تراكمات المشهد السياسي تشي بمغامرة غير بعيدة لا محالة، ذلك ليس ضرباً من القراءة في الفنجان بل استلهاما لوقائع التاريخ. المشهد السياسي الراهن ليس مغايراً – إن لم يكن مماثلاً – لما كان عليه قبيل استيلاء الحركة الإسلامية على السلطة في العام 1989 ثم قبيل تآكلها من الداخل منذ 1999حتى ذوبانها في لهب ثورة 2019.
ثمة عنصر غير خفي يجمع بين المشاهد الثلاث؛ تفتت القوى السياسية داخل معسكر السلطة بالإضافة إلى توتر بيِّن بينه وبين منظومة المؤسسة العسكرية. في المشهدين الأوليين تبلورت المغامرة فيما يشبه العنصر الثالث المباغت؛ من خارج ربوتي القوى المتصارعة على مسرح السلطة أمام الجمهور.
وهن الإتلاف الحاكم في المشهد الأول نهش إلى حد بعيد صدقية الرهان حتى لدى العامة على "باربون" السياسة السودانية. أحد الساسة البارزين من أركان التحالف الحاكم بلغت به جرأة التيئيس من حال الديمقراطية مبلغ الهزء بانعدام أي مدافع عن مصير التجربة برمتها أمام كلب ضال. زين العابدين الهندي لم يفصح وقتئذٍ عمّا إذا كان يقرأ في تقرير رسمي أم في مخياله السياسي.
ذلك اليأس لم يكن ناجماً فقط عن عراك التنافر غير الحصيف داخل الإتلاف الحزبي، بل كذلك بين السلطة التنفيذية والمؤسسة العسكرية. التجاذب غير المثمر بين الطائفتين إزاء إتفاق " الميرغني- قرنق" شكل ذروة التنافر داخل معسكر السلطة الحاكمة. "مذكرة الجيش" إلى رئيس الوزراء جسدت سفح الوهن بين السلطة التنفيذية وكبار الجنرالات. تلك هي خلفية المسرح السياسي حيث أنقضت الجبهة الإسلامية على السلطة في مسرحية فجَة مبتذلة. في المشهد الأول لم يكتف منفذو الإنقلاب فقط بالظهور في الزي العسكري، بل أخرج الرجل الثاني في التنظيم ما تبقى من فصول العرض من مقر رئاسة الأركان.
الحركة الإسلامية لم تنج هي الأخرى من داء الحركة السياسية العضال؛ التفتت المستفحل على دست الحكم. ذلك التنظيم الجبار المباغت بدأ يفقد صلابته مع توغله في التكالب على مفاصل السلطة بالتزامن مع التدافع على مصادر المال العام. هكذا أخذ الجشع ينهش الوعي الزائف للحركة من الداخل مما أدى إلى تجزئة الحركة في ثلاث كتل متناحرة؛ كتلة يتزعمها بعض "دراويش السياسة " داخل الحركة. ربما كان عبد الرحيم علي أبرز وجوه المجموعة.
هؤلاء نادوا بتوحيد قيادات التنظيم والسلطة تحت إمرة وجوه شابة جديدة. ذلك هو السعي عن "طريق ثالث" هذه الدعوة لم تكن لتجد لها موقعاً داخل حلبة العراك من أجل الاستئثار بالسطة المطلقة. ذلك عراك محموم تمظهر أوجه في "مذكرة العشرة". العنصر الثالث المباغت برز هذه المرة من الداخل بدفع العراب إلى خارج المسرح. غير أن هذه الخطوة الدراماتيكية لم تحسم الصراع، بل أبقت عليه متأججاً وراء الكواليس.
