لجنة فض الاعتصام: المساءلة أم المخارجة؟
مكتوب علي اللجنة الهلامية ذات الدوافع الحزبية التي تكونت للتحقيق في جريمة فض الاعتصام الفشل، ذلك أن من أوكلت اليهم هذه المهمة يسعون لإيجاد مخرج سياسي مستخدمين حيلاً قانونية، والحق أنه كان بوسعهم إيجاد مخرج قانوني مستخدمين حيلاً سياسية. السياسي هو المشرع في هذه الحالة، أما القانوني فهو المقنن. ولذا فلا يجوز للسياسي أن يعتمد على القانوني لأن الأخير محكوم بلائحة، أما الأخير فيستحثه المقصد.
كلاهما خطر: المحاولة لحل الاشكالات الجنائية سياسياً، والمحاولة لحل الاشكالات السياسية جنائياً. لكن الثانية أخطر، لأنهما خلافاً للأولي تسعي لتجريم الغريم السياسي ولا تكتفي فقط بإبعاده.
الكل يعرف أن هذه جريمة فض الإعتصام تمت بالتواطؤ بين السياسيين والقوات النظامية ممثلة في القوات المسلحة والشرطة والدعم السريع، والمؤتمر الوطني ممثلاً في جهاز الأمن وكتائب الظل، وبعض الإسلاميين الحانقين غير المنتمين (معاشين) الذين جاءوا في لحظة الصفر للإجهاز على المعتصمين الذين كانوا معتكفين بحجة أنهم منحرفين ومتعاطين، وبالطريقة البشعة إياها علها ترعب وترهب الأخرين.
لن يجرؤ نبيل أديب رغم فصاحته وتنبره على الإفصاح عن اسم الشخص الذي جاء بعشرة عربات بكاسي ممتلئة بمجرمين نزلوا عازمين على التنكيل بأبناء الشعب الباسل الذي أزاحهم عن سدة الحكم، بل أهانهم إذ فضح فعائلهم على رؤوس الشهود. كما لن أعينه على الإفصاح عن اسم القاتل وإن كانت قادراً على ذلك، حتى امتحن عزمته وشجاعة عصبته.
آن لقادة قحط الأماجد أن يفصحوا عن قائمة المتهمين أو يكفوا عن التمثيل والتباكي على شهداء الشهر الحرام، فلا يكفيهم ترداد أغاني أحمد أمين الحنونة والمؤثرة ولن تغني عنهم المرافعات الباهتة والمطولة. وإن كان لابد من استمراء النشاط الصحفي والأدبي فحريُّ باللجنة ورئيسها الأستاذ/ نبيل أديب إستعراض هذه الاسئلة قبل التفكير في كيفية عرض المسودة على الجماهير:
• هل بإمكانية الجهاز القضائي إستدعاء أعضاء المجلس السيادي إلي المسألة؟
• هل يمكن إعطاء أعضاء المجلس العسكري حصانة تعفيهم من المساءلة وتجعلهم شهود ملك، ليس فقط في هذه الجريمة، إنما في كافة الجرائم التي ولغ فيها الإنقاذيين؟
• هل تأمن قحط بوائق تحركها الخجول لوضع الحبل حول رقاب "المجرمين"، أم أنها تخشي إفتضاح أمرها وتمرد الجمهور عليها إن هي تباطأت وتمنعت في الكشف عن المستور؟
• هل ستسعي (قحط) للاستعانة بجهات دولية في إستهداف بعض قيادات هذه الأجهزة، مثلما فعلت الإنقاذ مع قادة الحركات الدارفورية؟
• مَن مِن هذه القوات النظامية تود قحط أن تستبقي، بأي منطق، وفق أي معايير كي لا تكون طُعماً سائغاً للإنقاذيين
الذين مازالوا طَلِقين ومستنفرين؟
يتواجد افراد العصابة في كل مرفق من مرافق الدولة، بل يتحرك غالبيتهم في اكثر المواقع حساسية مثل البنوك والإعلام والشرطة والقضاء وحتى منبر الجمعة الذي من المفترض ان يعتليه من هم على طهر ويقين لا من استباحوا حرمة الدين. إن المهزلة التي شابت محاكمة السفاح مؤخراً نتاج طبيعي للضعف البنيوي الذي اتسمت به الوثيقة الدستورية التي أغفلت او تعمدت إغفال تحديد منهجية وألية للتعامل مع الشأن القضائي. وعندما حاول بعض القضاء الوطنيين والمقتدرين تقديم مشروع قانون لتدارك الخلل الذي شاب الوثيقة تم إهماله والأعراض عنه رغم موافقة مجلس الوزراء بالإجماع على هذا القانون الذي من دونه لن يستطيع المجلسين تعيين او إقالة قاضي درجة ثالثة. الادهي، أن رئيسة القضاء والنائب العام لم يبديا حماسا للدفاع عن مشروع القانون علماً بأنهما من مرشحي قحط وقد اجبرت الاخيرة على استبدال المرشحين الاوائل بعد ان رفضهما المجلس العسكري.
