مليون نسمة. أما النوع الثاني فقد أُكتشف في عام 1908م أنه مختلف عن النوع الأول، وهو أقل وخامة ووبائية من النوع الأول، ووجد في 153 مريضا في نياسيلاند، و107مريضا في روديسيا في الفترة بين 1908 و1914م. ويقال بأن الأهالي يعلمون أن هذا مرض قديم عندهم. وخلصت اللجنة المذكورة إلى أن المعلومات المتاحة حاليا عن مرض النوم ووبائيته لا تبرر استخدام وسيلة محددة للقضاء على المرض. واستشهدت اللجنة بما قاله أحد الشهود في معرض شهادته للجنة: "في هذا النوع من الأبحاث تلعب الصدفة دورا كبيرا. وأن المصادفات أو السَرَنْديبية (هي الإشراقية / الاكتشاف بالصدفة) قد تكشف سرا قد يفضي لحل المشكلة. ولا بد أن تؤدي زيادة عدد العاملين في هذا النوع من الأبحاث لمضاعفة فرص حدوث مثل تلك المصادفات". ووجد كذلك أن مرض النوم قد انتشر في مناطق واسعة من الجزء الغربي لبحر الغزال، وموجود أيضا في الكنغو إلى الغرب وجنوب غرب طمبرة. ولا شك أن الحكومة تبذل أقصى جهد بشري ممكن من أجل القضاء على هذا المرض، غير أن اتساع الرقعة الجغرافية التي ينتشر فيها المرض، وسكانها الذين لا يكتفون بعدم فعل شيء لمساعدة حملات القضاء على المرض، بل يتضايقون جدا من التدخل الحكومي في شأنه، خلق عقبات رئيسة في طريق مكافحة المرض. ولكن على الرغم من ذلك لاقي الحجر الصحي الذي تفرضه السلطات العسكرية نجاحا لا بأس به. لقد كانت الحالة العامة للمستشفيات العسكرية والمدنية في السودان مقبولة جزئيا. وكانت الترتيبات الموضوعة لعلاج الحالات الجراحية والطبية للأمراض المعدية شبة مكتملة، بالقدر الذي كانت الإمكانيات المتوفرة للسلطات الطبية تتيحه. غيرا أن أعداد المستشفيات بالبلاد كانت محدودة جدا، وبعضها لا يسع كل المرضى. وفعلت الحكومة كل ما في وسعها بالموارد المحدودة المتاحة لها. ولا شك أن حصولها على مزيد من الموارد في المستقبل سيمكنها من تنفيذ كثير مما ترغب في إنجازه. وهنالك في بعض المدن الكبيرة، مثل الأبيض على سبيل المثال، حاجة ملحة لتحسين مباني المستشفى. غير أن مباني مستشفيات مدن أخرى كالخرطوم وأتبرا وبورتسودان وواد مدني وكسلا كافية وبها من الاجهزة والمعدات ما يفي بالغرض. ولضمان عدم انتشار الأمراض المعدية قامت السلطات الطبية بإصدار رخص صحية لحلاقي الصحة. وكان من يمارسون تلك المهمة رجال من طبقة متدنية الأخلاقيات والثقافة. وكان كبار السن من هؤلاء أميون تماما. وتم الآن منع هؤلاء من ممارسة المهنة، وسمح لشباب من طبقة أرفع بممارستها، وصاروا يعاونون المأمور في استخراج شهادات الميلاد والوفاة والتطعيم. ولجعل ذلك النظام مقبولا ومؤديا لرسالته بصورة سلسلة، تقرر صرف مكافآت سنوية حكومية لهؤلاء الحلاقين. وتقرر أيضا تدريب بعضهم في مستشفيات المدن الكبيرة لمدة عشرة أيام سنويا لعلاج الحالات البسيطة مثل تضميد الجروح، والتعامل مع مرض التراخوما (الحثر أو الرمد الحبيبي) الذي يحدث التهابا في ملتحمة العين، وخاصة تلك التي تغطي الجفن العلوي من الداخل، ويكثر في البيئات القذرة المهملة بمصر والسودان. وأثبت حلاقو الصحة بأنهم بالفعل إضافة مهمة ومفيدة للعاملين في مجالي الطب والصحة. وقد يفترض المرء أن الأهالي الذين يتلقون علاجا مجانيا في مختلف مستشفيات