حول المسائل الدينية في العشرين عاما الأولى من الحكم الثنائي بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذه ترجمة لما جاء في الفصل الخامس والعشرين من كتاب (السودان في طريق التطور Sudan in Evolution) الذي صدر بلندن في عام 1921م عن دار نشر كونستابل وشركاه Constable & Company ، لمؤلفه البريطاني بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin )1861 – 1941م). ويتناول هذا الفصل طرفا من تاريخ الأديان بالسودان في العشرين عاما الأولى من حكم الاستعمار الإنجليزي – المصري. من المقالات المترجمة ذات العلاقة بمسألة الأديان بالسودان في عهد الاستعمار الإنجليزي – المصري يمكن النظر في مقال مترجم لبروفيسور جون فول بعنوان "البريطانيون والعلماء والاسلام الشعبي في بَوَاكِير عهد السودان الإنجليزي – المصري" نشر عام 1971م في العدد الثاني من "المجلة العالمية لدراسات الشرق الأوسط" https://www.sudaress.com/sudanile/108495 وهناك مقال آخر لهيذر شاركي مترجم بعنوان "مسيحيون في أوساط المسلمين" http://www.sudanile.com/56391 المترجم ******* ****** ****** كان الأب اليسوعي شارلس زيفيرس دي بريفيندت هو أول رجال التبشير الكاثوليكي الكنسي الذين قدموا الى السودان (الذي كان يعرف بإمبراطورية اثيوبيا) في رفقة الطبيب الفرنسي بونسيه (Poncet)، الذي كان يمارس الطب بالقاهرة. وفي عام 1698م استدعى امبراطور اثيوبيا دكتور بونسيه ليعاجله من داء خطير ألم به. ويجدر بنا أن نذكر هنا أن الأب دي بريفيندت توفي بمرض الزُحار (الدسنوتاريا) بعد أن كاد أن يبلغ مقصده، تماما كسميه القديس فرانسيس زيفيرس (1506 – 1552م) الذي توفي بالصين بعد أن كاد أن يبلغ المكان الذي كان ينوي تنصير سكانه. وأتى دكتور بونسيه في كتاب صغير له بعنوان (رحلة إلى إثيوبيا* A Voyage to Aethiopia) على ذكر السكان فكتب ما ترجمته: "السكان الذين صادفتهم في هذا الوقت يدينون بالمحمدية إلا أنهم لا يعرفون عنها إلا أبسط العموميات التي يكتفون بتردديها في كل مناسباتهم. وما يثير الأسف والحزن بالفعل، وجلب الدمع لعيني رفيق رحلتي الأب بريفيندت هو أن ذلك البلد كان يدين بالمسيحية إلى حين وقت قصير قبل الآن، وأن الناس هنا لم يهجروها بالكلية، ولكنهم كانوا يفتقدون من يمتلك الحماس الكافي ليكرس نفسه لتعليم وإرشاد هذه الأمة المنسية المهملة. وأثناء طوافنا في مناطق البلاد المختلفة رأينا الكثير من الصوامع والكنائس وهي شبه مهدمة." *ألف دكتور بونسيه كتاب (رحلة إلى أثيوبيا) في أعوام 1698 – 1700م، وفيه وصف لتلك الإمبراطورية المشهورة، وأيضا ممالك دنقلا وسنار، وجزء من مصر. وكانت إثيوبيا في ذلك الزمان إمبراطورية مسيحية الديانة. ووصف دكتور بونسيه سكانها في ذلك الزمان (أي في 1700م) بأنهم "شديدو التعلق بديانتهم"، وكانت الاحتفالات المسيحية التي تقام بها ضخمة ومهيبة رائعة. ووصف لنا دكتور بونسيه القداس الذي أقيم بقوندار في عيد صعود السيدة العذراء للسماء وصفا مفصلا يثبت أنه كان حقا احتفالا غاية في الفخامة