إن التهاون في محاكمة السفاح وزمرته سيجعلنا جميعاً عرضة لغضب السماء (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة او يصيبهم عذاب اليم). لن يُجزي حمدوك وصاته للنازحين بالصبر، وقد مضغوا الأخير ولاكوه حتى ترسب في كبادهم. فمن أولى أوليات الرئيس أن يخاطب شعبه بهمة تعينه على استرداد كرامته التي أهدرت باتخاذ قرارت تجبر ضررهم وتنصفهم من المجرمين الذين قتلوهم، أهانوهم وأخرجوهم من ديارهم.
قبل فتره ظهر حديثاً في الواتساب للسيد وزير العدل، السيد نصر الدين عبد البارئ، تعرض فيه لمسألة "الجنجويد" واهمية التفريق بين الجاني الرئيسي في حرب الإبادة في دارفور، في هذه الحالة الضباط الإنقاذيين (الأمنيين منهم والعسكريين)، وبين العصابات القبلية التي استنفرت من كافة نواحي الحزام السوداني لقتل الزرقة. ورغم أن مقولة السيد الوزير كانت متوازنة، علمياً وموضوعياً إلاّ أنه أثار حفيظة بعض الأعراب الذين إستنكفوا مجرد الاشارة او الإيماء لحدث يعلمه كافة اهل الارض. بل لاسبيل لنكرانه. والمحاكمات قادمة لا محالة، والعرف لا يقبل بتخلي أي قبيلة عن حقها السيادي في الإرض إلا برضاء الأهالي. ومن لم يرعوي بالحسنى نال السيئة جزاء وفاقا.
قد لا تختلف مخرجات زيارة حمدوك لكاودا عن زيارته للفاشر، فكلها وعود وأمنيات مثلها مثل أي زيارة لوفد ممن الخواجات. عوض عن تبادل الإبتسامات والحديث عن ختان البنات وتعيين سيدات (ناشطات ومعاشيات)، كان يمكن أن يطالب حمدوك الناتو بل يلح عليهم في مساعدته في وضع حد للإنتهاكات التي ما زالت حتى يوم أمس تقوم بها مليشيات في حق نازحين ونازحات – إن كان يحس بمعانتهم – لا تمت باي صلة ثقافية أو وجدانية لتلكم البلدات.
أرجع وأقول بأن المخرج من هذه الورطة الاخلاقية لا يمكن أن يكون قضائياً محضاً انما سياسياً يعتمد المساومة المبدئية وذلك بإعطاء العسكر حصانة مقابل السماح بمحاكمة بقية العسكريين والأمنيين الذين تعدوا على حرمة المواطن السوداني، أقول ما أقول إشفاقا على المواطنين، فإنا إن لم نعط هؤلاء العسكر الأمان فسوف يرتكبون جرماً ويغترفون إثماً تستحيل فيه الخرطوم إلى ساحة إعتصام كبرى.
