من تاريخ الجيش بالسودان في العشرين عاما الأولى من الحكم الثنائي بقلم: بيرسي اف. مارتن .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

من تاريخ الجيش بالسودان في العشرين عاما الأولى من الحكم الثنائي
بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لما جاء في الفصل الخامس عشر من كتاب (السودان في طريق التطور Sudan in Evolution) الذي صدر بلندن في عام 1921م عن دار نشر كونستابل وشركاه Constable & Company ، لمؤلفه البريطاني بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin )1861 – 1941م). ويتناول هذا الفصل طرفا من تاريخ إنشاء الجيش بالسودان في العشرين عاما الأولى من حكم الاستعمار الإنجليزي – المصري.
سَدِرَ الكاتب في هذا الفصل في عنصرية مفرطة في وصفه الجزافي المسيء لبعض صفات الجندي السوداني الأخلاقية. ونترجم هنا ما كتب كما ورد دون تعديل أو تعليق.
وللمزيد عن تاريخ الجيش بالسودان يمكن الاطلاع على مقال مترجم بعنوان: "من التاريخ العسكري السوداني"، ومقال في موقع (المعرفة) بعنوان "تاريخ الجيش السوداني"، وما ورد في موقع "الجيش العربي" https://www.arab-army.com/t55189-topic.
المترجم

******* ****** ******
عندما ذهب غردون لأول مرة للسودان، وجد أن النظام التركي – المصري كان قد قسم السودان لمديريات هي دنقلا والخرطوم وسنار وفازوغلي وطوكر وكردفان وبربر (كانت تسمى يومها بربرة). وكان يحكم تلك المديريات السبع تلك مديرين من أصول تركية، وتحت كل واحد منهم حاميتي مشاة وفرسان غير نظاميين. وكانت كل مدينة مقسمة إلى مناطق، يحكم كل واحدة منها حاكم يسمى (كاشف). ولكل كاشف أربعين من الفرسان غير النظاميين كانوا يمثلون رجال شرطة المنطقة، وكانوا يساعدون أيضا في جمع الضرائب والعوائد من الأهالي.
وفي تلك الفترة كان مجموع القوة العسكرية بالسودان (التي تناقصت كثيرا فيما بعد) تتكون من ثلاثة أفواج (الأول والثاني والثالث)، وفي كل فوج 4,000 رجل، وبطاريتي مدفعية، وتسع فرق غير نظامية من الفرسان، تتكون كل واحدة منها من 400 رجلا، مسلحين ببنادق قصيرة ومسدسات.
وكان مجموع القوات 16,000 من الرجال، موزعين على كل المديريات.
وكانت تلك الأفواج الثلاثة (بقيادة إسماعيل باشا) هي التي احتلت السودان في عام 1821م. وكانت تتألف من جنود مصريين مع سوريين، يتوقع أن يكونوا ضباط صف. وتضاعفت كفاءة ذلك الجيش بتجنيد زنوج تم شرائهم من العرب العاملين في تجارة الرقيق.
وفي تلك الأيام لم يكن هناك من سودانيين يلتحقون طواعيةً بالجيش. ولخوفهم من التجنيد، كان الشباب الأصحاء البنية يفرون إلى البلاد الأخرى أو يختبئون في الجبال حذر القبض عليهم وتجنيدهم قسرا. ومن الغريب هنا أن نذكر أن الجنود المصريين (غير النظاميين) كان يسمح لهم بالسفر مع الجيش وهم يحملون قُدُور المريسة، ومسابح للصلاة، في رفقة خليلات (سريات) عديدات.
