مديريتي النيل الأزرق ودنقلا في العشرين عاما الأولى من الحكم الثنائي

 


 

 

 

بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لما جاء في الفصل الثاني والثلاثين من كتاب (السودان في طريق التطور Sudan in Evolution) الذي صدر بلندن في عام 1921م عن دار نشر كونستابل وشركاه، لمؤلفه البريطاني بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin )1861 – 1941م).
ويتناول هذا الفصل طرفا من تاريخ مديريتي النيل الأزرق ودنقلا في العشرين عاما الأولى من حكم الاستعمار الإنجليزي – المصري.
ومن المقالات المترجمة ذات العلاقة بدنقلا مقال عنوانه: "مديرية دنقلا في السودان الإنجليزي – المصري"
https://sudaneseonline.com/board/480/msg/1442591057.html
ومقال آخر بعنوان: " من تاريخ الملاريا (البُرَدَاء) في منطقة دنقلا
https://www.sudaress.com/sudanile/106036
ومن المقالات المترجمة ذات العلاقة بالنيل الأزرق مقال عنوانه "عرض لكتاب الأولياء في النيل الأزرق"
ومقال آخر بعنوان: "عبر النيل الأزرق من سنار إلى بني شنقول وبالعكس، 1854 - 1855م"
المترجم
******* ****** ******
مديرية النيل الأزرق
تُعد مديرية النيل الأزرق (التي كانت تُسمى مديرية الجزيرة) من أكثر مديريات السودان اكتظاظا بالسكان، وكانت في الأوقات العادية بالبلاد واحدة من أكثر مديريات السودان الخمس عشرة ازدهارا. ولا تزيد مساحة مديرية النيل الأزرق عن 12,000 ميلا مربعا، بينما يبلغ عدد سكانها 192,879 نسمة. وهي بذلك تفوق في عدد السكان مديرية كردفان، التي تبلغ مساحتها 100,000ميلا مربعا بعد أن فُصلت عنها جبال النوبة.
وكانت واد مدني في البدء من ضمن مدن مديرية سنار، غير أن رئاسة المديرية حُولت في عام 1905م من الكاملين إلى واد مدني، وأضيفت المنطقة في نفس الوقت لمديرية النيل الأزق.
وهذه المديرية في الأساس هي مديرية زراعية، وتعتمد في نموها وازدهارها (مثلها مثل غيرها من مديريات السودان) على مياه الأنهار والأمطار الموسمية.
وتُعد تربية الأبقار من المصادر المهمة الأخرى بالمديرية. غير أن تجارة الماشية كانت قد أصيبت بكارثة أوقفتها تماما بسبب انتشار مرض الطاعون البقري بين قطعانها.
وكانت مديرية النيل الأزرق تحت إدارة العقيد ايرنست آرثر ديكينسون، الذي تقاعد في بدايات عام 1914م بعد عقد من الزمان قضاه فيها، وكان له القدح المعلى في تطوير قدراتها الاقتصادية. وكان العقيد ديكينسون شديد الاهتمام بتحسين معاش الناس وتصميم سوق مثالي بمواصفات صحية عالية، وتوفير وسائل مواصلات معقولة (قبل إنشاء خطوط السكة حديد)، والتوسع في التعليم العام. ولم تكن بكل أرجاء المديرية في عام 1903م سوى مدرسة واحدة، أقامها المقدم آرثر بيلويت بيه (1861 – 1917م). وفي عام 1906م ارتفع عدد المدارس إلى ست مدارس بها أكثر من 200 تلميذا. أما الآن (1919م) فهناك 1,200 تلميذ وتلميذة يدرسون في 15 مدرسة. وقام العقيد ديكينسون كذلك بإنشاء حدائق ومزارع خضروات وفواكه، أضافت بعدا جماليا للمدينة. وكان الرجل يُعد في نظر الأوربيين والأهالي، على حدٍ سواء، إداريا حاذقا ومتمكنا، وستظل منجزاته في المدينة حيةً في أذهان الكثيرين.
وعلى الرغم من كل المصاعب والعوائق التي واجهت المديرية، ازدادت فيها مع مرور السنوات حصيلة الضرائب حتى فاقت التوقعات.
وتعطي حالة مديرية النيل الأزرق (وبعض المديريات الأخرى) مثالا عن كيف لبلد كالسودان أن ينهض بسرعة من فترة طويلة من الكساد الاقتصادي بالالتفات إلى الزراعة وتطويرها.
