عَـن “التمكيـن”: صُـوَرٌ طافـتْ بِذهْـنِي

 


 

 

 

 

(1)

ما الذي طاف بذهني وأنا انصت لقرارات لجنة إزالة التمكين عن وزارة الخارجية ..؟
رأيتُ مثلما يرى النائم مُعلّمي الذي درسني اللغة والأدب الإنجليزي في مدرستي الثانوية، محمد عثمان بابكر ، بملامحه الهادئة وشاربه الكث وصوته الرخيم . بعد أن هجر التدريس والتحق دبلوماسياً بوزارة الخارجية. إلتقيته في ديوان الوزارة وهو في درجة الوزير المفوض وأنا في درجة السكرتير الأول. بيني وبينه درجة أو درجتان، ولكن هو معلمي الذي كدتُ أن أراه رسولا ، على قول أمير الشعراء. فارقته أنا منقولاً إلى سفارة السودان في الصين . عدت في أواخر الثمانينات لأراه يغادر الوزارة ممسكاً بخطاب ليس فيه غير سطرين يتيمين: بهذا قد تقرر إحالتكم إلى الصالح العام. . ! شاربه الكث أكسبه لقبا أطلقه عليه أبناء دفعته في الجامعة : "ستالين".
ولعلّ جلاوزة النظام الإسلاموي الجديد، لم يعجبهم لقب الزعيم الشيوعي القديم يطلق على دبلوماسيّ سوداني، فأحالوا معلمي محمد عثمان إلى التقاعد القسري. بعد أشهر قليلة وقد كتم معلمي غيظه للظلم الفادح، أسلم الروح وغادر الفانية بداء القلب. قتله "الإنقاذيون" بدمٍ بارد..
جاء إلى بيروت موظفٌ سودانيٌّ ألحق بمكتب صندوق النقد الدولي في لبنان ، وأنا سفير للسودان في ذلك البلد. حين جاء يزورني رأيت ملامحاً ليست غريبة على عينيّ. قدّم لي نفسه ، قال لي : إنني ابن زميلكم في الخارجية المرحوم محمد عثمان ابكر. . حبستُ دمعة عصتْ علي وأنا أرى ملامح معلمي القديم ومعلمي في الدبلوماسية، تطلّ عليّ بعد كلّ هذه السنوات ، من وجه فتى شاب. .

(2)
صورة ثانية طافتْ بذهني وأنا أنصتُ لقرارات لجنة إزالة التمكين من وزارة الدبلوماسية .
رأيتُ نفسي كما يرى النائم، في تلك الساعة الأخيرة من يوم العمل وأجواء الصيف طاغية وإن كنا في موسم شتاء، هبطتُ على الدرج من إدارة التعاون الثقافي وأنا نائب مديرها مكتبي في الطابق الأول، وحللت بمكتب صديقي المستشار محمد آدم عثمان. قبل أن أفيده بما سمعت في الردهات عن خطابات إعفاءٍ تسلّم لبعض الدبلوماسيين من الوزارة ، فاجأني محمد أنه تسلم خطاباً في المعنى وأنه مغادر وزارته المغادرة النهائية. لم أصدق أن يغادر صديقي الوزارة التي أعطاها جزءاً من عمره في سفارة السودان في الكويت وفي مندوبية السودان في نيويورك .
في مساء ذلك اليوم ، كنتُ عند صديقي في بيت أصهاره بأم درمان، ولم أجئه حزيناً أشاطره حزنه على الظلم الذي حاق به، بل كنت حانقاً غاضباً ، ولكني في عجزي لم أملك غير دمعة أخفيتها عن صديقي ، وهو يقول لي : ترى أيّ مهنة أخرى جديدة أمتهنها بعد سنواتي في الدبلوماسية ، وأنا أستهل الآن رحلة لتأسيس أسرتي الصغيرة، وقد تأهلت قبل أشهر قليلة. . ؟
إستقرّ صديقي موظفا في سفارة عربية في كوريا الجنوبية، أقام هناك لأكثر من عقدين ، سفيراً للسودان غير مفوّضٍ وبلا أوراق اعتماد رسمية، في بلد منحه حق المواطنة الفخرية، تقديرا لما قدم لتلك البلاد. ويبقى السؤال : لماذا يعمل "الإنقاذيون" على تشريد خبرات البلاد الدبلوماسية ، فترى البلدان الأجنبية التي احتضنتهم بهاء منجزاتهم ، ولا تراها بلادهم. . ؟