الفجوة ظلت تتسع داخل التنظيم بين القول والفعل. كذلك الهوة بين كتلتين أساسيتين على حلبة التصارع. نافع تزعم كتلة عمادها كوادر أمنية انتقى لها مواقع مؤثرة داخل التنظيم. البشير تظاهره مظلة واسعة الانتشار قوامها شريحة من الانتهازيين، زبانية السوق والطفيليين العايشين على ريع الدولة وقطافها. ثمة كتلة هشة متأرجحة تجذبها شوكة السلطة حيثما اشتدت. هؤلاء جمع من شيوخ القبائل، وجوه من رموز مجتمعية وبقايا من كهنة النظام المايوي ومنشقين عن أحزاب تقليدية فقدو بريقهم.
في أتون صراع هذه المرحلة تجلت سطوة البشير على إدارة المعارك الصغيرة لصالحه إذ عزل من أراد، رفع من شاء وذلّ من استهدف. رغم اهتزاز مكانة الرئيس والنظام بأسره تحت تصاعد المعارضة في الشارع برز كالعادة "هداف اللحظات الأخيرة" حسب توصيف الصحافي الذبيح محمد طه، فأنقذ الرئيس من محنته عبر ممارسة "الإكراه المعنوي" على قادة الحركة الإسلامية وفق قول أمين حسن عمر.
حالياً لا يبدو المشهد مغايراً لسابقيه كذلك المسرح. الوجوه تغيرت لكن النص لم يمسه التغيير بما في ذلك عقدة الحبكة؛ تفتت داخل معسكر الحكم بالإضافة إلى توتر بين السلطة التنفيذية والمنظومة العسكرية. كأنما ظلت النخب حبيسة المخيلة السياسية ذاتها غير قادرة على كسر أُطرها. دون التوغل في تضاعيف الأزمات المعيشة على الجبهات المتعددة يمكن الإتفاق على استحالة بقاء الوضع على ما هو عليه طويلا.
كما يحدثنا التاريخ ليس بالضرورة حسم أي من القوى المتصارعة على المسرح حسم المعركة لصالحها. المواقف السياسية للمنظومة العسكرية بالإضافة إلى إخفاقها في تأمين السلم الإجتماعي أفقداها فرص نجاح أي مغامرة بغية الإنقضاض على السلطة. في كل الإنقلابات السابقة استند الضباط المغامرون إلى ظهير شعبي في الشارع.
ما من جناح مدني داخل معسكر السلطة يبدو مؤهلاً لخوض مغامرة من شأنها حسم الصراع. هناك أجنحة تدرك مغبة ارتكاب مثل هذه الحماقة. ثمة قوى تؤثر العمل السياسي الصبور. أكثر أهمية من ذلك وفرة قناعة تترسخ في الشارع بأهمية التقدم إلى الأمام دون النكوص لجهة استعادة أيٍ من أشكال المغامرات الدكتاتورية السابقة.
لكن السؤال الملح، إلى أي مدى يمكن للشارع العام الصبر تحت عبء الأزمات الخانقة وكاهل عجز السلطة أو لنقل تباطؤها؟ كذلك من يجرؤ على نفي وجود أي طامح مغامر تراوده أحلام السلطة غير المشروعة. ذلك ما يشي بثمة مغامرة خفية تتشكل تحت شعار إصلاح ما أفسده العاجزون. ذلك شعار يلوح به المغامرون معززين بسندات تأهيل إقليمية تؤشر لجهة الخروج من ظل الأزمات المعيشة.
لا ثقل لأي جلبة يثيرها فلول النظام المباد. هؤلاء لم يدركوا بعد خروجهم من صالة المسرح السياسي برمتها. عقدة الأزمة في استفحال التنازع داخل معسكر السلطة وتوغل التوتر بينه وبين المنظومة العسكرية. كلما استعصت هذه العقدة على التفكيك كلما أغرت المغامرين على ارتكاب الحماقة. من يتعلم من الأيام لن ينسى أن الانقلاب الأول في تاريخنا جاء على يد واحد من أبرز أركان النظام الديمقراطي البكر. المشهد لم يتغير. محور الأزمة خلاف داخل معسكر السلطة تتقاطع فيه أياد إقليمية. ليس بالضرورة ترقب المغامرة على خشبة المسرح. هناك دائما بعد ثالث.