الحكومة يشعرون إلى قدر ما بالعرفان والامتنان لمهارة وخدمات الجراحة والطب والعلاج التي تبذل دون مقابل لمن يطلبها. والسودانيون، مثلهم مثل بقية الأفارقة، أناس طيبو القلب ولينو العريكة. غير أنهم لا يحسنون إظهار التعبير عن شعورهم بالامتنان أو أي عاطفة أخرى. فهذا النوع من إظهار تلك المشاعر تجاه من يساعدهم غريب عليهم، وليس لهم فيه تجارب سابقة، ربما بسبب ما تعرضوا له عبر السنوات من قهر وقسوة. وسيستغرق الأمر بعض الوقت حتى يتخلوا عن شكهم وارتيابهم المتأصل (الذي يمنعهم من الاستفادة من الخدمات المقدمة إليهم في مختلف المجالات)، وليؤمنوا بأن حكامهم الجدد يساعدونهم مجانا دون أن يطالبوهم بشيء في المقابل. وانتظر العاملون بالمستشفيات طويلا قبل أن يبدأ المرضى طوعا في طرق أبوابهم. وإلى الآن لا يُحضر المريض للمستشفى إلا وهو في مراحل متقدمة جدا من المرض، وبعد أن يخفق العلاج (البلدي) تماما في تحسين حالته الصحية. وقد يتخيل المرء أن على هؤلاء المخلوقات البائسة أن تشعر بالامتنان، أو على الأقل تقدر الفرق بين ما حصلوا عليهم اليوم، وبين ما كان لديهم قبل عقدين من الزمان، عندما كان الواحد من أهاليهم يترك ليُنتن في طرق المدينة البائسة أو في عرض الصحراء قبل أن يموت بسبب المرض أو الجوع، ويلقى مصيرا أتعس وأقسى من مصير الحيوانات المريضة في البرية. وكان سلوك المرضى في المستشفيات، بصورة عامة، مرضيا جدا، فقد كانوا لا يحدثون مشاكل كبيرة. وكان كل ما يبدونه هو بعض القلق (الطبيعي لمن في حالتهم) بسبب طبيعة مرضهم. وغالبا ما تكون أمراضهم معقدة مستعصية. غير أنهم يتحملون ألم المرض والعمليات الجراحية بجلد وصبر عجيبين. بل كانوا يظهرون عند وضعهم على طاولة العمليات الجراحية سَدَرا ولا مبالاة (stoical indifference) تشابه ما كانوا يظهرونه عندما يقومون بإيذاء بعضهم بعضا جسديا. ولا يبدو أن معاناة البشر، سواءً أكانوا يحدثوها لغيرهم أو تحدث لهم هم أنفسهم، تترك عندهم أي أثر واضح. وتبدو بعض الأفعال التي يقومون بها وهم في سَوْرَة غضب أو عند الانتقام وحشية وشيطانية الطابع، مما يثبت أن غزيرة التوحش الأصلية ما زالت حيّة في نفوسهم (هكذا! المترجم). وشاهدت بأم عيني في مستشفى كسلا شابا وقع ضحيةً لمثل ذلك الاعتداء الوحشي. فقد تَرَصَّدَه رجلان من نفس القبيلة في مكان بعيد عن المدينة، وقاما - على سبيل الانتقام – بشد وِثَاقٍ على يديه ورجليه، ثم قطعا أوتار (رباطات) عُرْقُوبُيه ورسغيه وكتفيه. وكان مرادهما كما هو واضح أن يعْجَزَاه كليا. وتركاه في وسط دَّغَل وهو على تلك الحالة الأليمة المؤسفة. وبعد مرور أسبوع كامل تصادف أن مرت عليه قافلة إبل فحملته لمستشفى، في رحلة استغرقت ثلاثة أسابيع. وهنالك تولاه لعدة أسابيع متتالية النَطَاسِيُّ الماهر النقيب قيبونز جراح المستشفى بالرعاية والعناية والعلاج. ورغم أن الحالة كان سيكون ميؤوسا تماما منها عند أمهر الجراحين وأكثرهم خبرة، إلا أنني عندما رأيت ذلك المريض، وجدته قد استعاد بعضا من القدرة على استخدم يد وذراع واحدة، وصار بإمكانه ببعض المساعدة الوقوف على قدميه. وأخبرني الجراح بأن هنالك بعض الأمل في استعادة جزئية أو كلية لحركة اليد والذراع الأخرى في المستقبل القريب.