جاء في كتابات الكثيرين عن تلك الأيام، أن الجيش المصري كان مكونا من مجموعات من الأوباش الأشرار الذين يفتقرون للحماسة والنظام. وكانوا يلحون في الطلب لإرجاعهم لقراهم البعيدة، ليعودوا لمحاولة ممارساتهم العتيقة في الزراعة كيفما أتفق. ورسم لنا أحد الكتاب صورة تنبض بالحياة لفلاح تم تجنيده (قسرا) للعمل بالسودان، حيث رسم صورة قلمية له وهو جالس بهدوء على مقعده واضعا رجلا على رجل وهو في نوبة حراسة، أو واقفا وهو عارِيَ القَدَمَيْنِ في كشك حراسته ليبرد قدميه. ويبدو أن ذلك الفلاح المجند لم يكن يجيد شيئا من شؤون العسكرية مثل اجادته لتثبيت أزرار بذلته الرسمية. وربما لن تتكرر أبدا مع هذا الجيش (المصري) الحديث التكوين، مثل تلك الفوضى الضاربة الأطناب والفزع والهياج وإطلاق النار العشوائي الذي حدث في معركة التل الكبير (هي معركة وقعت في 13/9/1882م بين جنود أحمد عرابي والقوات البريطانية بالإسماعلية انتهت بهزيمة العرابيين. المترجم).
وأصدر الخديوي فرمانا في العشرين من ديسمبر من عام 1882م حل بموجبه الجيش المصري، وكون جيشا جديدا بتنظيم جديد تحت قيادة سير ايفيلن وود. وكان لذلك الضابط المجيد الفضل في بناء جيش مصري جديد، بعد أن كان قد ضابطا في اللواء الثاني (الفرقة الثانية) بالحملة البريطانية التي قدمت لمصر (لحماية مصالحها، خاصة في قناة السويس، كما قالوا. المترجم).
لا ريب أن سير ايفيلن وود كان هو من "صنع" الجيش المصري، وكذلك الجيش السوداني (مثلما فعل البريشت فان رون بالجيش البروسي). غير أن سير ايفيلن بارينق (لورد كرومر) كان هو من قدم لذلك الجيش مختلف أنواع العون الذي يحتاجه في عامي تكوينه بين 1882 و1883م. ولا يجب أن ننسى هنا دور النقيب هوراشيو هيربرت كتشنر، الذي أفلح، بصبر ومقدرة وعدل وحزم مهذب، في نيل ثقة المصريين المتشككين وشبه المذعنين.
ونجح سير ايفيلن وود، بحسبانه القائد العام للجيش المصري، في وضع نظرياته موضع التطبيق دون أن يلقى معارضة من أحد. وسرعان ما أثبت بأنه ليس فقط يعرف ما يريده، بل يفعل ما يريده. ولم يدر بخلد سير ايفيلن وود أنه ستقع يوما ما حرب بين البريطانيين والمهدي، غير أن بذرة التنظيم التي زرعها في جيشه أثمرت لاحقا ثمرا يانعا في أقل من عقدين من الزمان.
وأثبتت الخطوة التي أقدم عليها بتعيين عدد من الضباط البريطانيين كقادة أفراد أو أفواج أنها كانت خطوة حكيمة ومحسوبة بدقة. فقد غدت لاحقا هي حجر الزاوية في كل التشكيل الذي حدث بعد ذلك. وكان فترة التعيين للخدمة بالنسبة للضباط والجنود في البداية لأربعة أعوام، تعقبها أربع سنوات في الشرطة، ثم أربع أخرى في قوات الاحتياطي.
وبعد مرور خمس سنوات مُدت فترة التعيين لخمسة أعوام في الخدمة النشطة بالجيش، تعقبها أربع سنوات في الشرطة، ومثلها في قوات الاحتياطي.
وفي البداية تم اختيار ضباط جيش من الأهالي من الجيش القديم، غير أن ذلك سرعان ما تغير باقتصار التعيين على المتخرجين في المدرسة الحربية، التي دخلوها ابتداءً عن طريق منافسة حرة. أما جنود الصف فقد كانوا يعينون عن طريق التجنيد الالزامي. غير أن هذا لم يجلب العدد المطلوب من الجنود فحسب، ولكن وجد حينها (كما هو الحال الآن) أنه من السهل الحصول على أعداد من المجندين أكبر بكثير مما هو مطلوب.
وسرعان ما حدث تغيير مذهل في مظهر ومَخْبرالقوات المصرية (الذين كان البريطانيون يطلقون عليهم Gippies منذ عام 1883م) فارتفعت عندهم الأخلاق والروح المعنوية، وغدوا أكثر صبراً وإِطاعةً وشجاعة وسرعة في الإنجاز. وتحسنت قدرتهم في الرماية، وصاروا يؤدون حركات التدريب العسكري المختلفة بإجادة وحماسة عظيمتين. ولن يقدر الجهد الذي بذله البريطانيون في إحداث ذلك التغيير الكبير سوى من أتيحت له فرصة رؤية أفراد الجيش المصري بالسودان قبل خمس وثلاثين سنة، ثم رؤيته الآن.