وفي عام 1914م أصابت المديرية موجة جفاف شديد، وقلة في فيضان النيل، دعت السلطات لإعفاء الأهالي وغيرهم من دفع الضرائب والعوائد المعلقة. وكان معظم الرجال قد هاجروا من المديرية، ولم يبق فيها تقريبا سوى النساء والأطفال. وكان على الحكومة القيام بمهمة إطعام كل هؤلاء. وكانت أكثر الضرائب والعوائد تأثرا في ذلك العام هي تلك المفروضة على قطعان الماشية، نسبة لما حاق بها من وباء قضى على معظمها. غير أن الموقف غير تماما في العام التالي (1915م) حيث هطلت الأمطار بغزارة وجلبت معها ازدهارا استمر لأعوام (مع بعض التقطع).
ومن مدن مديرية النيل الأزرق غير واد مدني هناك أبو دليق والكاملين والمناقل والمسلمية ورفاعة. وكما ذكرنا آنفا فقد صارت واد مدني هي مقر رئاسة المديرية منذ عام 1905م. ومنذ تلك السنوات تواصل العمران بها حتى غدت مدينة لطيفة، وذات موقع جميل على الشاطئ الأيسر للنيل الأزرق، على بعد يسير من مكان اقترانه بنهر الرهد. ويقال إن الفكي مدني هو من أنشا المدينة في حوالي عام 1800م (جاء في موسوعة الويكيبديا التالي عن تاريخ نشأة المدينة: " كانت بداية نشأة مدينة ود مدني في سنة 1489م تقريباً، عندما حلّ الفقيه محمد الأمين ابن الفقيه مدني ..... بموقع المدينة حيث أقام بالمكان الذي توجد فيه قبة الضريح الذي يحمل اسمه - وهو الآن خلوة لتعليم القرآن والفقه. https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%88%D8%AF_%D9%85%D8%AF%D9%86%D9%8A المترجم). ولا يزال لذلك الفكي ذكر محمود عند سكان المدينة، وهم خليط من عدة مجموعات قبلية مستقرة تشمل الخوالدة والعركيين والجعليين والمدنيين. وبالمدينة سوق كبير يقام يوميا، وتمارس فيه مختلف ضروب التجارة. ففي ذلك السوق جانب مخصص لبيع منتجات الصناعات المحلية مثل الحصائر والسلال المصنوعة من جريد النخل، والمشغولات الفضية، واللُجُمٌ والسروج، والأسلحة مثل السيوف والخناجر ورؤوس الحراب.
وبالمدينة العديد من المباني المشيدة بطريقة حديثة مثل مبنى المديرية (حيث مكتب مدير المديرية) ومقر سكن مديرها، والنادي الاجتماعي، ومحطة السكة حديد، ومباني كبار المسؤولين.
ولمدينة (أو بالأصح قرية) أبو دليق تاريخ مثير للاهتمام. فقد كانت حتى شهر فبراير من عام 1898م واقعة تحت سيطرة قوات الدراويش بقيادة أمير مرهوب الجانب اسمه عبد الرحمن أبو دقل. وعلى الرغم من سمعة الرجل الحربية وشجاعته الفائقة، إلا أن عددا من جنود كسلا غير النظاميين أفلحوا في مباغتته بهجوم خاطف في ذلك الشهر المذكور، ولكنه لم يصب في ذلك الهجوم إصابة خطيرة. وقام إثر ذلك بعمليات انتقامية تميزت بدموية فظيعة ضد أولئك الجنود، وقتل وجرح الكثيرين منهم.
وتقع أبو دليق في مكان يثير الانقباض، فهي قاحلة تخلو من الأشجار والأعشاب. غير أن بها نحو 50 بئرا (عمق الواحدة بين 30 إلى 70 قدما تمتد إلى وادي الجقجقي Jegjegi)، تمدها بكمية كافية من الماء. وهي تبعد عن الخرطوم مسافة 84 ميلا من الخرطوم. وهذه المدينة الصغيرة هي مقر الشيخ محمد طلحة، ورئاسة البطاحين (للمزيد عن هذا الجانب يمكن الاطلاع على هذا المقال https://www.sudaress.com/sudanile/57921. المترجم)
ومن مناطق هذه المديرية أيضا منطقة الكاملين. ومن قراها الرئيسة قرية العيلفون، وهي قرية تلقي النظافة فيها اهتماما كبيرا من السكان وهي تحت إدارة عمدتها. وغالب أهلها من قبيلتي المحس والشايقية. وتحدث فيها بعض الأحايين بعض الصراعات القبلية حول من سيكون "الخليفة" في هذا المكان أو ذاك، أو حول أمر آخر. وتظل مثل تلك الصراعات محدودة في جزء من المنطقة بين قلة من الأفراد، ولا تمتد لمناطق خارجها.