والبهاء والجلال. وكان أباطرة إثيوبيا الأتقياء يطلقون على أنفسهم رسميا لقب "يسوع امبراطور اثيوبيا، من قبيلة يهوذا، الذي ظل دوما يهزم أعداءه". وذكر دكتور بونسيه في كتابه إنه عند زيارته لملك سنار شهد تنفيذ عقوبة على مجرم، وكتب – في سذاجة – أن الرجل "كان من سوء حظه أن تخلى عن عقيدته المسيحية قبل ذلك وأعتنق المحمدية". ووصف العقوبة كما يلي: "أخذوا بالمجرم وطرحوه أرضا، وانهالوا على صدره بهراوات غليظة إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة. تلك كانت الطريقة التي عُومل بها الرجل الإثيوبي، واسمه جوزيف، في أيام وجودي في سنار". لقد أقيمت أول إرسالية كاثوليكية بالسودان في 1846م، واستمرت في العمل، بصورة رئيسة في الخرطوم، حتى قيام دولة المهدية، التي أوقفت نشاط تلك الارسالية مؤقتا. وكان هنالك قس اسمه الأب جوزيف أورفالدر يعمل في الإرسالية الكاثوليكية بالدلنج (في كردفان). كان ذلك القس قد بدأ رحلته للسودان في 1880م، وبلغ سواكن في الرابع من يناير 1881م.ومنذ لحظة وصوله الأولى واجه الكثير من المشاكل والاضطهاد. وكان الأب اليوس بونيفيني حينها هو رئيس الإرسالية الرومانية الكاثوليكية، بينما كانت للكنيسة مطرانها الخاص (هو دكتور كمبوني)، قبل نحو 35 عاما قبل تعيين دكتور قويين مطرانا للكنيسة الأنغليكانية. وكان دكتور كمبوني قد توفي في العاشر من أكتوبر عام 1881م، أي قبل وقوع الأحداث الفظيعة التي صاحبت حركة المهدية. وأسر المهدويون الأب أورفالدر، ودمروا الارسالية الكاثوليكية. ولاقى القساوسة والسيسترات وهم تحت أسرهم مصيرا فظيعا لا نظير له إلا ما فعله البلاشفة الروس (لاحقا). ومن هؤلاء نذكر جوان ديل، وفرانز بيمازوني وجوزيف روقونتو، والأخوات أندريس وكورسي جنكارني وبيسافنتو وفينتوريني. ومع عودة السلام للسودان في 1898م، عاد العمل التبشيري (الكنسي) للعمل بالبلاد. وتعمل الآن (1919م) أربع ارساليات مختلفة هي الجمعية الكنسية التبشيرية، والارسالية الرومانية الكاثوليكية (النمساوية)، والارسالية المشيخية Presbyterian (الأمريكية والأسترالية الآسيوية)، والارسالية المشيخية (الأميركية). وقامت حكومة السودان بتوزيع أماكن عمل تلك الإرساليات في مناطق مختلفة وواسعة بالبلاد بصورة محددة، ومنعت تداخل الطوائف الدينية في أي منطقة واحدة، والتبشير في أي منطقة سبق منحها لجمعية تبشيرية أخرى. وعلى الرغم من أن شارلس غردون كان قد أقترح في سنوات ماضية (مثلا في 1878م) التوسع في التبشير (الكنسي) في السودان، إلا أن الحكومة لم تقدم رسميا يد العون للجمعيات والكنائس التبشيرية فعليا إلا في عام 1904م. وكان لورد كرومر (القنصل البريطاني بالقاهرة في تلك الأيام) قد أرسل خطابا إلى الجمعية الكنسية التبشيرية يخبرهم فيه بمنحهم مساحة من الأرض تبلغ 70,000 ميلا مربعا للعمل في التبشير الكنسي في وسط سكانها. وكتب لهم ما نصه: "ترحب حكومة السودان بتعاون الارساليات التبشيرية في العمل معا من أجل التمدين". وكانت الجمعية الكنسية التبشيرية حريصة على كسب بعض المال من تلك