لقد كان الرجال المصريين قبل عقود قليلة يكرهون الخدمة العسكرية في السودان ويفزعون منها، لدرجة أن الفلاحين كان يقدمون على تشويه أجسادهم عمدا ليصبحوا غير صالحين للتجنيد. غير أن ذلك الفعل لم يكن لينقذهم من التجنيد، إذ أن سيء الذكر عباس باشا كون كتيبتين من الرجال المعاقين (الذين فقأوا عينا واحدة أو بتروا يدا أو أصابعا) ليتدربوا تدريبا خاصا يتيح له الاستفادة مما بقي صالحا للاستخدام من أعضائهم.
وعلى الرغم من سن التجنيد في مصر كانت هي تسعة عشر عاما، إلا أنهم لم يكن يستدعون للتجنيد إلا من كانت أعمارهم ثلاثة وعشرين عاما فما فوق ذلك. ويُعد الجنود المصريون الآن هم "زهرة" عِرْقهم / جنسهم، إذ لا يتم تجنيد سوى أقوياء البنية الأصحاء. وأثبت هؤلاء أنهم كانوا يصمدون وهم يتلقون النيران من "عدوهم". وكانوا مظهرهم العام يدل على رجولة وفُتوّة لم تكن بائنة عندهم من قبل. إذ أنهم صاروا الآن يسارعون – من تلقاء أنفسهم - بالاندفاع نحو عدوهم، بينما لم يكن يجرؤن في الماضي القريب على فعل أي شيء من ذلك. ولم يكن ذلك من باب المصادفة، فقد كانوا يتلقون تمارين وتدريبات مكثفة على أيدي البريطانيين الذين لم يكن يكنون للفلاحين سوى الاحتقار.
وأقيمت مدرسة حربية بالخرطوم باقتراح من السردار السابق وحاكم عام السودان الحالي، سير اف. ريجلاند وينجت، الذي لاحظ الأثر السيئ لطقس القاهرة على الطلاب الحربيين السودانيين الذين كانوا يوفدون لمصر لتلقي تدريبهم العسكري هناك. وأقيمت تلك المدرسة بالخرطوم تحت قيادة ضابط بريطاني، وكان طلابها من الطلاب السود بكلية غردون. وكان عددهم في الدفعة يتراوح بين أربعين وخمسين، منهم نسبة قليلة من الذين هم من أصول عربية (مثل الشكرية والرزيقات والجعليين والقبائل الأخرى)، أما سوادهم الأعظم فقد كانوا من الزنوج الخُلَّص.
وكان الترشيح للالتحاق بالمدرسة الحربية من طلاب كلية غردون، ومن أولاد المدارس يتم بناءً على ترشيح نظار مدارسهم عن طريق مديري المديريات، ومن ضباط الصف في الكتائب السودانية بالجيش المصري.
وفي الفصلين الأولين، كان مطلوبا من المرشحين النجاح في امتحان بسيط كان الغرض منه اختبار مقدرات الطلاب التعليمية. ويعقب ذلك فحصهم طبيا، وحجزهم لفترة قصيرة يتم خلالها التأكد مجددا من صلاحيتهم للترشيح لمهنة الجندية.
وكانت مصاريف الدراسة بالمدرسة الحربية زهيدة وتعد أسمية. وفي كثير من الحالات يُعفى الكثير من الطلاب من دفع مصاريف الدراسة بعد تقديم آبائهم لالتماسات للسردار، الذي كان نادرا ما يردها خائبة.
وغالب طلاب المدرسة الحربية الآن (1919) هم من أولاد كلية غردون، مع قليل من ضباط الصف من الكتائب السودانية. ويبلغ عدد الطلاب الذين يدفعون مصاريف عشرين طالبا، يدفع كل واحد منهم ثمانية جنيهات مصرية. ولا يتوقع من ضباط الصف من الكتائب السودانية أن يدفعوا أي مصاريف دراسية. ويقيم جميع طلاب المدرسة الحربية في داخليات المؤسسة، ويمنحون الملابس والكتب والمعدات مجانا من الحكومة.