التعويل هنا كان يمكن أن يكون على حمدوك لأنه أكتسب أو أضفيت عليه شرعية إقليمية ودولية تؤهله لممارسة ضغوطاً على العسكر مقابل تنازلات ينالها لصالح الوطن. لكن المراقب للمشهد العام والمتتبع لطبيعة العلاقة بين العسكر وحمدوك يلاحظ بأنها علاقة تابع ومتبوع فلا أمل يرجى من قادة الجهاز المدني لوضع الأمر في نصابه. بل إن حمدوك يكاد لا يرى إشكالية في إستتباعه للمجلس العسكري، فلم يعد هناك مجلس سيادي، ولسان حاله يقول: ولتذهب حاضنتي السياسية والشلة الجابتني الى الجحيم.
وإذا كان نفوذ قحط وتجمع المهنيين قد انحسر بعد أن انفضح أمرهما وأتضح أنهما يعبران ويحميان مصالح بعض النخب المتنفذة فإن دائرة نفوذ حميتي قد اتسعت إن لم يكن بكسبه وبعطائه فربما تمثله لشخصية روبن هود في مخيلة المهمشين والمستضعفين. بغض النظر عن رغبتهما وبالرغم عن إختلاف طبيعة المكون لكل منهما (عسكري ومدني)،فإن قحط وحميتي يتنافسان علي حكم السودان، مع وجود فصيل ثالث متربص بكليهما. إذا كانت قحط تتحصن وراء رواية تاريخية زائفة، فإن حميتي يحتمي بأغلبية إجتماعية واسعة. بيد أن كلاهما قد ضل الطريق إلي قاعدته.
فيما يريد الشعب توسيع الفعل الثوري ليشمل بنية الوعي المجتمعي والثقافي، أرادت قحط أن تختزل الثورة في قلب نظام الحكم السياسي واستبدال حكام بأخرين (هذا ما كانت تشير إليه الكاتبة اليهودية الأمريكية حنا ارنت في كتابتها عن تاريخ الثورات في العالم). فكان خذلانها للجماهير واكتشاف الكل لبؤس مأربها. وإذا كان حميتي قد نجح في تجييش مشاعر جماهير الريف السوداني ذات الاسناد الموضوعي والحقيقي، فإنه وبالتجائه إلي رموز الليغ السوداني القديم يخاطر بشرعية لحظية نالها وستنسرب من بين إصبعيه إذا عجز عن على الإقدام على التغيير كمفهوم مركزي يجب أن يتم لصالح الجماهير هذه المرة. الأدهى، إنه إذا ما خاطر وسعى لتوظيف هذه العاطفة الجماهيرية وذاك السند الجهوي لصالح مشروع فردي سلطوي، فإن الإرتدادت ستكون عليه أولاً قبل الأخرين. والكيس من إتعظ بغيره والشاطر من نظر في حال إبن عمه.
ما يؤجج الموقف هو عدم قدرة حميتي ورفقائه علي كبح جماح طموحهم السياسي وعدم إستيعابهم أو إستيعاب مستشاريهم لتعقيدات الواقع. الأخطر توظيفهم لأليات قروسطية في محاولة لإستمالة نخب سياسية منتهية الصلاحية، لم تتورع عبر تاريخها المديد في إستبدال عشيق بأخر متما تبدلت الظروف وادلهمت الخطوب.
إطلعت مؤخراً على مقالة لأحدهم، عله كتبها على عجالة وهو في الطائرة يستجدي بها الدهر مرة ثانية، يمجد فيها حميتي ويسفه فيها أحلام المدنيين. وقد كان يوماً من المقربين منه إلا إن جماعة "القائد" اكتشفت أنه عبارة عن مومس سبعينية تعالج بفمها ما عجز عنه فخذها.
ليته اهتدى لقول شيخنا المعري:
غير مستحسنٍ وصال الغوان بعد ستين حِجة وثمان
أمثال هؤلاء ما كان يمكن أن تسمعوا بهم لولا حل الشيوعيين للإدارات الأهلية في السودان. فقد كانت سيرة القبائل النازحة تتعرض لتمحيص أشد من ذلك الذي يعقده الكنديون للمهاجرين (شيخ القبيلة بالحدود يرفع تقرير للعمدة الذي يرفعه بدوره للناظر الذي لا يعتمده قبل أن يرسل لمدير المديرية). أما وقد انفرط العقد فقد أصبح السودان مرتعاً ومصباً للمنبوذين يخترقون حدوده من الشرق والغرب والشمال والجنوب، فقد أصبح السودانيون غرباء في بلادهم نتيجة الإحلال والإبدال الذي قامت به الإنقاذ.