وتقع الكاملين نفسها على ضفة النيل الأزرق الغربية، على بعد نحو سبعة أميال من أقرب محطة للسكة حديد في نهاية المنطقة من الناحية الجنوبية. وبالكاملين الآن رئاسة إدارة المنطقة. وكان بها هنالك في سنوات ماضية مصنع صغير للسكر، لم يبق منه الآن سوى بعض الأطلال. غير أن المناطق المحيطة بالكاملين تصلح لزراعة قصب السكر. وقد تنشأ بهذه المنطقة يوما ما صناعة للسكر (مما يجب ذكره هنا أن الكاملين كانت عاصمة لمديرية النيل الأزرق في عهدي الحكم المصري – التركي والمهدية، وحتى عام 1905. المترجم).
ومن المدن الأخرى بمديرية النيل الأزرق المناقل والمسلمية. وهما يتميزان بخصوبة الأرض بسبب الطمي الذي يحمله النيل الأزرق (وهو في هذه الناحية يتفوق على النيل الأبيض).
وتتكون المناقل من 10 -12 قرى صغيرة تتناثر في أشد مناطق المديرية خصوبةً. وتبعد المناقل نحو 38 ميلا عن واد مدني، و50 ميلا عن الديوم، ونحو 107 ميلا عن الخرطوم. ويقام بالمناقل سوق في يومين من الأسبوع (الأحد والأربعاء)، يتجمع فيه كل أهالي المناطق القريبة. وينشغل الجميع في ذلك السوق بالمساومات الصاخبة، وبالمشاجرات بينهم أحيانا! ويبلغ عدد سكان المناقل 43,000 - 44,000 نسمة من مختلف الأعراق. وفي عهد المهدية كان الخليفة عبد الله قد قدم المنطقة لجماعته ليسكنوا فيها، فجلب هؤلاء بعض مسترقيهم ليعملوا في مزارع القطن التي يملكونها. وبعد أن قام الاحتلال البريطاني بتحرير المسترقين، آثر هؤلاء المحررون البقاء في المنطقة. وهم الآن من أكثر سكان المنطقة نشاطا وفلاحا مقارنة ببقية السكان.
وتقع المسلمية على بعد 11 ميلا جنوب أربجي، وعلى بعد 6 أميال إلى الداخل من النيل الأزرق. وكانت المسلمية قبل أن يطالها تخريب الدراويش مدينة كبيرة ومركزا تجاريا مهما. غير أنها تدمرت تماما في غضون 15 عاما من حكم هؤلاء. وبدأت منذ سنوات قليلة عمليات إعادة بناء المدينة، إلا أن عدد السكان بها ما زال قليلا.
وهنالك بهذه المديرية مدينة تقدمية اسمها رفاعة، تقع على بعد نحو 104 ميلا من الخرطوم. ويبلغ عدد سكانها، هي وما حولها من القرى، نحو 30,000 نسمة، غالبيتهم من الشكرية العرب. ويعيش غالب سكان رفاعة في قطاطي من القش حسنة البناء ومنتظمة في صفوف. وبها مسجد ومركز ومدارس ومبانٍ حكومة أخرى مبنية بالطوب الأحمر. وتعد رفاعة من ناحية المساحة هي المدينة الثانية بالمديرية بعد واد مدني. ويبدو منظر البلدة عن قرب منظرا بديعا للغاية.
ويعيش بالمنطقة أفراد قبيلة الرفاعة. ومن هؤلاء يُعد تورين أحمد أحد الشخصيات المهمة، فهو عمدة (سقادي)، التي تعتبر الآن إحدى قرى مديرية سنار، وليس مديرية النيل الأزرق. ويبدو سكان هذه المنطقة من المُجِدّين المجتهدين، وهم، على وجه العموم، في حالة طيبة.