وتمتد فترة الدراسة لثلاث سنوات بالنسبة للطلاب الحربيين من كلية غردون، وبين 18 إلى 24 شهرا بالنسبة لضباط الصف. وتبلغ ساعات الدراسة الأسبوعية في المتوسط 32.25 ساعة. ويقسم اليوم الدراسي كما يلي: السادسة والنصف صباحا إلى السابعة والنصف ومن الثامنة والربع إلى التاسعة (فترة تقضى خارج الفصول)، ومن التاسعة إلى الثانية عشر والنصف (دراسة داخل الفصول).
وتشمل المواد التي تعطى خارج الفصول التمارين الرياضية والعسكرية (تدريبات مشاة - الجزء الأول والثاني - ثم تمتد تلك التدريبات لتدريبات الكتيبة، وتدريبات الاحتفالات الميدانية، وتمارين المشاة). وهناك أيضا ألعاب الجمباز (مثل الحصان الخشبي للتمرن على الوثب، والقضبان المتوازية، والعارضة الأفقية، والتسلق بالحبل، وتدريبات بدنية، وتدريبات بالسيف، وتدريب على أداء التحية العسكرية الخ). وهنالك أيضا التدريب على إرسال الإشارات (علم ومفتاح دمية، والرسائل البسيطة بشفرتي مورس وسيمافور)، وعلى التراشق بالبنادق (musketry) كما ينبغي لسرية مشاة، والرماية من مسافات بعيدة، وتقدير المسافات إلى 1500 ياردة، ورسم المناظر الطبيعية البسيطة للأغراض العسكرية، والطبوغرافيا (باستخدام أداة مسح تستعمل للتخطيط المباشر في الحقل، وبوصلة منشورية، واستخدام لوحة الرسم للفرسان الخ). ويتم تدريس بناء الجسور عمليا في أيام المعسكر السنوي، بينما يتم تعليم الطلاب الحربيين مبادئ تشييد المنصات والجسور العسكرية واستخدامها، وغير ذلك. ويتم تدريسهم أيضا ربط العقد، ووصل الحبال، وربط شيء آمن بالأسلاك، ومبادئ عمل الاستحكامات الدفاعية. وكان ركوب الخيل من ضمن تدريبات الفصول العليا في مدرسة خاصة بالفروسية، ويقوم بالتدريب ضابط من حرس السردار.
وشملت المواد النظرية التي تدرس في داخل الفصول القانون العسكري (بكل فروعه، مع تركيز خاص على توجيه التهم) ونظم وأحكام الجيش (مثل العادات العسكرية والاتكيت الخ)، والاقتصاد الداخلي والتراشق بالبنادق، والملابس العسكرية المختلفة وطريقة ارتداءها، والحسابات والرواتب (خاصة صرف رواتب الضباط والجنود) وعمل حسابات شهرية، والتكتيك، والاستحكامات (دراسة نظرياتها مع دراسة نظرية لكل ما يقوم به الطالب في الميدان من تدريبات عملية، وأعمال طبوغرافية وكل ما يتعلق بالإشارة، وقراءة الخرط العسكرية، وتقارير الطرق والأنهار). كذلك تعطي دروس نظرية عن الإسعافات الأولية (نقالات سانت جون) يلقيها طبيب عسكري. ويتعلم الطلاب كتابة الرسائل الرسمية، وجغرافيا مصر والسودان، ومدنهما الرئيسة ومناطقها وقبائلها وأنهارها ومنتجاتها، وطرقها ومسارات القوافل فيها وغير ذلك. كذلك يتلقى الطلاب الحربيين حصصا في الحساب (في موضوعات مثل الكسور والنسب والأعداد العشرية الخ).