(3)
صورة ثالثة طافتْ بذهني رأيتُ فيها صديقي السفير محمد أحمد ميرغني. والذي كنت محظوظاً إذ عملت معه في مندوبية السودان في الجامعة العربية حين انتقلت الجامعة بعد "كامب دافيد" إلى تونس. كان سفيرنا وقتذاك هو الراحل موسى عوض بلال، ونائبه في المندوبية هو سيدي أحمد الحردلو. كنا نتنفس هواء الدبلوماسية المنعش فتمتليء الرئات بتجاريب عميقة لوزير سابق واسع الأفق، ولدبلوماسي شاعر رقيق في الغد الذي لاقيناه فيه، بعد مجموعته الشعرية "غداُ نلتقي". كان سيدأحمد قد أصدر ديوانه الأوّل ذاك في قاهرة المعز، وأحببنا قصائده الجميلة. حين انتهت مهمته في اليمن وتم ترشيحه بعدها سفيراً للسودان في براغ، سلموه خطاب إحالته للتقاعد للصالح العام قسرياً، بدل أن يسلموه أوراق اعتماده لرئيس تشيكوسلوفاكيا وقتها. . !
لعلّ ذلك الغبن الذي لحق بنفسه الشاعرة أفضى به إلى علة لم تفارقه حتى رحل. .

(4)
صورة رابعة تجيء إلى الخاطر، مثلما تجيء القصص الخيالية.
إنها قصة صديقي محمد أحمد ميرغني أو "لورد مورجان"، وذلك لقب ناله عن استحقاق في فترة عمله بسفارة السودان في لندن. حين عملتُ مساعداً له في تونس كان وقتها في درجة الوزير المفوض . رأيته في تحمله المهام الدبلوماسية وفي الملمات، كما الأنبياء في التجمّل والصبر على حمل الرسالة.
حين قابلته أوائل التسعينات من القرن الماضي ، كان قد عاد من بغداد وقد عمل فيها سفيراً لأعوامٍ أربعة. كافأه ضمن ذلك التقديررئيس العراق بوسامٍ وأهداه مسدساً ذهبياً . حين حلّ بمطار الخرطوم، صادر رجال أمن "الإنقاذ" ذلك المسدس حين رصدوه بين أمتعته، ولم يقبلوا شرحه لهم أن ما صادروه هو هدية من رئيس دولة عربية تقديراً لعمله سفيراً لدى بلد ذلك الرئيس.
رأيتُ مثلما يرى النائم غير مصدّق صديقي "لورد مورجان" وقد طردوه من وزارة الخارجية بخطاب إحالةٍ للصالح العام، يقود سيارة أجرة في شوارع الخرطوم بحري . لم يكن "لورد مورجان" يملك غير سيارته الصالون "المازدا" التي حولها لتاكسي ليعتاش منها، وليعفي أسرته من عيشة الكفاف. .

(5)
صورة خامسة طافتْ بذهني عن سنوات الغبن وظلام "الإنقاذ" وعمّن ظلموا.
سفيرٌ نبيلٌ إسمه عمر شونة. عاد من آخر بعثة رأسها في تركيا، ولأنه لم يكن "إسلاموياً" وفق مقاييسهم، فلم يحظً برضا وزير خارجية السودان الذي طال بقاؤه في تلك الوزارة لعقدٍ كامل. كان مصطفى عثمان هو وزير "الحزب" المدلل عند شيخه، وليس وزيراً لخارجية وطن. لحقتْ العلّة بالسفير عمر، وبلغتني رسالة بعث بها إلينا نفرٌ من أصدقائنا بالوزارة ، تطلب منا بيانا بتكلفة لعلاجه في بريطانيا كنت أشغل وقتهامنصب نائب رئيس البعثة في لندن .
كان من الطبيعي أن تتولى الوزارة عون الرجل وقد أخذ داء السرطان يداهم خلايا جسمه. بعثنا بتقييم رسمي من مشفى لندني تتعاون معه السفارة هناك، بتكلفة مبدئية لا تقل عن ستين ألف جنيه استرليني.
بلغني وأنا في لندن أن الملف وصل مكتب ذلك الوزير الذي لا يزال على عدم رضاه من السفير عمر، وأنه وافق على دعم علاج ذلك السفير النبيل بألفين وخمسمائة دولار هو أعلى سقف يصرف من صندوقٍ خصّص لمساعدة كبار موظفي الدولة ويدار من القصر الرئاسي.. ! حدثني من كان شاهدا أن الملف جاء بتلك الموافقة المهينة للسفير عمر، فأمسك السفير النبيل بذلك الملف وقذف به إلى سلة المهملات تحت مكتبه.
قدمتُ في إجازتي السنوية من لندن، وذهبت للعزاء في رحيل السفير النبيل عمر شونة. أمسكت عليّ دمعتي فقد أيقنت أن الأكثر فتكاً من السرطان ، هو الغبن وظلم الإنسان لأخيه الإنسان. .

(6)
طافت بخاطري صورة سادسة لسفيرٍ مُعـلّـم ، وهو سفير إبنُ سفير من مؤسسي الدبلوماسية السودانية. إنه السفير محمد عزت بابكر الديب. لم أعمل معه في إدارة أو سفارة، لكنه كان الأقرب إلى قلوبنا ونحن دبلوماسيون جُدد ندلف إلى مكاتب وزارة الخارجية عام 1975 ، ولم نكن في يفاعتنا تلك على دراية حتى بإحكام الربطات على أعناقنا. .!
جئتُ بعد تقاعدي أزور مكتباً أنشأه سفيرٌ صديقٌ هو رحمة الله محمد عثمان، وكان وقتها يشغل منصب الوكيل في وزارة الخارجية. أراد الرجل أن يكون ذلك المكتب مكاناً يتلاقى فيه السفراء المتقاعدون، وأنا واحد منهم. تقاعدتُ ولم يمهلني "الإنقاذيون" لأكمل فترتي سفيراً في لبنان لسنواتٍ أربع كما درج التقليد، فأحالوني ولي عامان في ذمتهم. . !
جلستُ في ذلك المكتب، فإذا بالسفير النبيل عزت بابكر الديب، يدلف إلينا في مفاجأة لم يتوقعها أحد منا. . هبّ الجميع للقائه مرحبين. قال الرجل :
- هي المرّة الأولى التي تطأ فيها قدماي وزارة الخارجية بعد أن خرجت منها إثر أحالتي إلى التقاعد القسريّ، قبل عشرين عاما ونيف. دعاني إبني رحمة الله، وقد كان مساعدي وأنا سفير في بلغراد، ولا أملك أن أرد له طلبا. . !

(7)
حبستُ دمعة وأنا أحتضن السفير الذي استقبلنا في وزارة الخارجية، لمّا كنا سكرتيرين ثوالث مرحبا بنا في منتصف سبعينات القرن الماضي، فإذا نحن في عام 2012 أمام هيبته التي نعرف منذ ذلك الزمان ، سفراء متقاعدون وقد وّخط الشيب الرؤوس وتقوّست الأرجل وانحنت الظهور فينا.
طاف السؤال بخاطري ولم تطف الصورة وحدها : لماذا فعل "الإنقاذيون" فعلهم في إبعاد ذلك السفير النبيل المطبوع. .؟
بعد أشهر قليلة زرناه وهو طريح سرير المرض بـ"مستشفى ساهرون"، وفي قلبه غصّة لا تزال ، لكنه - ومن زيارتنا له- قابلنا بحنوٍّ دافقٍ وكاد أن ينسى ذلك الظلم غير المبرّر الذي أطاح به من ساحة الدبلوماسية السودانية التي أعطاها عمره.
كسا مُحيّاه ابتسامٌ وهو يرانا نتحلّق من حول سريره الأبيض. بعد أسابيع قليلة، رحل السفير محمد عزت الديب، ودموعنا عليه لن تجفّ أبداً.

(8 )
لا أعرف إلى متى تظلّ تؤرق منامي مثل هذه الصور المرهقة . ترى هل تشفني ما اتخذت لجان تفكيك "التمكين" الإسلاموي من قرارات فتفتكّ من ذاكرتي ما لحق بها من صورٍ شائهة مؤلمة ، أم أن عليّ أن استعيدها كلما رأيتُ أو قرأتُ من يدعو للتخفيف من قرارات إزالة "التمكين" تلك. . ؟
إن "التمكين" في بعض صوره التي عشناها ولمسناها في وزارة الخارجية، لتكاد أن تُحدّث عن جرائم قتلٍ بسبق إصرار واغتيالٍ بدمٍ بارد. .

الخرطـــوم - أول مارس 2020

 

آراء