وفي الواقع، تقدم كل أرجاء مديرية النيل الأزرق صورة مرضية ومفرحة للازدهار. وهي تفوق كل مديريات السودان الأخرى في انتاج الذرة (طعام أهل البلاد الأساس)، رغم أن هنالك مديريات أخرى تساهم في ذلك الإنتاج مثل سنار وكسلا والنيل الأبيض.

مديرية دنقلا
لم تكن دنقلا سوى واحدة من عدة مدن واقعة بين الشلالين الثالث والرابع كان الرومان يقيمون بها حاميات عسكرية. وتوجد بدنقلا، كما كان بنبتة مركز مملكة كوش الكثير من البقايا التي لا تخطئها العين لأسوار وقلاع أولئك الفاتحين التاريخيين. وهنالك أيضا بعض بقايا آثار في المنطقة بين وادي حلفا وفيلة.
ولا ريب أنه كان لـ "دنقلا العجوز" أهمية وقوة وصيت عظيم في مرحلة تاريخية ضاربة في القدم. فقد كانت مزدهرة قبل سنوات طويلة من العهد المسيحي. وفيما بعد ذلك قام أحد ملوكها (هو سلكو Silko)، الذي عاش في النصف الثاني من القرن السادس باعتناق المسيحية، واتخاذ "دنقلا العجوز" مقرا لبلاطه، والعيش فيها عيشة باذخة (للمزيد عن هذا الجانب يمكن الاطلاع على ما ورد عن "ملك النوبة وجميع الإثيوبيين" في موقع لليونسكو http://www.unesco.org/culture/museum-for-dialogue/item/ar/98/silver-diadem .المترجم).
ولا تزال بقايا مقر الملك سلكو باقية إلى اليوم، وتدل على أن قصره كان واسعا وشامخ البناء، وبه العديد من القباب مبينة بطوب أحمر محروق. وعلى مقربة من ذلك القصر هنالك بقايا لمبنى مسجد في حال أفضل. ويُقدر أن ذلك المسجد كان قد بُني وفُتح للمصلين منذ عام 1317م. ويعطي الموقع بأكمله منظرا بديعا لما حوله من بلدات ونهر.
وكانت دنقلا قد أقيمت في القرن السادس عشر على الضفة الشرقة لنهر النيل على تل رملي جاف. وكانت بيوتها، بحسب رأي رحالة فرنسي زار المنطقة في 1700م، سيئة التصميم والبناء. ووجد ذلك الرحالة أيضا أن الشوارع كانت مهجورة تقريبا، وأنها كانت مليئة بأكوام الرمل الذي أتى مع مياه الفيضان من الجبال. وكان قصر (أو قلعة) الملك في وسط المدينة. وكان ملك (أو مك) المنطقة يُنصب بالوراثة، ولكنه كان ملزما بدفع جزية سنوية لسلطان سنار.
وميزت دنقلا نفسها في سنوات المهدية برفضها الانضمام لراية ذلك "المتمهدي". وظلت المدينة رافضة لدعوته، خاصة في عهد حاكمها مصطفى ياور، الذي ظل مخلصا للحكومة المصرية، وهزم الدراويش في كورتي القريبة. غير أن قوات المهدي كانت هي الأقوى، فاضطرت دنقلا، في نهاية المطاف، للاستسلام للمهدويين، وسقطت إثر ذلك سائر مناطق المديرية. ومثل ذلك السقوط ضربة قوية لمصر. (ورد في مصدر آخر ما نصه: "عندما قامت الثورة المهدية كان مصطفى باشا ياور الشركسي مديراً على العرضي، وأرسل له الإمام المهدي طالباً منه الانضمام إليه، فأعلن مصطفى باشا انضمامه للثورة المهدية، فأقره المهدي مديراً على العرضي. لكن أكتشف المهدي أن مصطفى باشا ياور يخدعه فعزله وعين أحمد الهدى أميراً على العرضي. ثم دارت معارك طاحنة بين الأنصار ومصطفى باشا ياور استشهد فيها العديد من قادة الأنصار منهم شيخ المناصير نعمان ود قمر ومحمود ود حاج وأحمد الهدى. وكان مصطفى باشا ياور فظاً غليظ القلب فارتكب الكثير من الفظائع في حربه مع الأنصار. من ذلك أنه وفي موقعة كورتي قام بقطع رؤوس محمود ود حاج واحمد الهدى وأثنين من شهداء المجاهدين مدعياً أن المهدي قد عين أحدهما أميراً على مصر والآخر أميراً على طرابلس، ثم أرسل الرؤوس الأربعة إلى سردار الجيش المصري في حلفا وطلب منه إرسال رأس من قال إنه أمير طرابلس إلى سلطان تركيا وإرسال بقية الرؤوس إلى خديوي مصر، فقام السردار بدفن الرؤوس الأربعة في حلفا ثم أرسل لمصطفى باشا ممتدحاً شجاعته ومهنئاً بالنصر ثم لفت نظره في لطف إلى أن الضمير العالمي لا يقبل بمثل هذه الأمور. وسعى الإنجليز لعودته بحجة مشاورته في السياسة المصرية بالسودان، وأحيل إلى الاستيداع، وهو وضع (معلق) تعاقب به الإدارة البريطانية من لا يسير في ركابها. https://cutt.ly/GtUE08E . المترجم).