وكانت السلطات قد بدأت في تجميع الفوج الأول من الجنود "السود" في مايو 1884م. غير أنه كان واضحا منذ عام 1882م، عندما كان القوات السودانية تهاجمنا، أن أولئك الجنود السود يشكلون أفضل "مادة أولية" ممكنة لتشكيل جيش قوي مقدام، وأن هؤلاء الجنود هم الذين ينبغي أن يشكلوا في المستقبل أساس الجيش السوداني وعموده الفقري. وبينما لم يكن عسيرا على الجيش البريطاني (وهو يجد العون من بطاريات مدفعية كروب Krupp) أن يصد هجوم جنود المشاة والفرسان المصريين في معركة القصاصين*، وجدت سَرِيّة الجنرال جراهام صعوبة أكبر في التعامل مع السودانيين المقاتلين بعناد ومثابرة. وكما حاربنا أولئك الرجال الشجعان من قبل، فسوف يحاربون أولئك الرجال الشجعان الآن بشجاعة مماثلة في صفوفنا، عندما تقتضي الضرورة.
(* معركة القصاصين، بحسب ما ورد في موسوعة الويكيبيديا، هي معركة نشبت في 28 أغسطس 1882م بين القوات بريطانيا ومصر في حملة بريطانيا لاحتلال مصر. وانتهت المعركة بانتصار القوات الإنجليزية وحدوث مذبحة بشعة بين أهالي القصاصين. المترجم)
وتم في سواكن تكوين أول كتيبة سودانية قبل خمسة وثلاثين عاما (أي حوالي عام 1884م). وكانت تعرف بالكتيبة التاسعة. وكانت تتألف من رجال من قبائل مختلفة مثل الدينكا والشلك والقلا (سكان جنوب الحبشة، وهم خليط من الزنوج والكوشيين. المترجم) وبعض رجال قوات المهدية الذين هجروا معسكرهم ولجأوا للقوات البريطانية. وعندما عين سير فرانسيس (الآن لورد) قرينفيل سردارا في عام 1885م واصل في العمل الممتاز الذي كان يقوم به سلفه في إعادة تشكيل القوات السودانية. وشكل أربع كتائب إضافية، استطاع بها وبغيرها الانتصار على قوات الدراويش في عدد من المعارك. وقام سير هيربرت كتشنر (الذي غدا سردارا في عام 1896م) بمواصلة مسيرة تكوين الأفواج العسكرية السودانية وتجويد تدريبها حتى عام 1896م، حين تكونت الكتيبة (السودانية) السادسة. وفي ذلك العام والعام التالي كُونت أربع كتائب من فلاحي مصر وأضيفت للجيش البريطاني. وعند بدء حملة استعادة السودان كانت هناك 18 كتيبة مشاة، و10 سرية مدفعية، وفيلق هجانة مكون ثمان سرايا وخمسة بطاريات فروسية، مع العدد المعتاد من المهندسين، والطواقم الطبية، والنقل، وبقية أقسام الجيش.
يعشق السوداني الأسود القتال من أجل القتال، وباستطاعته أن يقاتل شقيقه دون أن يحمل ضده أي ضغينة أو حقد، ودون أي لوم من نفس أو وخز من ضمير. غير أنه ثبت مرارا وتكرارا، كما أسلفنا القول، بأنه واحد من أطيب الناس خلقا، وأحنهم عاطفة عندما لا يكون داخلا في معركة. ويقال بإنه من الممكن أن يكون أفضل جندي مرتزق. ولكنهم لا يخونون ضباطهم أو أي أحد تقاسموا معه الخبز، فهذا ليس من طبعهم البتة. وباء بالفشل والخذلان كل من حاول من المخربين – عبر مختلف الأزمان - أن يغريهم أو يدفعهم لفعل ذلك. وخير مثال على ذلك المحاولة الفاشلة التي قام بها البعض في ديسمبر من عام 1914م لحمل بعض جنود حامية بورتسودان على التمرد إثر اندلاع الحرب ضد تركيا. وأكد رفض أولئك الجنود للتمرد صدق إخلاصهم للقوات المصرية وقيادتها.
وكان الفريق سير إيدوارد هيتون (القائد العام لقوات الكومنويلث في أستراليا) قد أنشأ أول سلاح للهجانة في السودان. وكانت تلك القوات ذات فائدة عظيمة إبان حملة إنقاذ غردون في عام 1884م. وتتكون تلك القوات الآن (1919م) من أربع فرق "عرب"، وفرقة "سودانية"، ويقودها سبعة من الضباط البريطانيين، و26 من الضباط المصريين والسودانيين، و762 من ضباط الصف، مع بعض الأولاد، أي ما مجموعه 795.
