غيـاب الـرؤيـة والـمشـروع واقتراع الكاريزما
تصاعد وعي الجماهير المساندة للثورة يشكل أعظم ركائز الحكومة الحالية . لكن هذا الوعي نفسه يمثل أحد مصادر الإحباط العام تجاه الحكومة ذاتها. ثمة قناعة غالبة في تدني منسوب قدرة السلطة – حتى الآن-على التجاوب مع منسوب تطلعات الشعب صانع الثورة. هذا السند الجماهيري العارم لا يكفي في الواقع من أجل تأمين استمرارية الحكومة . الثورة باقية لكن الحكومات تتعاقب. الحكومة الأطول عمراً تستمد مشروعية بقائها من إنجازاتها لصالح الشعب على طريق الإنتقال به من المعاناة إلى الخير ومن الجور لجهة العدالة.
من غير المجدي إعادة العزف على تباين الرؤى والمواقف بين السلطة التنفيذية والمجلس الرئاسي بغية تبرير إخفاق الحكومة أو تعثر خطاويها على درب الإنجاز. تلك عقبة موجودة قبل ولادة السلطة التنفيذية ، بغض النظر عما إذا كنا ورثناها أم صنعناها بأيدينا. تلك حقيقة تستوجب على طاقم السلطة كيفية مغالبتها لا الإتكاء عليها .الحكومة لاتزال تتهيب إستثمار سندها الجماهيري الواعي في محاولة مواجهة تلك العقبة أو القفز عليها. هذا التردد أخذ ينهش كتلة السند الجماهيري من الداخل مما أفرز شروخا في ما يسمى بالحاضنة السياسية للسلطة التنفيذية.
نعم ذلك الاستثمارات يمثل خطوة لا تخلو من مخاطر غير أن التهيب من خوضها يراكم طبقة من الخوف تصبح بدورها عازلة بين الحاضر الملتبس والغد المأمول. وجود سلطة تنفيذية عاجزة ، مترددة غير مبدعة ليس غاية في حد ذاته. طابع المرحلة يتطلب حكومة قادرة ، مقتدرة جسورة مبتكرة حاسمة.
بالإضافة إلى ركام الخراب الموروث من الإنقاذ تساهم السلطة التنفيذية في عدم الاتساق داخل حاضنتها السياسية. كل هذا يشكل في مجمله بعضاً من حمولة التحديات الملقاة على عاتق الحكومة.
الرؤية الموضوعية تجافي العقلانية إذا اعتبرت تلك التحديات أعباء يستحيل النهوض بها، ثم الركون إلى نسج المبررات لقعود السلطة .نعم لايمكن تفكيك أزمات ثلاثين من السنين العجاف في غضون شهيرات معدودات. ذلك ليس هوالمرتجى ، لكنما الرهان على سلطة تبدي للجميع إرادة غلابة وعزما سديدا يقنع بإمكانية بلوغها غايات الثورة بعد حين. العقد التلقائي بين جماهير الثورة ووزراء الحكومة الوليدة لا يستوجب غض البصر عن تقاعسهم ، التجاوز عن أخطائهم أو " الطبطبة " على أكتافهم والتربيت على رؤوسهم. بل على النقيض يفرض مساءلة موضوعية فورية.
إذ الدولة تشكل في حد ذاتها غاية من حيث تجسيد كيان الأمة داخل إطار إقليمي وروحها فإن السلطة التنفيذية تمثل دماغ الدولة. فهي المكلفة ببناء مؤسسات وأجهزة ورسم سياسات وتشريعات من شأنها تحقيق الأمن، العدالة، الخير والسلم الإجتماعي. من أبرز مسؤوليات دماغ الدولة زمن التحولات ليس فقط ترسيم القيم العليا بل ترسيخها .القدوة تجسد أكثر الأطر فعالية من أجل نشر وتكريس تلك المثل. المسؤولية تلقي ظلل القدوة على الوزراء والمسؤولين ليصبح المنصب بالفعل تكليفا لا تشريفا.
صحيح يمثل وزير المالية محواً أساسياً داخل كل تشكيل وزاري في غالبية البلاد ، فما بالك تحت كاهل كل أزماتنا الإقتصادية .غير أن صب جام الغضب المحكي والمكتوب على إبراهيم البدوي يكشف نظرة ضيقة . فمشروع الموازنة لا يعكس الوزير منفردا بل خارطة طريق تضامنية من قبل لحكومة بأسرها .فمن غير المنطقي حصر إنتقاد مشروع الموازنة في رجم الوزير وحده بينما هناك وزراء لا يعرف العاملون في حقل الإعلام أسماءهم . بفعل تقاعسهم ليس غير. كما أن المسؤلية تقع على عاتق رئيس الوزراء مثلما هي على الوزير. إذا كان بعض شعبية حمدوك نابعا من مجيئه من خارج الأفلاك الحزبية العتيقة فليدرك أن هذه خاصية ذات حدين سيصبح احدهما لامحالة أقل فعالية ومضاءَ.
لو أن للحكومة خيالا وطنيا لابتكرت مشروعا قدر استطاعتها يجسد قليلا من أحلام الثورة. ثمة قائمة غير قصيرة يمكن إستثمار حماسة الجماهير بغية تحويلها واقعا بدءاَ من اقتراح أستاذنا محجوب محمد صالح الهادف جعل العام سنة للإنتاج وصولا إلى حملة تجعل الخرطوم مدينة تليق بعاصمة نظيفة ليس أكثر .مثل هذه المحاولات لاتطفو على المخيلة الرسمية في ظل الهوة بين الحكومة والرأي العام .الأفضل من ترديد كل شعارات الثوار تكريس الجهد الرسمي والشعبي من أجل ترجمة بعضها واقعا على الأرض.
على السلطة التنفيذية الإعتراف بإنكفائها على ذاتها وبتغليب الأداء الفردي. كما الإعتراف بعجزها أو ربما عدم رغبتها في الإستثمار في الفضاء الإعلامي. أكثر أهمية عليها مراجعة استراتيجيتها بحيث تركز على تصحيح مسارات سياساتها الداخلية قبل الرهان على تصحيح مسارات السياسة الخارجية .هاتان جبهتان لم يطرأ على قسماتهما الإنقاذية أي طارئ جوهري يبشر بتفكيك الأزمات إذ لا نزال نضع العربة أمام الحصان. ازالة التمكين لاتعني فقط إزاحة الإنقاذيين عن مواقع سلطة القرار .أبعد من ذلك تستهدف محو العقلية المتمكنة في تلك المواقع .نحن لا نزال نتوغل داخل فخاخ تلك العقلية بدليل الإتجاه لتكريس المحاصصة في دولاب الخدمة المدنية بعد هيكل الدولة السياسي. الأسوأ من ذلك أننا لانزال مفتونين بتنصيب القيادات الفردية بدلا عن تكريس مؤسسات الدولة ، حتى إذا لما لم نجد كاريزما شاخصة الحضور إقترعناها.
aloomar@gmail.com