وتم الآن إعادة بناء دنقلا على يد حاكمها سير هيربرت ويليام جاكسون بعدما أصابها من تهديم في العهد السابق، فأقيمت بها الكثير من الشوارع والأسواق والمباني الحكومية الجديدة عوضا عن تلك المباني المتداعية القديمة.
وتقع دنقلا العجوز على الشاطئ الشرقي من النيل، وتبعد حوالي 155 كيلا من كرمة. ولا يوجد بها الآن سوى مجموعة من مساكن طينية متهالكة يسكنها أناس بؤساء، غالبهم من النساء الهزيلات والأطفال الجياع، مع قليل جدا من الرجال الأقوياء. غير أن هنالك رجال ونساء في جزيرة صغيرة لها نفس الاسم، يبدون في حالة بدنية أفضل، إذ أن يجدون طعاما أفضل في جزيرتهم. وهم - كما يبدو – في غاية الرضا بما قسم الله لهم.
ومرت بمدينة دنقلا الحديثة في 1884م، ولأول مرة في غضون أيام "حملة النيل"، القوارب الحربية الإنجليزية الصنع المسماة بـ "قوارب الحيتان whale - boats". وتم حمل تلك القوارب عبر حجارة الشلال الثاني بمساعدة بحارة متخصصين من كندا. وكان ذلك الجزء من النيل (وكذلك لمئات الأميال بين كرمة وحلفا) غير قابل للملاحة بسبب تلك الصخور السوداء.
ويبدو أن سكان دنقلا الحالية أفضل حظا في الرفاهية المادية من جيرانهم المباشرين في أرقو وكرمة، إذ أن بمقدورهم امتهان أشغال عديدة تدر عليهم دخولا معقولة، وزراعتهم المحلية لا تعتمد بصورة كاملة على حالة النيل، إذ يستخدمون نظام القنوات للري. ودنقلا الآن مدينة كبيرة، وسكانها في حال طيب، وأسواقها مزدهرة بالمنتجات النباتية والحيوانية ويرتادها عدد كبير من الناس. ومن دلائل كفاءة إدارة المدينة وسلامة اقتصادها وازدهارها أن سكانها يسددون ما عليهم من ضرائب حكومية بانتظام شديد دونما ضغط أو إكراه من السلطات.
وأقيمت مدينة دنقلا الحالية على بُعد يسير من شاطئ النيل. وهي مخططة جيدا، وبها العديد من المساكن الحسنة البناء، وبعضها له حدائق جميلة. ويسكن الباشمفتش في قصر الحاكم السابق، وهو مبني من الطوب الأحمر يطل على النيل، ومحاط من الجهات الأربع بـ "أبراج مقلدة castellated towers"، وشرفات فرندات(، وحديقة واسعة معتنى بها تحتوي على أشجار البرتقال والنخيل والتين والعديد من الأشجار الاستوائية، مع عدد من الزهور الإنجليزية التي يبدو أنها تزدهر حتى في مثل هذا الجو. وينسب الفضل في إنشاء ذلك القصر وحديقته وأشجار اللبخ المحيطة به للسير هيربرت جاكسون مدير المديرية.
ومما تجب الإشارة إليه أن إدارة مديرية دنقلا قد وضعت علامات (من الصخور البيضاء)، على بعد مسافات منتظمة بكل طرقات المديرية كعلامات على اتجاهات الطرق الرئيسة المؤدية إلى المدن الأخرى، والى الحدود مع مديرية كردفان من جهة، ومديرية البحر الأحمر من جهة أخرى.