وكانت الحامية البريطانية بالخرطوم تتألف من ست فرق مشاة، ومفرزة (detachment) من حامية المدفعية (بكل واجباتها details). وكانت إحدى السرايا تركب الجمال، وهي حيوانات صعبة المراس تعلم وألف ركوبها البريطانيون. وكان الجنود (والسكان المحليون في المديريات المختلفة كذلك) يستمتعون أيما استمتاع بمرور الدوريات القصيرة التي يجريها الجنود كنوع من التدريب وهم على ظهور جمالهم.
بذلت الحكومة كل ما في وسعها لجعل حياة الجندي البريطاني العادي (يعرف تحببا بـ Tommy Atkins ( في ثكنات السودان معقولةً. لم يكن في تلك الثكنات ثمة تدليل (دَلْع)، ولكن توفير لسبل الراحة، دون إفراط ولا تبذير، بل قدر الكفاية. وتقع الثكنات الرئيسة للجيش في مواقع تاريخية صحية وجميلة بالخرطوم على ضفاف النيل الأزرق، وتتكون من مبانٍ كبيرة من الطوب الأحمر. وتم زراعة الكثير من الأشجار الظليلة بها، مما وفر ملجأ مريحا لساكنيها من لهيب الشمس الأفريقية في 300 يوم من 365 يوم في العام. وتم الالتفات إلى حمامات (تومي آتكنز) والعناية بأمرها، فهو قبل شيء "حيوان شديد النظافة". فما يعانيه سكان المناطق الداخلية بالسودان من شح في المياه لا يعنيه البتة ما دام مقيما في ثكناته.
وغرف الثكنات عالية الجدران، وبنيت على نمط بيوت الطابق الواحد bungalow ، وزودت بالإضاءة الكهربائية. غير أن تلك النعمة ثبت أنها كانت سلاحا له حدين. إذ أن ضوء المصابيح الكهربائية كان يجذب حوله أعدادا مهولة من الحشرات المتنوعة الأشكال والأحجام، من الحشرات الصغيرة المزعجة التي لا تكاد تُرى، إلى خنفساء الليل الثقيلة، وغيرها. وفي صباح كل يوم يتم كنس أكوام وأكوام من الحشرات الميتة.
وكانت الحياة في الثكنات ومواعيد الوجبات فيها (مثلها مثل الحصص الغذائية المقننة) منظمة بحيث تناسب طقس البلاد. فوجبة الإفطار تقدم في الخامسة والنصف صباحا، وتتكون من خبز ونوع من المربات، وفي بعض الأحيان تقدم الحبوب أيضا. وتقدم الوجبة التالية عند منتصف النهار، وتتكون من لحم مطبوخ بطرق مختلفة، مع خضروات، وكمية كبيرة من الخبز. أما الوجبة الأخيرة فتقدم عند الخامسة مساءً، وتشمل فواكه معلبة ومربى وغير ذلك. ولم يكن هنالك الكثير من الشكاوى والتبرم من خدمات الطعام بالثكنات، التي كانت يقدمها متعهد يعمل بعقد مع الحكومة، وتحت مراقبة لصيقة من السلطات.
ولا تدع سلطات الجيش جنديها (تومي آتكنز) يقع فريسةً لعادات الكسل وعدم ممارسة الرياضة التي ينميها بسرعة طول البقاء في أجواء شديدة الحرارة. وخلال ساعات النهار والليل الشديد الحرارة في الصيف ينبغي أن ينتبه المرء إلى طعامه وشرابه في بلاد السودان (والهند أيضا). وهذا الأمر شديد الأهمية لمن يقضون سنوات طويلة متتالية في مثل هذه البلدان، ويولونه الجنود عظيم اهتمامهم، إذ أنهم كانوا مدركين لأهمية العودة لوطنهم في صحة تامة، كما خرجوا منه. وليس هنالك من داعٍ للضابط أو الجندي البريطاني أن يجهد نفسه في وزن الكمية التي يأكلها بالأوقية، أو قياس كمية الماء التي يشربها بالجل gill (مقياس للسوائل كان شائعا في بريطانيا قديما. المترجم)، أو أن يأكل هذا الصنف ويدع الآخر، أو يتحاشى طعم هذا النوع أو ذاك. فالجيل الحالي من العسكريين جيل يعيش حياة غاية في البساطة، ويستمتع بها، خلافا للجيل السابق الذين سكنوا الشرق واستقروا فيه. فقد كانوا أولئك النفر – ممن في رتبة اللواء فما دون ذلك - كسالى خاملين، ومنغمسين في الملذات، مما أضر بصحتهم أشد الضرر.