الفرصة الذهبية، فسارعت بإرسال نداءات تطلب فيها تبرعات مالية من الخيريين وأصحاب الأعمال وغيرهم. وتمكنوا في أكتوبر 1905م من جمع ما يكفي من أموال لإرسال مجموعة من العاملين بها للسودان، جهدوا في عمل شاق ومتواصل في سبيل تحقيق الأغراض التي أرسلوا من أجلها. وكان على رأس تلك البعثة التبشيرية رَئِيسُ الشَّمَامِسَة (الآن المطران) قويين، والقس أ. شو، الذي تولى قيادة عمل الارسالية منذ عام 1908م. ولم تقنع حكومة السودان بمجرد تقديم التسهيلات للإرساليات وتركها تعمل بمفردها بالطرق التي تناسبها؛ بل قرر الحاكم العام (سير اف. ريجلاند وينجت) متابعة عمل تلك الارسالية وتقدم كل مساعدة ممكنة لها، وحثها على تقديم خدمات للأهالي إضافة للتعليم الديني. وفي عام 1911م كانت عدد كنائس الجمعية الكنسية التبشيرية لا يتعدى ثلاثة، ولم تضم إلا عاملا واحدا. ثم أتى للبلاد ثلاثة قساوسة للعمل مع ما أتوا قبله في عام 1908م، وبذا صار عدد القساوسة بالجمعية ستة، جميعهم من الشباب المتحمس. وقاموا بمن وصلهم من مدد بالتوسع خارج منطقة ملكال (التي تبعد نحو ألف كيلو من الخرطوم، وأقيمت بها أول إرسالية) وأقاموا في محطات أبعد مثل محطة لاو (Lau) وهي قرية تقع بالقرب من رمبيك، وتبعد نحو 150 ميلا إلى الشمال الغربي من المحطة القديمة. ولم يتوقف التقدم في الارساليات الكنسية عند هذا الحد، بل تمت إضافة شخصين آخرين إلى العاملين بالإرسالية. وافتتحت في يناير من عام 1913م محطة جديدة في يامبيو (منطقة الزاندي) بالقرب من الحدود مع الكنغو الفرنسي، على بعد 300 ميلا من النيل. والمحطات المذكورة هي كل ما شيدته الجمعية الكنسية التبشيرية حتى تاريخ كتابة هذه السطور (1919م). أما الإرسالية الرومانية الكاثوليكية فقد كانت قد أفتحت لها محطتي تبشير في اول (Lul) وتونقا (Tonga) في منطقة الشلك، ولاحقا في الدلنج بجبال النوبة. وبدأت في خلال السنوات القليلة الماضية بسنار (على النيل الأزرق) وفي بعض مناطق مديرية كردفان الواسعة بعض الأعمال التبشيرية القليلة. ففي كردفان كانت الإرسالية النمساوية قد افتتحت لها محطة في عهد الحكم المصري – التركي. وقفلت بعد سقوط ذلك النظام، ولم تفتح مرة أخرى. وأقيمت في منقلا محطة جميلة بناها عمال من الدينكا. وكان من المقرر بناء مدرسة في لوكا (Loka) غير أن فشو مرض النوم في المنطقة جعل ذلك مستحيلا، فهجرت الفكرة. وكان الأمريكيون قد بذلوا جهدا كبيرا على مدى خمسين عاما في مجال العمل التبشيري بمصر – ويمكن أن نقول بكل ثقة أن أكثر الارساليات التبشيرية التي أحدثت نتائج كبيرة في ذلك القطر كانت هي الارساليات الأمريكية. فقد أنشأت العديد من المدارس المسيحية الأولية والوسطى والثانوي، وأقامت كذلك كلية في أسيوط بها ما لا يقل عن 700 طالبا. وكان مجموع طلاب كل المدارس الأمريكية المسيحية بمصر ما يزيد عن 17,000 طالبا، كان منهم نحو 4,000 يدينون بالإسلام. وأقامت الكنيسة المشيخية المتحدة في أمريكا الشمالية عدة مؤسسات تعليمية وتعبدية في الخرطوم وفي ربوة دوليب الواقعة على نهر