ويمكن للمرء الوصول إلى دنقلا من الخرطوم بالقطار، أولا إلى (أبو حمد) و(كريمة)، ومن هنالك بمعدية منتظمة عبر النيل حتى مروي وقرية كرمة الصغيرة (الواقعة عمليا في آخر نقطة بالمديرية حيث تبدأ الشلالات – التي تسمى بحر الحجر). وعندما تصبح الأوضاع المالية بالمديرية أفضل مما هي عليه الآن تؤمل الحكومة في مد خط السكة حديد من كريمة إلى كرمة. وفي الواقع كان هنالك خط حديدي رديء (ضيق السعة) بين كرمة ووادي حلفا. وكان ذلك هو أول خط سكة حديد في السودان يضعه الجنرال كتشنر في حملة 1896م. وتم هجر ذلك الخط منذ سنوات طويلة، واقتلعت بعض قضبانه لتستخدم في أغراض أخرى.
وكما هو متوقع، ساهم إنشاء خط حديدي بين (أبو حمد) و (كريمة) في زيادة الرفاهية المادية في مديرية دنقلا. ففي هذه المديرية تزدهر الآلاف من أشجار النخيل بأكثر مما هو موجود في سائر أنحاء السودان. وهذه الأشجار توفر الغذاء والملابس والشراب لمالكيها. وفي كل عام تتضاعف أعداد فسائل النخل التي تزرع بالمديرية، وتزداد كذلك بانتظام أعداد الماشية بها.
وتُعد مروي واحدةً من أكثر المدن إثارة في مديرية دنقلا. وتقع اليوم هذه المدينة على جانبي النيل. وللمستوطنة القديمة تاريخ قديم يعود لمئات السنوات، بينما بدأ إنشاء الجزء الجديد من المدينة في عام 1903م. وينسب للسير هيربرت جاكسون إنشاء هذه العاصمة الجديدة، فقد كان هو من خطط لإقامتها وعمل على تحسينها لسنوات طويلة، وكان عمله كله فيها نابعا من حب عميق للمدينة وأهلها (للمزيد عن جاكسون يمكن الرجوع لمقال بروفسور أبو شوك https://cutt.ly/vtPJrZ5. المترجم).
وظلت مدينة دنقلا هي مركز المديرية لسنوات طويلة. وهي مدينة ذات تاريخ عريق، كما ذكرنا آنفا. غير أنها لا تصلح – لأسباب كثيرة – للسكن، خاصة للأوربيين. وقرر السير ونجت في زيارة تفقدية دورية له للمديرية في ربيع 1903م أن تنقل رئاسة المديرية ومقر مديرها من دنقلا لمروي.
وبدأ السير جاكسون في التخطيط لإنشاء مدينة حديثة في مروي. فبدأ بإقامة شوارع واسعة مستقيمة زرع على جوانبها أشجار اللبخ الدائمة الخضرة (المستوردة من الهند). والآن (1919م) تنتصب تلك الأشجار الطويلة الضخمة السخية الظل. وأقيمت بها مسارات واسعة رصفت بالحصى، وفصلت عن البيوت بسياجات من النباتات الخضراء، وسلسلة إثر سلسلة من قطع الجبس أو الطوب المستطيل أو المربع الشكل المطلية بلون وردي بهيج (تم الحصول عليه من مادة طبيعية في تربة المنطقة). وصممت منازل المدينة بمعمار يشابه الأسلوب المعماري المغربي / البربري، بأسقف واسعة مسطحة أو مائلة، تمتد منها أفاريز تقابلها أروقة معمّدة (porticoes) واسعة. وتحيط بالمنازل عادةً أزهار بهيجة الألوان وأشجار نخيل سامقة. ويعطى منظر تلك البيوت وما حولها للرائي على الفور انطباعا جميلا ومؤثرا. ولا شك في أن مروي الحديثة تعتبر عاصمة محترمة ومُفَخّمة وجميلة. ولا غرو، إذ أن الكثير من العمل الجاد قد أنفق في تخطيطها وتعميرها. ولا ريب أنها تصلح لتكون مثالا ممتازا للمدن الجديدة، أو المدن السودانية القديمة التي تتنظر التحديث.
ويُعد مستشفى مروي المدني واحدا من عدة مؤسسات حكومية ممتازة بالمدينة. فمبنى ذلك المستشفى حسن التصميم والتنظيم، وجيد التهوية. وبالمستشفى جناحان يتسعان لست وعشرين مريضا ومريضة. وتعالج الأمراض المعدية في مبنى منعزل تماما يبعد كثيرا عن المدينة.