وفرضت السلطات العسكرية السودانية على جنديها (تومي آتكنز) ممارسة حد معقول من الرياضة البدنية، من دون إفراط أو تفريط. فهو يستيقظ عند الساعة الخامسة، ويؤدي التمارين البدنية المقررة من السادسة حتى الثامنة صباحا. وهذا هو كل ما مطلوب منه من فعل بدني عنيف طوال يومه. ويتم بين الساعة العاشرة والحادية عشرة عمل تفتيش للغرف والأسرة والبنادق وحرابها. وكانت السلطات تبدي اهتماما ورعاية خاصة بالجنود في أيام الحر، فتعفيهم من ارتداء السترة العسكرية الثقيلة في أثناء العروض العسكرية.
وكانت مقر القيادة العسكرية في الخرطوم، وهي منطقة عسكرية من النوع الأول، وهنالك مقرات أخرى لها في القاهرة ودنقلا وكسلا والنيل الأزرق (تشمل سنار) وبحر الغزال وكردفان وأعالي النيل ومنقلا. أما مقرات القيادة العسكرية من الطبقة الثانية فكانت في أتبرا والبحر الأحمر وحلفا.
لا بد أن يُؤخذ كل من قضى أي وقت مع الجنود السودانيين بمظهرهم ومخبرهم العسكري الصارم، وطريقة تعاملهم في الأمور كلها. فقد كانوا شديدو الاهتمام بزيهم العسكري، وبمشيتهم المنضبطة، ويقظتهم الدائمة. وكانت ملاءات أسرتهم دوما بالغة النظافة، وأزيائهم مغسولة لا تشوبها شائبة. أما أحذيتهم العسكرية الضخمة فقد كانت دوما نظيفة نسبيا – إذ أن خلو الأحذية، وكل شيء آخر، من الغبار والرمل من رابع المستحيلات في السودان. ولا يبدو مظهر الجندي السوداني مثاليا هكذا في العروض العسكرية فحسب، بل تجدهم في معسكرهم دوما في غاية النظافة، وأوجههم وأيديهم خالية من الأوساخ. وكانت يحافظون دوما على ثكناتهم وخيمهم نظيفة ومرتبة طوال الوقت. وهنالك العشرات من الدلائل على أن الجنود السود كانوا يعشقون عملهم وبالعظمة التي تحيط دوما بالجندية.
وكما كتب شكسبير في مسرحية "كما تشأ As you like it":
"ثم يأتي دور الجندي المُتحرِّق للشرف والشهرة
التي سرعان ما تتبخر بعد أن تكون قد رمت به من فوهة المدفع" (من تعريب ج. يونس).

وكانت الحكومة قد وضعت قيودا صارمة على استيراد الأسلحة النارية أو بيعها. ورغم ذلك تجد بعض الأسلحة طريقها لداخل البلاد عبر الحدود، خاصة مع أثيوبيا. وسيستمر مثل ذلك التهريب ويستفحل أمره حتى تقوم السلطات بزيادة عدد من يقومون بحراسة الحدود وتقوية تسليحهم.
ويسمح للمسؤولين بامتلاك الأسلحة النارية واستخدامها، ولكن ينبغي عليهم أن يحصلوا أولا على رخصة تتيح لهم ذلك. وهذه الرخصة زهيدة الثمن في الغالب. وينبغي الاحتفاظ بسجلات كاملة ودقيقة لكل واردات وصادرات الأسلحة والذخائر التي تدخل أو تخرج من البلاد. وتتم مراقبة كل صانعي الأسلحة ومن يبيعونها مراقبة دائمة ولصيقة. ولم تسجل إلا محاولات قليلة لخرق تلك النظم الحكومية.