السوباط. وتقول هذه الكنيسة أنها عالجت في كل محطاتها 10,000 حالة مرضية في عام واحد. ولم يكن العلاج في كل تلك الحالات مجانا، إذ أن الكنيسة تحصلت نظير علاج بعض الحالات على مئتين من الجنيهات الإسترلينية (تعادل ألف دولار أمريكي). وكانت كل أعمال الأمريكيين في السودان تتم تحت إشراف الكنيسة المشيخية المتحدة بشمال أمريكا وجمعية البعثة المعمدانية الأمريكية. وكانت أكثر نشاطهم في الخرطوم بالطبع. وكان السودان الإنجليزي – المصري واحدا من أربعة مكاتب لرؤساء الشَّمَامِسَة (Archdeaconries) في أبرشية المطران الأنغليكاني في القدس. وكانت المكاتب الثلاثة الأخرى في فلسطين وقبرص ومصر. وكان أول مبشر من كنيسة إنجلترا يأتي للسودان هو الأب ليولين هنري قويين، الذي بعثت به جمعية الإرسالية الكنسية في 1899م ليبدأ عمله في أم درمان. وكان مقدم ذلك الأب بُعَيْدَ المعركة الشهيرة التي وقعت في الثاني من سبتمبر من عام 1898م، وكسرت شوكة المهدويين في السودان، ومهدت الطريق لبث الأمن والهدوء وتعمير البلاد التي لطالما عانى أهلها البؤساء. ولم تحرز تلك البعثة الارسالية الكثير من التقدم في عملها التبشيري إذ أن حكومة السودان كانت تمنع الإرساليات التبشيرية من العمل في أوساط المحمديين، وهي محقة في ذلك، إذ أن هؤلاء كانوا لا يزالون شديدي التعصب في الأمور الدينية (للمزيد عن هذه النقطة يمكن النظر في النشرة الدورية للمجلس المسيحي للشرق الأدنى - الذي يضم مصر والسودان والحبشة وشمال أفريقيا والبلقان- صدرت في ديسمبر 1930م، بقلم القس الأميركي جورج أ. سواش http://www.sudanile.com/98052. ومقال هيذر شاركي المترجم بعنوان "مسيحيون في أوساط المسلمين" والذي ذكرت فيه أن الجمعية الكنيسة التبشيرية التي حلت بالخرطوم بعد عام واحد فقط من دخول الاستعمار البريطاني – المصري للسودان (أي في عام 1899م)، لم تفلح إلا في تنصير فرد مسلم واحد بعد ستين عاما من العمل التبشيري النشط. المترجم). ومن جانب آخر، قدمت حكومة السودان العون والتشجيع للإرسالية لتدريس المسيحية للبريطانيين والمسيحيين الآخرين. وقد قامت تلك الارساليات بذلك الواجب على أكمل وجه ممكن. وفي نهاية عام 1904م أثمرت جهود تلك الارسالية عن تقدم عظيم في مجال الدعوة والخدمات مما دعا لإرسال قسيس آخر للسودان، وسرعان ما بعثت بثالث ليسهم في دفع مسيرة العمل التبشيري. وعندما حولت رئاسة السكة حديد من حلفا إلى أتبرا في عام 1906م، شيدت الارسالية مبنيً صغيرا من الحجر في أتبرا. وفي ذات العام غدت بورتسودان هي الميناء الرئيس للبلاد، فقامت الارسالية ببناء مبنى آخر لإقامة الصلوات به في تلك المدينة أيضا. وأفتتح المبنيان في نفس العام (1906م). وفي العام التالي زيدت أعداد الموظفين الكنسيين مما مكن أعدادا أكبر من رجال الدين من زيارة غالب الأماكن التي يقطنها مسيحيون بروتستانت. وفي عام 1908، تم ترفيع مكتب رئيس الشَّمَامِسَة (Archdeaconry) إلى مرتبة اسقفية مساعدة (Suffragan Bishopric)، ومرة أخرى تم اختيار دكتور قوين ليشغل ذلك المنصب. وشرع