ويعالج المرضى (الرجال والنساء والأطفال) في المستشفى نفسها. وهنالك أيضا بعض المرضى الذين يقدمون من مناطق بعيدة تقع أحيانا على بعد 80 إلى 100 ميلا.
وتقع مسؤولية الصحة العامة وتنظيم أعمالها بمديرية دنقلا على عاتق باشمفتش الصحة. وقد ابتكر ذلك الباشمفتش العديد من الأنظمة الإدارية الفعالة. فعلى سبيل المثال قام بتعيين العديد من الحلاقين (من ممتهني حرفة حلاقة الشعر الذين سجلوا أسمائهم بمكتب الصحة) لمراقبة أوضاع الصحة العامة بعدد من القرى القريبة منهم. وكان هؤلاء من المتطوعين الأذكياء الذين تعلموا القراءة والكتابة ويمكن الاعتماد عليهم. وكان على هؤلاء مراقبة ومتابعة كل فرد وكل شيء بدقة شديدة. وكان عليهم أيضا تسجيل المواليد والوفيات وتقديم الأسماء للسلطات، واجراء الإسعافات الأولية (التي تدربوا عليها سابقا لأسبوع كامل) للمصابين في حوادث بسيطة. ويجب على كل حلاق أن يتدرب لمدة عشرة أيام في مستشفى كبير كل عام من أجل إجادة حقن اللقاحات وتضميد الجروح وغير ذلك من المهارات الطبية البسيطة.
ولكن لا يمكن أن نعد مروي هي الدليل الوحيد على وجود مبادرات ممتازة وقدرات إدارية عظيمة في هذه المديرية المثالية. ففي كل مناطق المدينة تجد علامات إرشادية (بالحجارة البيضاء الكبيرة) تسهل على الغريب معرفة طريقه من مدينة لمدينة دون حاجة للاستعانة بخدمات مرشد أو دليل محلي.
وتم عمل تنظيم جديد للسواقي التي يتشارك في ملكيتها عدد من الأشخاص، وتسجيل ذلك بحسب نصيب كل مالك في سجلات مصلحة الأراضي ومكتب الري. وعوضا عن تلال الطوب الطيني التي كانت تحدد به حدود أراضي كل فرد، وكانت تتعرض للإزالة لأسباب عديدة مسببة الكثير من المشاكل، تستخدم الآن علامات حديدية ثابتة وقوية يكتب عليها رقم الساقية بوضوح. وهذا الرقم مسجل في سجلات مكتب الأراضي مع أسماء مُلاكها، وتسجل كذلك قيمة الضرائب والعوائد المفروضة عليها، وكل الأمور المهمة الأخرى المتعلقة بتلك الساقية. وساهمت كل تلك الابتكارات وغيرها في زيادة حرية الحركة الادارية بمديرية دنقلا.
وكما أسلفنا فإن مروي هي المدينة الأولى فى مديرية دنقلا، إلا أن هنالك مدنا أخرى لها بعض الأهمية أيضا مثل أرقو والدبة وكرمة والخندق وكورتي. واتيحت لي زيارة كل تلك المناطق في مدة أسبوعين فقط للأسف. وخلصت إلى أن مديرية دنقلا هي من المديريات التي ستروق للسائح والزائر الأوربي أكثر من غيرها من المديريات، وذلك نسبة لوجود آثار تاريخية بها تستأهل الدراسة والتأمل، وكذلك لطرق الإدارة الحديثة الممارسة فيها. غير أن زيادة عدد الزائرين لهذه المديرية من كل أرجاء العالم يتطلب تحسين طرق الوصول إليها وتوفير مقرات مناسبة للإقامة بها.
ويبدو أن سكان أرقو لا ينشطون كثيرا في العمل، ولا يكدحون ولا يجدون في أشغالهم كما ينبغي، على الرغم من أن أرضهم هي أخصب أرض بالمديرية، وتقوم الحكومة دوما بتوفير معينات زراعة العديد من الأصناف الزراعية لهم. غير أنهم – كما يقال - لا يحبون العمل وفي طبعهم فُتُور وكَسَل ولا مبالاة. فلا غرو إذن إن ظلوا في حالة فقر شديد (هذا مثال آخر للأحكام الجزافية الكاسحة التي يطلقها الكاتب. المترجم). وقد حظي سكان هذه المنطقة بمآمير ومساعدي مآمير في غاية الكفاءة والهمة (في نظر الحكومة)، غير أنهم لم يجدوا الرضا عند سكان المنطقة.