وكان بعض الأهالي من رجال الجيش والشرطة يحاولون أحيانا وضع أيديهم على ذخيرة من نوع (.303) عندما تغفل عنها أعين الرُقَبَاء. لذا تبذل سلطات الجيش حرصا بالغا للحفاظ على مثل تلك الذخيرة في حرز أمين (في خِزَن مغلقة يحتفظ ضابط كبير بمفاتيحها). وبحسب النظم الحكومية لا يسمح لغير الأوربيين بامتلاك مثل تلك الذخائر. وأن فقد جندي أو شرطي بعض الذخيرة الممنوحة له، أو لم يستطع تفسير فقدانه لها، فإنه يعاقب على ذلك، أو يطالب بدفع قيمة ما فقده كاملا.
وعلى وجه العموم يعلم المسؤولون في المديريات كم عدد طلقات الذخيرة الموجودة – أو من المفروض أن تكون موجودة - بمناطقهم. وعادة ما يقوم مسؤول بإحصاء ومراجعة عدد تلك الطلقات بصورة دورية وتسجيل أعدادها. لذا يكاد يكون من المستحيل على من يضمر نوايا شريرة أن يحوز على عدد كبير من تلك الذخيرة، حتى وإن كان قد وضع يده على سلاح ناري يستخدم تلك الذخيرة. وكانت الحكومة قد أصدرت أمرا حرمت بموجبه امتلاك أي شخص لأي نوع من الذخيرة سوى تلك التي تستخدم في سلاحه المعين المرخص سلفا.
وكان الجنود السود الذين شاركوا في حملات الجيش في مختلف أرجاء السودان يجلبون معهم نسائهم. ولا أعلم إن كانت السلطات ستستمر في السماح لهم بفعل ذلك في المستقبل أم لا. فالأمر يعتمد أولا وأخيرا على تقدير قائد كل حملة. غير أنه يجب القول بأن أولئك الجنود كانوا يستمدون شجاعة كبيرة وحماسا إضافيا في وجود نسائهم بالقرب منهم وهم يخوضون المعارك. وأكد لي بعض القادة العسكريين البريطانيين أنهم لاحظوا بالفعل أن الجنود السودانيين لا يحاربون بمثل الضراوة والاقدام التي يبدونها عادةً أن لم تكن نسائهم بالقرب منهم. وقد تم ملاحظة مثل ذلك في حرب البلقان مع الجنود البلغار والصرب والقادمين من الجبل الأسود الذين كانوا في رفقة زوجاتهم وأمهاتهم وأخواتهم وحبيباتهم وهم يمضون في مسيرات طويلة ومملة.
ويبدو أن المرأة السودانية تحتل مكانا مختلفا تماما عن نظيرتها العربية أو التركية. فهي، على سبيل المثال، ترفض أن تغطي وجهها أمام الغرباء، وتؤدي أدوارا نشطة في كل شؤون زوجها. وتلعب في غالب الأحوال دور "الشريك المتحكم". ورغم ذلك فإن النساء السودانيات نساء كاملات الأنوثة “womanly” women وشديدات الرقة والحنية والاخلاص لأزواجهن، ويقمن برعاية أطفالهن والسهر عليهم على أكمل وجه. وكن يتميزن عن غيرهن من نساء العرب والأتراك بالكد والاجتهاد في الأعمال المنزلية (إن كن متزوجات) أو عندما يؤدين أعمالهن الخاصة.
ويبدو أن تلك الخصال بدت أوضح ما تكون في غضون سنوات الحرب. فقد رافقهن أزواجهن في مسيرات طويلة تمتد لمئات الأميال، ولأيام عديدة. وكن يبت في عشش بائسة في الصحارى والغابات، وفي الغالب دون حماية من حر النهار القائظ أو برد الليل القارس. وكن يسيرن في مجموعات مع بعضهن طلبا للحماية والرفقة، وهن يحملن على رؤوسهن أغراضهن المنزلية البسيطة مثل القليل من الأواني الفخارية والقرع، وحصيرة صغيرة للنوم عليها، وقربة مليئة بالماء أو بحبات من الذرة. وكن لا يرتدين سوى ثوب من الدمور، يستخدمنه ليلا ونهارا

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء