كيف ستغير كرونا مجرى التاريخ الاجتماعي؟

 


 

 


تتعرض البشرية لوباء الفيروس التاجي " كرونا" ، الذي يشكل امتدادا للكوارث التي تعرضت لها علي امتداد تاريخها والأنظمة الاجتماعية التي مرت بها وهددت وجودها وغيرت مجرى التاريخ الاجتماعي، وتفاوتت القوى الحاكمة حسب طبيعتها الطبقية في التصدى لها، فالأنظمة الاجتماعية الاستبدادية التي قهرت شعوبها، واصبحت فيها علاقات الإنتاج عائقا أمام تطور القوي المنتجة ، وكدست الثروات في أيدى القلة ، وعبرت عن مصالها الطبقية الأنانية الضيّقة علي حساب الجماهير الكادحة ، فشلت في مواجهتها مما أدى لخسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات، وسقط بعضها وذهبت ريحها، وتمّ استبدالها بنظام اجتماعي ارقي.
معلوم ان الأوبئة تؤثر علي البشر الذين يشكلون القوى المنتجة مع أدوات الإنتاج ومواضيع العمل، وعندما تصيب الجائحة ملايين البشر تتعطل قوة عمل الانسان التي تشكل مصدر الثروة ، ويحتاج الانسان للصحة والعلاج ليواصل عمله، والتدريب المستمر لضمان قوة عمل ماهرة تسهم في تطوير القوى المنتجة ، بالتالي تؤثر الأوبئة علي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، بتعطيل الإنتاج الزراعي والصناعي والحرفي والتجارة ، والخدمات، كما هو حادث اليوم بسبب جائحة "كرونا"، مما يؤدي لتغيير مجرى التاريخ الاجتماعي.
لا شك أن البشرية سوف تتجاوز محنة " كرونا" ، وتستخلص دروس التجربة، مثلما تجاوزت الأوبئة الماضية التي مرت بها في تاريخها القديم والوسيط والحديث ، وأدت إلي تغييرات اجتماعية ، كما في الآتي:-
1- طاعون جستنيان ( 541 – 750 م) الذي اصاب الامبراطورية البيزنطية، و امتد لفترة زمنية طويلة ، وفتك باعداد كبيرة من المواطنين قدرها المؤرخون بين ( 25 – 50 مليون شخص)، وأدى لتوقف الأنشطة الاقتصادية والتجارية ، مما أدي لاضعاف وتفكك الامبراطورية، وزوالها.
2- الطاعون أو الموت الأسود (1347 -1352م ) الذي انتشر في جميع أنحاء أوربا، وأدي الي وفاة حوالي 25 مليون شخص ، وامتد ليشمل بعض البلدان الآسيوية، وعُرف ايضا بالموت الأسود.
أدي هذا الطاعون الي تفاقم أزمة النظام الاجتماعي الاقطاعي، بتعطيل الزراعة ، والصناعة الحرفية والتجارة، وماعاد الاقطاعي يلبي حاجات رعاياه ، وتراجعت القنانة ،مما أدي لتحلل وتفكك وسقوط النظام الاقطاعي في النهاية..
3 – في القرنين الخامس عشر والسابع عشر ، هاجر عدد من الاوربيين الي الامريكتين ( الشمالية والجنوبية) بعد اكتشافهما عام 1491م، وجلبوا معهم وباء الجدري الذي انتشر وسط السكان الأصليين ، والذي أدي إلي ابادة أكثر من 20 مليون شخص ، قدرها المؤرخون ب 90 % من سكان الامريكتين، مما أدي الي استعمار الامريكتين، بعد اخلاؤهما وتغيير تاريخ القارتين، وبدأ عصر الراسمالية بنهب ثروات الأراضي الجديدة، وتطور الزراعة ، وقيام الثورة الصناعية والثورة الفرنسية، وانتصر نمط الإنتاج الرأسمالي.
4- أما الكوليرا ( 1817 – 1823)، فقد ظهرت في الهند ، وارتبطت بالتخلف والفقر ، وتلوث المياه ، والتنمية غير المتوازنة، وأودت بحياة الملايين ، قبل أن يتمكن الطب من الحد منه، ولا زال منتشرا في بعض المناطق.
5- ثم بعد ذلك جاءت جائحة الانفلونزا الاسبانية (1918) التي أدت لوفاة حوالي 50 مليون شخص علي مستوى العالم، جاء الوباء بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولي أوزارها، وزاد عدد ضحاياها بسبب انهيار النظام الصحي ، اضافة لعدم المعرفة بالتعامل مع الاويئة الفيروسية ، وتسخير أغلب الميزانية للحرب واهمال قطاع الصحة، وانشغال الأطباء والكادر الصحي بالحرب، والتي كانت حربا من أجل اقتسام العالم، ونهب ثروات المستعمرات، واستمرت آثارها الاقتصادية والاجتماعية بعد هزيمة المانيا وحلفائها، وأدت لعمق أزمة النظام الرأسمالي ، وبروز النزعات الفاشية، وانتشار الثورات الاشتراكية بعد الثورة الروسية 1917 ، الي أن جاء كساد 1929 – 1932)، وما نتج عنها من تدخل الدولة لانقاذ النظام الرأسمالي من الانهيار ( نظرية كينز) ، وما نتج عنها من دولة الرفاه ودعم الدولة للتعليم والصحة وغيرها ، وتأميم المرافق الاستراتيجية . الخ، وصعود الفاشية في ايطاليا والنازية في المانيا، مما اقاد للحرب العالمية الثانية، والتي أدت نهايتها الي ثورات اجتماعية وبرز المعسكر الاشتراكي وتصاعدت حركات التحرر الوطني ونهضت شعوب المستعمرات التي نالت استقلالها السياسي بعد الحرب العالمية الثانية.
6 – بعد الحرب العالمية الثانية شهدت العالم وبائيات وفيروسات جديدة ، ارتبطت بتطور القوى المنتجة ، والصراع بين الدول الراسمالية من أجل الموارد ، وتدمير البيئة، وحرائق الغابات ، ونهب ثروات العالم النامي ، وتعميق التنمية غير المتكافئة ، وافقار تلك الشعوب وجعلها نهبا للأمراض والجهل والتخلف مثل :
أ - الانفلونزا الآسيوية ( 1957) الذي كان معديا واصاب حوالي 500 ألف شخص خلال اسبوعين، وتمكنت الصحة من محاصرته باكتشاف اللقاح.
ب - انفلونزا هونغ كونغ ( 1968- 1970) ، التي أدت لوفاة مليون شخص.
ج - ثم جاء بعدها فيروس ( سارس) أو المتلازمة التنفسية الحادة (2002 – 2003) ، وهو مرض شبيه بكرونا يسبب حمى عالية، وضيق في التنفس، وسعال جاف، الخ، وظهر لأول مرة في الصين ، واعتبرته منظمة الصحة العالمية وباءا عالميا حيث شمل 26 دولة، واصاب أكثر من 8000 شخص، وتمت محاصرته بعزل المناطق المصابة والأفراد المصابين، وكانت الاستجابة مكثفة لهزيمته.
د – انفلونزا الخنازير(2009- 2010) التي انتقلت من الخنازير للبشر كما يشير المصطلح ، والذي يصيب الجهاز التنفسي البشرى بعدوى وأعراض الحمى ، السعال ، الصداع ، التهاب الحلق، الاسهال. الخ ، وظهر في أمريكا ،وانتشر بشكل كبير ، وأدي لاصابة 60 مليون شخص في الولايات المتحدة ، وتراوحت عدد الاصابات بين 151 ، 575 الف ، مما اعتبرته الصحة العالمية وباءً عالميا.
ه – أما الايبولا (2014 – 2016) فقد ظهر لأول مرة بالقرب من نهر ايبولا ببامبكو، لكن المرض كان محدودا مقارنات بالامراض السابقة، أدي لوفاة 11 ألف من أصل 29,6 الف مصاب في غينيا وليبريا.
6- فيروس نقص المناعة البشرية (ايدز) الذي أُصيب به حوالي 75 مليون شخص ، توفى منهم 32 مليون شخص، قبل أن يتم اكتشاف أدوية مضادة للفيروس
7- وأخيرالفيروس التاجي " كورونا" ( 2020 - ) الذي ظهر أول مرة في ووهان بالصين في أواخر عام 2019 ،باعراضه : الحمى الشديدة، سعال ، التهاب رئوي. الخ، ثم انتشر في 100 دولة بدرجات متفاوتة وأصاب أكثر من 100 ألف من الحالات المسجلة، وأدت لوفاة أكثر من 3825، أي نسبة 3,4 % حتى كتابة هذه السطور، ومتوقع انتشاره كالنار في الهشيم ، اذا لم يتم الاستعداد لهزيمته ، وأدي لانقطاع أكثر من 300 مليون طالب عن المدارس والجامعات، وتم الغاء أماكن المناسبات والمطاعم ودر الملاهي والأندية، واوقفت شركات الطيران رحلاتها، وتراجع الاقتصاد. الخ ، والي خسائر كارثية في الاقتصاد، وتراجعت اسواق المال ، وتمّ تقدير الخسائر في الاقتصاد العالمي باكثر من 347 مليار دولار ، اضافة للتراجع في الطلب، والسياحة والصادرات والواردات . الخ. وتم اتخاذ الاجراءات المعروفة لمواجهته.
* نلاحظ أن المشترك في كل الأوبئة السابقة اتخاذ اجراءات الحجر والعزل الطبي، وعزل المناطق ، الآثار علي الاقتصاد والتغييرات السكانية والاجتماعية ، والتحولات في النظم الاجتماعية ، وانتشارها بشكل أكبر وسط الطبقات العاملة والفقيرة، وارتفاع الأسعار ، وأنها نتاج لتدهور الخدمات الصحية ، وأن الاوبئة يمكن أن تكون جزءً من الحروب.
من عوامل الانتشار تجاهل دروس الماضي مثل : الفشل في توقع الأمراض ، ودعم المواطنين خلال فترة اغلاق اماكن العمل والمدارس والجامعات والمطاعم .الخ، وأن المرض يكون أكثر تفشيا للمرة الأولي التي يفتقد فيها الجسم للحصانة.
كشفت كرونا عن عمق أزمة النظام الرأسمالي الذي يواجه أزمة أعمق من أزمات 1929 – 1933 ، و2008 ، ومتوقع أن تقفز البطالة في أمريكا الي 20 % ، بعد أن كان معدلها 10 % في أزمة 2008 ، اضافة لفقدان وظائف العاملين في المطاعم والملاهي . الخ، وضيق السوق بالنسبة للقدرة الانتاجية التي اطلقتها الرأسمالية ومتوقع انخفاض الناتج المحلي الاجمالي في الصين ، وانهيار اقتصاد الدولار ، وعمق الأزمة في اليابان ودول الاتحاد الاوربي وخاصة بعد دعوة ترامب لاغلاق الرحلات بين اوربا وامريكا.
كشفت كورونا عجز النظام الرأسمالي في مواجهة كرونا والاستهانة بها في في أيامها الأولي، واعطاء الاسبقية لاستمرار العمل لضمان استمرار مصالح النظام الرأسمالي وتحقيق هدفه الرامي لاقصي قدر من الربح ، حتى لو علي حساب صحة المواطنين ،كما في تصريحات بوريس حونسون في بريطانيا المعادية للعمال ، وحديثه عن أن يستعد مواطنوه للموت، وقول ترامب اغلاق المصانع ليس في صالح النظام، أي التضحية بالشعب لابقاء النظام،أو لمصلحة 1% من الأثرياء الذين يسيطرون علي الثروة ،ودعم البنوك والمؤسسات المالية بترليونات الدولارات، وصرف ترليونات الدولارات علي صناعة الاسلحة والحرب علي حساب دعم الخدمات الصحية وتوفير معينات المستشفيات، واعطاء العاملين المرتبات الكافية في فترة وجودهم في المنازل، والصرف علي المعاشيين بدلا عن التخلي عنهم فهم أفنوا زهرة حياتهم في خدمة الوطن.
مما يتطلب حشد كل الامكانيات لدعم الصحة التي تخلت عنها الدول الرأسمالية بعد سياسة الخصخصة وتشريد العاملين، وتحقيق اقصي الارباح من قطاع الصحة التي اصبجت سلعة ومصدرا من مصادر التراكم الرأسمالي، مما يتطلب تحولات جذرية في النظام الرأسمالي ، واستبداله بنظام اشتراكي يتم فيه استكمال الحقوق الديمقراطية بالاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بحيث يتم توفير احتياجات الانسان الأساسية في الخدمات الصحة والتعليم وحقوق الأمومة والشيخوخة والضمان الاجتماعي.

alsirbabo@yahoo.co.uk

 

آراء