ومن تسرب من هؤلاء الغرباء إلى المدن وانصهروا في بويتقتها بات لهم الكعب المعلى ونسبت لهم المشورة – دون أن يتفكر أحد في خلفياتهم الإجتماعية والنفسية البئيسة – نسبة للتعليم الذي تلقوه والمدنية التي تظاهروا بها مستفيدين من أموال المزارعين وخيرات الرحل المجهدين. لم يسع هؤلاء البؤساء في رد الجميل للسودانيين الأصليين، أكرر السودانيين الأصلين، في رد الجميل لأهله، إنما برعوا – وجلهم من الأحزاب العقائدية – في الإساءة لأهل الريف واتخذوا قرارات متعمدين الحيف وارهاق الناس في معاشهم. هذه هي الحقيقة التي ظل السودانيون يتحاشونها ويسعفهم من مواجهتها التواري خلف ثنائيات جلابة/غرابة، مركز/هامش، إلى أخره، حتى أردتهم وكادت تصيبهم في مقتل.
عندما يقول على عثمان محمد طه (بيلو) أنه يريد صياغة الشخصية السودانية، فهو لا ينطلق من مرتكز تنموي إنما يتحرك بدافع الحقد الطبقي والإجتماعي. عندما استعصى عليهم نيل اعتراف من السودانيين، سعوا لتدميرهم وإذا لم ينجحوا فاستبدالهم. تماماً مثلما فعلوا في دارفور وكل مناحي السودان. أقترح عزل هذه الجماعات العقائدية مستقبلاً من ممارسة العمل السياسي في السودان، فما ارتكبوه من آثام يكفي.
قد يقول أحدهم: كيف يتساوى المواطنون في الغرب وتفرقون بيننا في الشرق على أسس "غير موضوعية"؟ نقول له: أوباما حكم وهو ابن مهاجر، لكنه لم يجرؤ على التلاعب بالمسلمات التي تركها الأباء المؤسسين من الأمريكيين. جاء جد عمر البشير هارباً من جريمة قتل ارتكبها في نيجيريا فتسبب ابنه في مقتل شعب بأكمله تستحثه أحقاد طبقية وأمراض نفسية واجتماعية عانى منها أقرانه واستبدت بشذاذ أفاق مثله (القصة مدونة في كتابي "المدينة الآثمة"). أنّى لهذا العبث أن يحدث في أي بلد في العالم غير السودان؟
أركز دوماً في كتاباتي على هذه النقطة كي أدلل على ضرورة تكوين "مجلساً للشيوخ" يُسْتَرد به السودان هذا البلد المختطف من أيدي الغرباء قبل السفهاء، ويُضَمَن فيه كبار الشخصيات الوطنية والعسكرية والقبلية والصوفية. كما يلزم أن يُقَوَّم "برلمان الشباب الثوري" كهيئة يتدرب فيها الشباب على حكم السودان، يحفظون للشعلة اتقادها ويدخرون طاقتهم للسلام والتنمية والإعمار. بهكذا أسلوب يتكامل دور الشيب والشباب وننأى بأنفسنا عن الإبتزاز و"شغل التلاتة ورقات" الذي تمارسه النخب المركزية.
إن الحكمة المتوفرة للشيوخ والفلسفة المدخرة في قلوب الشباب والمتمثلة في رؤيتهم النابهة لمستقبل البلاد كفيلتان على الدفع بالبلاد الى الأمام. يمكن أن نشرع في تكوين برلمان انتخابي متما ما استقرت رؤيتنا لنوع الحكم الذي نريده: رئاسي أم برلماني!
صحيح أن هؤلاء الناشطين الذي قدمتهم قحط لا يمثلون أهل السودان ولا يرتقون إلي قامتهم، لكن البديل ليس حكماً عسكرياً يعتمد علي مليشيات لم يسع قادتها لإدماجها منهجياً ومؤسسياً في هيكل القوات المسلحة. علماً بأن الأمر غير عسير، لا سيما أن هناك سابقة تاريخية، فنشأة القوات المسلحة ذاتها تشبه نشأة الدعم السريع وغيرها من الجيوش التي نشأت أو أُنشأت في ظروف أقل ما يقال عنها أنها ظروف استثنائية، فلم تكن قوات دفاع السودان بأكثر من مجموعة مقاتلين إستقدمهم الإنجليز لهزيمة جيش الخليفة عبدالله التعايشي في سفح الجبل، تطورت من بعدها لتصبح جيشاً أتخذ صبغه القومية، ليته استحقها.
لم نسمع حتي الأن عن جهة حاكمت "القوات المسلحة" في إبادتها وسعيها الدؤوب لسحق شعوب الهامش، فهل سيمثل الدعم السريع إستثناءً في تاريخ القوات "المنفلتة" أو غير "المنضبطة" علماً بأنها لم تعمل إلا بأمر سيدها، في هذه الحالة النخب الإنقاذية العسكرية؟ كيف سيتم إدماج جيوش الحركات التحررية الأخري ووفق أي عقيدة قتالية؟ الحزام السوداني يحتاج لقوات سريعة الإنتشار شريطة خضوعها لتراتبية إدارية وهرمية محددة ومقننة. يلزم أي جهة عسكرية أن تخضع لقانون وأسس قضائية ومحاسبية معينة، وإلا كيف ستحل التجاوزات: بالأهواء، الأمزجة والجوديات؟ بإمرة من تعتقل القيادات القبلية وبإذن من يُقَتل المواطنين الأصليين ويستضعفون في حجير تونو (نيالا)، والجنينة وزالنجي، وغيرها من مدن دارفور الكبرى حتى ظهر أمس؟ أما آن لهؤلاء الأعراب أن يرعوا؟ إن لم يتخلقوا فهم لا محالة سيرجعوا من حيث آتوا.
ما لا يستوعبه بعض المثقفين المدلسين وأنصاف المتعلمين الذين ينصحون حميتي ليل نهار من "الغرابة" و"الجلابة" سواء، هو أن بقاء الدعم السريع في إطار موازي للجيش القومي سيجعله عرضة للإستهداف، لا سيما أنه اصبح مقصداً لكل المرفودين أو المعاشيين من الجيش وجهاز الأمن الوطني. كيف سيوازن السيد "القائد" بين رغبته في حماية استثماراته وحرصه علي خلخلة "المنظومة المركزية" حتي يتمكن أهل الهامش من النفاذ إلي موقع إتخاذ القرار – إن كان هذا مأربه حقاً؟
صحيح أن التجربة الأخيرة قد برهنت بأن قدرة الهامش علي التنسيق الفكري والعملي أضعف من قدره قحط علي الإنتهازية وفرض شروط الوصاية التاريخية، لكن ذلك يجب أن يكون حافزاً لمساندتهم، حتماً يجب أن لا يكون مدعاة للإعراض عنهم. وقديماً قيل "الحلوف بلدي في مراحو." ما بين ذاك الإنهزام وتلكم الإنتهازية تكمن العلة في النهضة وإذا شئت المخارجة.
مصلحة حميتي في التنسيق مع ذويه وعدم الركون إلى معجبيه، أو الإنبهار بمعيتهم فهؤلاء ياما برعوا في تملق الرجال، ومتى ما دارت عليهم الدوائر ركلوهم ولم يكلفوا أنفسهم مشقة الإلتفات اليهم. إنهم معاشر المتملقين والكاذبين، الذين يتواجدون في كل زمان وحين.
هؤلاء أمثلتهم كثيرة ونماذجهم عديدة إلا إنني أخص بالذكر هنا الجهلة والمرتشين، المُغَيَبِين وأنصاف المتعلمين، قحط وجدادها الإلكتروني، الذين يتهمونني بالتحامل ويعللوا نقدي لهم بأنه حنق مبعثه تشوفي للرئاسة. يتشوف أمثالهم من النكرات للرئاسة أما أنا فقد ورثت المكارم وصحبت الأماجد فليس للسلطة ما تضيفه إليّ إن لم أضف إليها، ولو كنت سارحاً لم أسرح مع الحمير، لأن تلك سرحة تنمحي معها خصال الجواد الأصيل. هل يفقه المقاطيع من أمثال وجدي صلاح هذه الأمثلة؟ لا أعتقد.
هنالك قضايا عالقة يجب حلها بمواجهتها وليس بتعمد الهروب منها إلى أو محاولة إنكارها. لابد من تسوية السجل العالق مع المتضررين من حروب الإبادة في دارفور وذلك بتفعيل المصالحات القاعدية وتقنين ذلك دستورياً، كما لابد من الإفصاح عن المجرم الحقيقي في جريمة فض الإعتصام. فذاك أمر لا يقدر ولا يجرؤ عليه نبيل أديب، لأنه ممثل قحط وقحط والغة في دماء المعتصمين وغارقة في الجريمة حتى شحمة أذنيها.
وإذا كان لكل إمرءٍ من اسمه نصيب، فلا عجب أن قد ضجر صدر نبيل أديب من مجرد سؤال لسيدة ناشطة عن مستقبل التحقيق في جريمة فض الإعتصام فقال لها عوض عن الإكتفاء بالتبيان: "أنا عُمْرِك دا قضيتوا في المحاكم". كان يمكنها أن تقول له: والباقي من عمرك مفروض تقضيه في السجن لتسَتُرك على الجريمة أنت ورفاقك المتواطئين المؤدلجين. لكنها احترمت وقاره وكبر سنه أو لعلها قدرت إحساسه بالذنب. فثمة أخرين مضوا في طريقهم وأخرين منتظرين تقلدهم للمناصب التشريعية، أمثال ساطع الحاج وبت السناهير التي اتغشت فيها الجماهير.
إن الخروج من هذا المأزق يتطلب وضوحاً، فأي حل لا يكون حلاً حقيقياً إلا إذا صادق عليه "أهل السودان." قحط وأخواتها ليس لهم عُقُب في هذا البلد، هم عبارة عن "مقاطيع" مثلهم مثل الكيزان، لو خرجوا غرباً لن يجدوا من يتعشون عنده حتى يصلوا مدينة الأبيض، وهناك سينزلون في لكوندة (هوتيل). لذا، فهم لن يجرئوا على تكوين الجهاز التشريعية حتى تأتي الثورة التصحيحية القادمة بإذن الله. لأنهم ببساطة لا يعرفون السودان وأهله، فلم يكونوا يوماً جزءاً من برامجه الإصلاحي أو يجتهدوا في تكثيف دافعيته الإيمانية. بل هم من استهدفوا الريف وسعوا إلى تدميره بكافة السبل حتى نصره الله عليهم. وذلك بالوعي الحادث والمتحصل لدى الشباب.
ما أكتسبه "القحاطة" من شرعية وقتية قد افتضح أمرها، ولم يعد لهم غير أسابيع معينة ينعمون فيها بالسلطة التي تسلقوا إليها من فوق ظهور الثوار الذين لم يكونوا قي قدر الوفاء إليهم. هل هناك خصلة أخس من الغدر وقد غدرتموهم في الشهر الحرام؟ إن من عقيدتنا كمسلمين قوله (صلى): مكتوبٌ على حافتي العرش، البر لا يبلى والذنب لا ينسى والديان لا يموت، إفعل ما شئت كما تدين تدان. عليه، فإنني أكاد أشهد واتبين مصرع أو موضع هلاك كل أولئك الذين تأمروا أو حتى تستروا على قتل الثوار. والأيام بيننا يا معاشر الطيبين.
يجب ألا يحرص العسكر علي تدجين حمودك أكثر مما هو حاصل لأن إستقلاليته والتي لا تكون حتى من الناحية المظهرية إلا بالاحتفاظ على مسافة معقولة تؤهله لعقد صفقة سياسية، ربما تنجيهم من المساءلة التي هي قادمة لا محالة كأن يحصلوا علي حصانة تؤمن لهم المخارجة وتفتح الطريق لمحاكمة المجرمين الأخرين، سيما من الإسلاميين الذين أتوا حانقين وتفننوا في قتل المعتصمين. كذلك فإن الحكومة المدنية مهما بلغت هزالتها، تعتبر درقة واقية يمكن أن تقي العسكر شر المحاكمة، خاصة إذا كانت هناك مفاهمات مباشرات وليس غَزِليات من قحط أو تهديدات من النائب العام. هذا وقت أخذ الضمانات وليس وقتاً للتحايل على المدنية ومحاولة إعاقة التحول الديمقراطي. الشعب أوعى من ذلك. العبوا غيرها ولا يغرنكم مَنْعَم ملمس المدنيين أو الحاكمين الحاليين، أقصد الحالمين. لم يعد خافياً على الجميع أن السيد "الإمام" قد قدم ميثاقا للشرف أو عربوناً لحسن النوايا للمجلس العسكري منذ اليوم الأول من تربعه على العرش، لكنهم، أي أعضاء المجلس العسكري، لم يردوا عليه حتى الأن!
لقد نضجت الشعوب وتجاوزت خانة الإعتقاد في المنقذ (فقيهاً كان أو مفكراً)، كما تعدت مرحلة الإحتفاء بالزعيم، ناصرياً كان، بعثياً أو شيوعياً، وأصبحت توقن بالتنمية وسيلة لتحقيق المجتمع العلمي والديمقراطي. حكومة حمدوك لاتستطيع إنجاز هذه المهمة لأنها ليس لها رؤية ولا تعمل وفق إستراتيجية موحدة، كما أنها تعمل بعقلية تقليدية تجعل من الوزير مديراً تنفيذياً وليس قائداً نابهاً يعمل جهده وفكره في التخطيط، يبدد طاقته وطاقة زملائه/زميلاته في محاولة الإنتقام من الكيزان.
من ناحية أخرى، فإن الوزراء يفتقرون إلي دعم مؤسسي – نتيجة الإفقار والدمار المؤسس الذي مارسته الإنقاذ – كان يمكن ان يحصلوا عليه من كل السودانيين لولا الشللية وتتبع النهج الإقصائي. حال عدم توفر مراكز بحثية في البلد وعدم وجود وزارة تخطيط مركزي، كان لزاماً على كل وزارة تشييد منصة سياسات يدعى لها كافة المختصين والمتميزين في المجال المعني كي يسكبوا جل معارفهم ويشحذوا غاية هممهم لتصميم استراتيجية مؤسسية توائم من بعد مع تلكم القطاعية. لكن هيهات، فقد عاد اليساريون لسالف سلوكياتهم التي خربوا بها السودان إبتداءً بالتطهير الذي أعتبره الشيوعيون أيام "مايو الخلاص" واجباً وطنياً، مروراً بالتأميم والمصادرات، وانتهاءً بمحاولتهم الأخيرة لإختطاف ثورة ديسمبر العظيمة ومن قبلها ثورة أكتوبر المجيدة عبر منسوبهم الشيوعي الطبيب خالي الوفاض المدعو الشفيع خضر. لقد شفع الأخير شفاعة سيئة سيكون له كفل منها بإتيانه بهواة لحكم بلد عريق مثل السودان، وسيخضوضر هذا البلد رغم أنف الحاقدين وتزدهر ربوعه لكن بعد ذهاب هذه العصابة المُغْرِضة.
كلما ظهر فشل حكومة حمدوك كلما لجأت قحط للإحتماء بالمؤسسة العسكرية من جموع الشعب التي ستأتيها هادرة وغاضبة هذه المرة، لأنها قد أؤتمنت علي عزيز فلم تؤد الأمانة بل أمعنت في الخيانة وأخيراً برعت في الكذب وصارت تصطنع الإنفجارات ومحاولة الإغتيالات لمساعدة حمدوك على استرداد شعبيته الهابطة والمتأرجحة صباح مساء. قال أحدهم مازحاً: "يمكن أن يكون التور (الثور) هو الضحية الوحيدة في محاولة إغتيال حمدوك." الشاهد في الأمر أن الثور ذبح بعد 17 دقيقة من محاولة إغتيال الرجل المقدام والقائد الهمام عبدالله حمدوك. لعل زريبة المواشي نقلت من المويلح إلى "سان جيمس"!
إن النخب المركزية تُمني نفسها إستعادة مجدها أو تسعي لمجرد تمديد صلاحيتها من خلال الإعتماد علي هؤلاء الناشطين، فيما تعتمد نخب الهامش علي حميتي في ترجيح كفة ميزان القوي. كلاهما مخطئ: فلا المركز قادر علي الاستمرار في إحتكاره لرأس المال الرمزي أو المادي، ولا حميتي– برغم بسالته ودهائه – قميناً او حريصاً علي تحقيق قيم الحرية والسلام والعدالة لأن الأمر يجب أن تتولاه مؤسسات الدولة وقد يتطلب إنجازه فترة تفوق فترة وجود حميتي ورفاقه في الحكم.
نرحب بأي تفاهمات ربما حدثت بين القائد حميتي وإخوانه من العسكريين ("قادة التمرد")، في جوبا، شريطة أن يترجم الاتفاق العسكري إلي إتفاق سياسي مدني، كي لا تتكرر مأساة الجنوب والذي "حدث فيه ما حدث" نتيجة لإهمال نيفاشا المكون المدني. ونحن حتماً لا نريد أن نستبدل إستبداداً بأخر. إن ما حدث في دارفور لا يمكن تجاوزه بصورة فوقية، كما لا يمكن مدارته بمجرد حراك دبلوماسي أو أخر سياسي. لابد من تضمين مادة في الدستور تُحدد الألية والمنهجية التي يمكن أن تتم بها المصالحات القاعدية، المُسألة الجنائية، الضمانات السياسية، والترتيبات التي تضمن عدم تكرار هذا الخطب الفادح، الذي يندي له جبين الإنسانية إذ لا يمكن أن يشطب أو يلغى من الذاكرة. فقط مواجهته بالأعراف والقوانين المتعارف عليها محلياً وعالمياً.
ختاماً، أفضل ما يمكن أن يحققه قادة المجلس العسكري هو تقنين ثرواتهم، تبييض صفحاتهم مع الأهالي السودانيين وذلك بالاعتذار المباشر للأمهات المكلومات وعدم الإكتفاء بعقد تفاهمات مع قادة قحط، مثلما يفعل البرهان مع إبراهيم الشيخ، أو تقديم رشاوى وإتاوات مثلما يفعل حميتي نفسه مع بعض قادة الحركات، فهؤلاء سيجرفهم السيل لا محالة. لم يعد في هذا البلد مكاناً للهواة أو الجناة، أرجوكم لا تضيعوا الوقت في الإستقطاب ومحاولات الإستحباب.
يجب أن يمضي هؤلاء العسكر في سبيلهم مُطلقين أشرعة سفنهم (أو أفئدتهم) في أعمال الخير كافة لمن كان منهم راغباً، وذلك بعد أن يكونوا قد التزموا بأداء شهادة كاملة في جرائم دارفور وجريمة فض الإعتصام ضمنوا بموجبها حصانه تسعهم ولاتسع أفراد وحداتهم، الذين قد يكون من بينهم من إرتكب أعمالاً جنائية وتجاوزات لا يشملها العفو ولا تسقط بالتقادم، مثل الحرق والقتل والإغتصاب.
فإن من رموا في البحر مثقلين بالحجارة لم ينالوا كرامة الغسل ولم يشهدوا شرف الصلاة والدفن في مقابر المسلمين، كيف بمن غُيِّبَت عقولهم (جَنُّوا) أو أخفيت شهودهم (اختفوا)؟ يظل المرء في سعة من أمره ما لم يصب دماً، كما يظل في سعة من أمره ما أعترف بذنبه، إستغفر، إستعفى، وناجى ربه لحد قوله تعالى: (قل يل عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم، لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم) صدق الله العظيم.
auwaab@gmail.com