لقد كانت (الدبة) فيما مضى مدينة مزدهرة ومركزا تجاريا مهما لتجارة القوافل التي تحمل الرقيق والصمغ العربي والعاج الخ من أم درمان إلى كردفان في طريقها لمصر. إلا أن هجرة الكثير من رجالها للعمل في خارجها بحثا عن الرزق كان من أسباب حالتها التعسة الحالية (أي في عام 1919م). ورغم ذلك ففيها رئاسة المنطقة.
وزار كتشنر الدبة في عام 1912م في خلال زيارة تفقدية لمديرية دنقلا. واحتفل بهذه المناسبة بزراعة شجرة في البيت الطيني الذي كان يقيم به في عامي 1884 – 1885م. ولم يعد ذلك البيت موجودا الآن. غير أن تلك الشجرة ما تزال واقفة على الرغم صغرها وسوء حالها (ربما بسبب قلة المياه والعناية بها).
وتوجد كذلك العديد من الأماكن المثيرة للاهتمام بين كريمة وكرمة. ومن تلك الأماكن تبرز تنقسي التي يقام بها سوق كبير كل يوم أحد، وأماكن أخرى مثل دنقلا العجوز (ذات التاريخ الحافل، حين كانت عاصمة المملكة المسيحية)، وجزيرة لبب الواقعة على بعد عشرة أميال عن دنقلا العرضي، وتعرف هنا بـ (جزيرة الأشراف)، والتي ولد بها محمد أحمد المهدي لأب كان يعمل بمهنة صناعة المراكب. وهناك أيضا جزر أخرى مثل جزيرة ارتقاشا (الواقعة بين جزيرتي بنارتي جنوبا وجزيرة بدين شمالا، وعلى بعد خمسة أميال من أرقو) التي أحدث فيها شريف يسمى السيد محمد الإدريسي اليمني الكثير من المشاكل للعثمانيين والحكومة المصرية. ولتخفيف النفوذ الواسع لذلك السيد، كان على الحكومة إما تجاهله أو محاربته. وآثر العثمانيون في نهاية المطاف منحه سلطات واسعة على مساحات كبيرة تمتد من (قنفودة) إلى (مخا) في الجزيرة العربية.
ويعزى الفضل في الكشف عن الآثار في كرمة لدكتور جورج. أندرو رايسنر (الأستاذ بجامعة هارفارد الأمريكية الذي عمل في مصر والسودان بين عامي 1907 – 1932م، مبعوثا من متحف بوسطن. المترجم).
وتقع مدينة الخندق على مسافة متساوية من مدينة دنقلا إلى الشمال، والدبة إلى الجنوب الشرقي. وكانت في الماضي مدينة ذات أهمية تجارية كبيرة. ولا يعلم الكثير عن تاريخ المباني المهدمة المطلة على النيل في تلك المنطقة. وريما تكون من ضمن الآثار الرومانية القديمة، أو حتى التركية في شمال السودان. وتعتمد مدينة الخندق على قريتين صغيرتين بجوارها في توفير اللحوم والخضروات، إذ ليس فيها أي نوع من الزراعة نسبة لعدم خصوبة الأرض هنا. ويبدو سكان الخندق في حالة صحية بائسة، ربما لسوء التغذية أو لفقرهم الشديد. ولا يبيع السكان هنا غير السلال المنسوجة من نباتات جافة، والملونة بألوان زاهية. وتباع تلك السلال بقروش قليلة، ولا يشتريها إلا زوار البلدة من الأوربيين كنوع من الهدايا التذكارية.
وفي يناير من عام 1885م كانت كورتي مقرا لتجمعات القوات البريطانية التي حاولت إنقاذ غردون. وكانت المدينة مركزا لعملياتهم. ومنها بدأ سير هيربرت ستيوارت مسيرته نحو المتمة مع ألفين من رجاله على ظهور الجمال عبر صحراء بيوضة، في ذات الوقت الذي مضت فيه فرقة عبر المراكب نحو (أبو حمد) وهي تسير بالقرب من شاطئ النيل.


alibadreldin@hotmail.com

///////////////////

 

آراء