في بناء كاتدرائية حتى قبل انتظار صدور أمر بإنشاء أبرشية. وفي تلك الأيام بدأت الصلوات تقام في كنائس (صغيرة) في ود مدني (بمديرية النيل الأزرق) والأبيض (بمديرية كردفان). وفي يناير من عام 1912م أكتمل العمل بكاتدرائية الخرطوم بصورة تسمح بإقامة الصلوات فيها، وأقيمت بها صلاة خاصة أداها الاساقفة الأنغليكانيين في كل من الخرطوم ولندن وشيسيستر. وكان من ضمن الأساقفة الذين شاركوا في تلك الصلاة الخاصة الأسقف القبطي، ومطران القدس، ومطران سانت بول في الصحراء، ومطران غوجام (في شمال غرب إثيوبيا). وكان دكتور لويلن هنري قوين قد ولد في عام 1863م، وكما يدل اسمه فهو رجل ويلزي الأصل، مولود في كيلفري بالقرب من مدينة اسوانزي. وعُين وهو في سن الثالث والعشرين في وظيفة مشرف في مدرسة بمدينة داربي اسمها مدرسة "القديس تشاد" التابعة لكنيسة إنجلترا. وبعد أن قضى بتلك المدرسة ثلاثة أعوام، انتقل إلى مدينة نوتينجهام ومنها إلى امانويل، التي عين فيها قسا في 1892م. وبعد سبع سنوات سافر للسودان للعمل مبشرا. وفي عام 1905م صار أسقفا مساعدا، ثم أسقفا بالكنيسة الأنغليكانية بالخرطوم في عام 1908م. وعمل في ذات الوقت مساعدا للأسقف في القدس. وتم بعد ذلك فصل الأسقفية في مصر والسودان، بعد الحصول على منحة وتبرعات مالية من جهات كنسية بإنجلترا. وأظهر دكتور قوين في أداءه بكل الوظائف التي تقلدها (رئيس شمامسة بسيط في البدء، ثم أسقف للكنيسة الانجلاكينية بالخرطوم) تعاطفا شديدا ولباقة فائقة، خاصة عندما عمل بنجاح ولسنوات طويلة في غضون سنوات الحرب في منصب قسيس – عام للقوات المسلحة. وكان محبوبا في وسط دائرة السودان الصغيرة المسالمة بسبب رقة طبعه ودماثة خلقه، وأيضا نبل مقاصده. ولا يمكن لأحد أن ينعم بالحديث مع هذا المسيحي المخلص دون أن يعجب بفردية قلبه (Singleness of heart) وبساطة شخصيته، وهي صفات تضفي كرامة هادئة على منصبه الرفيع (والمستحق) في الكنيسة. فالرجل عالم جيد وواعظ مؤثر، وفعل الكثير لخلق علاقات ودية مع البعثات التبشيرية الأخرى العاملة بالسودان، وكانت علاقته برجالها كأفضل ما تكون. وبالإضافة إلى الفوائد الروحية التي جلبتها كنيسة إنجلترا إلى مئات عديدة من النساء والرجال البريطانيين المسيحيين الذين أتي بهم القدر في تلك السنوات إلى السودان الإنجليزي – المصري، فقد قامت هذه الكنيسة بعمل محمود في أوساط أعداد متزايدة من الأهالي. فقد أنشأت مدرسة للبنات في الخرطوم، وأخرى في أم درمان يُدرس فيهما الكتاب المقدس (العهد القديم والجديد) للطالبات، إلا إذا أعترض على ذلك الآباء (وهم مسلمون في الغالب). ويقال بأنهم نادرا ما كانوا يبدون أي اعتراض على تلقي تلك الدروس. وهذا يدل على روح تسامح لافت للنظر. وقابل الأسقف قوين في عام 1907م بعض ضباط الجيش المصري في أتبرا وطلبوا منه العمل على فتح مدرسة إرسالية في مدينتهم الصغيرة لأولادهم. وافتتحت مدرسة مماثلة في واد مدني، وكانت تتيع للأسقفية بحسب التنظيم المتبع فيها. غير أن الجمعية الكنسية التبشيرية لم يكن لديها من الأموال ما يمكنها من تمويل تشييد تلك المدرسة وتسيير العمل بها. وبالإضافة إلى المدارس، التفتت الجمعية إلى العمل الطبي في أم درمان، وفي بعض المحطات على النيل الأبيض وفي غرب السودان. وكان للكنيسة الاغريقية وجود بارز في السودان. ويوجد كثير من أعضائها، ليس في الخرطوم وحدها، بل في سائر مناطق البلاد. وشيدوا لهم كنائس جميلة في كل المناطق التي تجمعوا فيها. ووصف اللورد كرومر الأغاريق في مصر (التي يوجد بها نحو 38,000 منهم) وفي السودان أيضا، بأنهم "حملة مشعل ضخم للمدنية والتحضر في البلد الذي تبنوه وطنا لهم". وتمتلئ الكنيسة الاغريقية بالخرطوم دوما بالمصلين. ويجود أثرياء الجالية الإغريقية بالكثير من المال لتمويل نشاطات كنيستهم. وأقيمت في بورتسودان كنيسة صغيرة (ولكنها جميلة جدا) للأرثودوكس. وهنالك أيضا كنائس لهم في مدن أخرى بالسودان. ومن الطوائف المسيحية الأخرى بالسودان هما الأقباط والأحباش – وهم من الطوائف الأقرب للأقباط – والسوريين. والسوريون يتبعون لكنيسة إنجلترا والمشيخية الأميركية. ويوجد أكثر من ستمائة مسجد بالسودان، في الخرطوم وكثير من مناطق المديريات. وغالب هذه المساجد مبانٍ عامة، والقليل منها مبانٍ خاصة. وأكثر هذه الصروح (الخاصة) موجودة في مديرية دنقلا. أما أجمل المساجد طُرّاً فتوجد في مدينة الخرطوم. ولم تكن ببحر الغزال وأعالي النيل ومنقلا أي مساجد قبل عام 1906م. وقامت الآن مبانٍ مؤقتة (لمساجد صغيرة) في الرنك وكدوك (بأعالي النيل) يستخدمها كبار التجار من الدناقلة والجعليين. وبُني الآن جامع بالحجر في مدينة واو عاصمة بحر الغزال. أما في منقلا، فلا يزال المحمديون (وعددهم فيها قليل) بلا مكان محدد يقيمون فيه صلاتهم جماعةً. وأقيم في الأبيض قبل فترة قصيرة جامع جميل المنظر، بني بكتل خرسانية. وقدمت حكومة مديرية كسلا مساعدة مالية لبناء جامعين صغيرين في كل من القضارف والقلابات. أما في بربر فقد بُنيت في غضون عام واحد ستة مساجد صغيرة. أما أجمل الجوامع معمارا بعد الجامع الكبير بالخرطوم فقد بني حديثا في مدينة بورتسودان. وأثبتت الحكومة مجددا أنها لبرالية التوجه، فقد تحملت كل نفقات تشييد ذلك الجامع، التي بلغت آلاف الجنيهات. وتوجد بسواكن الآن العديد من المساجد، إلا أن معظمها للأسف يحتاج لكثير من الصيانة. ويؤدي كل عام آلاف من السودانيين فريضة الحج في مكة. وتقوم الحكومة ببذل كل ما في وسعها لتسهيل سفر الحجاج وفي ذات الوقت الحفاظ على البلاد من خطر الإصابات بأمراض خطيرة وافدة. ومن أجل ذلك الهدف تقوم بفرض إجراءات حظر صحي صارمة. ولا يسمح لأحد بالسفر إلى الحج أو العودة منه إلا عن طريق ميناء واحد هو سواكن. وتوجد الكثير من الفروقات بين الأعداد التي تسافر للحجاز وتلك التي تعود منه. والسبب في ذلك هو تخلف عدد من الحجاج في ميناء جدة إلى أن تنقضي فترة الحجر الصحي (الطويل عادةً)، أو حتى يأتي موسم حج آخر. وقد يعود آخرون من الذين سافروا عبر سواكن عن طريق الموانئ المصرية أو الأريتيرية، وبالعكس. alibadreldin@hotmail.com /////////////////////