مَـعَ الطيّـب صالِـح عَنْ حُسَـيْن شَــريْف: حِـــوارِيــة مُتَـخيّــلـة*
جلستُ إلى عبقري الرواية العربية لأساله عن صديقٍ له ، عرفه هو في سنواته اللندنية الأولى، قبيل استقلال السودان، وعرفته أنا في سنوات السبعينات فناناً عبقريا في التشكيل والرسم السينما، وتبادلنا الود لسنوات إلى ساعة رحيله في يناير من عام 2005. إنه حسين مامون حسين شريف. بادرتُ أستاذي الطيب صالح قائلا:
- أيها الكاتب الروائي العبقري، قرأتُ لك خاطرةً في الجزء التاسع من سلسلة "مختارات الطيب صالح"، التي أصدرها رياض الريس من دار نشره البيروتية، وحوتْ بعضا من مقالاتك فوجدتك تشير فيها إلى العبقري الفنان حسين شريف .
- لعلك تشير إلى تلك المقالات والخواطر التي ظللت مداوما على نشرها في الصفحات الأخيرة من مجلة "المجلة". .
- نعم هي التي عنيتها. .
- تلك كتابات خفيفة إستكتبني إليها فاستجبت صديقٌ صحفي بريع هو عثمان العمير ألحّ عليّ أن اكتب شيئا في "المجلة". ظللت أكتب خواطر من الذاكرة ، قلت هي وقفة للراحة والاستجمام بعيداً عن رهق الكتابة الرائية ومشاغل المهنة الإعلامية التي خصمت مني الكثير. .
- لا أخفي عليك أني أجدها كتابة جذّابة ، لا تقل جاذبيتها عن أجمل رواياتك "موسم الهجرة إلى الشمال". .
- ليست هي دراسات ولا تحليلات ولا نقد . إنها محض خواطر، رأى صديقان لي أنها تستحق النشر في كتاب، فجاءت في كتب بلغت عضرة أجزاء . أشرف صديقاى حسن أبشر الطيب ومحمود صالح عثمان صالح. . على تجميع تلك الخواطر وأشرفا على تحريرها . لقد أحسنا الظنّ بها وكنت على تردد ، لكن ها أنت تجد فيها ما يستحق أن تحدثني حوله في بعض تلك الخواطر..
- لعلك بدأت كتابتها على سبيل الترويح ثم استهوتك فانخرطت في تحويلها من خواطر إلى شيء من الكتابة العميقة، وبعض دراسات وبعض رواية . .
ضحك الطيب هذه المرّة ضحكة طويلة أشبه بقهقهة بطيئة هادئة ، ثم قال :
- تريد أن تقول عن قصتي مع "منسي". .؟ أجل تعمدت أن لا أبتعد عن كتابة الرواية ولكني أبقيت التزامي بسرد الخواطر لا أكثر ، من قبلها خواطر ا ابتعد عني ومن قبلها سيرة قصصية فله ذلك. .
- شغلتني خاطرة من خواطرك. . إني افتقدت صديقاً إسمه حسين مامن شريف ووجدت حدّثت عنه في مقالك عن مُلاك "هارودز". .
- أوه . . إذن أنت قرأت ما كتبتُ عنه في "خواطر الترحال" ، ذلك العنوان الذي اختاره صديقاي حسن ومحمود، لبعض ما كتبت في المجلة. . جاء فيها ذكر لصديقنا الراحل حسين شريف. لكم حزنت لرحيله عام 2005. .
سعدت أن تستحضر ذاكرة الطيب صالح تفاصيل ذلك المقال . قلت له:
- كنت يا أستاذنا تحدّث عن النبلاء الإنجليز مُلاك متجر "هارودز" من آل "فريزر" فذكرت شيئا عن حسين شريف. .
- نعم أردت أن أروّح عن النفس بحكاياتٍ طريفة عن أولئك النفر من نبلاء الإنجليز الذين أنشأوا ذلك المتجر ، فجاء ذكر صديقي حسين . كم حكى لي هو بعض قصصهم ، فقد كانت له صلات معهم. .
قلتُ مضيفاً ما يحفّز الأستاذ الروائي إلى تفصيلٍ أكثر:
- لقد درس حسين لعام أو بعض عام في كيمبريدج، أظنه خالط بعضهم هناك. .
إبتسم الطيب ابتسامته تلك التي لا تفارق ملامحه ، فكأنه أراد أن يفصح عن شيء وأن يخفي شيئا في ذات الوقت . لكنه واصل حديثه فقال:
- لصديقي حسين جاذبية عالية فهو ذكي ومنفتح على الآخرين ، خاصّة أبناء الأسر الأرستقراطية ممن زاملوه في تلك الجامعة المرموقة . فقد كانوا يرون في حسين ذلك الأمير القادم من الشرق. أليس هو من أسرة الإمام المهدي . . ؟
- أجل . جدّه هو السيد عبدالرحمن المهدي وخاله هو السيد الصديق إبن الإمام. .
- كنت أحدث عن ملاك ذلك المتجر اللندني الأشهر الذي لا يتسوّق فيه غير كبار أهل السياسة والأدب والفن والممثلون السينمائيون. . حدثت عن أهل ذلك المتجر وجاء ذكر زوجة اللورد أو هي طليقته وإسمها الليدي "أنتونيا فريزر" ، التي كانت تعدّ من فاتنات عصرها ، وكانت – "والشيء يذكر بالشيء- قريبة الصلة بصديقنا الرسام السوداني الموهوب حسين مامون حسين شريف وكانت زميلة له في جامعة "كيمبريدج".
- أعرف عن حسين أنه التحق بجامعة كيمبريدج يدرس التاريخ السياسة ، كما أراد له أبوه الدكتور مأمون شريف. .
- نعم جاء إلى كيمبريدج ومعه بعض من جاءوا من السودان، أبناء اسر ممعروفة.
لا يذكر حسين ولا الطيب في مقاله، عن أولئك الطلاب السودانيين الذين التحقوا بتلك الجامعة الإنجليزية المرموقة في ذلك الزمان، لكني أتصور ان تلك السنوات التي يحكي عنها الطيب، هي الأولى من الخمسينات . أعرف أسماء بعض أوائل من كانوا في كيمبريدج، منهم رحمة الله عبدالله ومامون بحيري، وربما من بعدهم جاء حسين وأيضاً مصطفى مدني أبشر. كبار خريجي تلك الجامعة من السودانيين أخذتهم الأقدار إلى المناصب الوزارية حتماً. صار رحمة الله سفيرا ثم زيراً للتربية في أول حكومة بعد ثورة أكتوبر عام 1964. وتقلد مامون بحيري مناصب ناسبت تخصصه في الاقتصاد فقادته إلى بنك السودان، ثم إلى بنك التنمية الأفريقي وكان أول مدير عام لذلك البنك. ثم ختم مسيرته فصار وزيراً وزيرا للمالية. أما الأصغر سنا من الإثنين فهو مصطفى مدني أبشر الذي صار سفيرا ثم تولى منصب وزير الدولة في زارة الخارجية في أيام نظام "مايو" الذي راسه جعفر نميري .
ماله حسين لم ترق له كيمبريدج فيوليها ظهره نافراً عن أجوائها الأكاديمية ، وقد أجّج نفوره بلا شك إصرار أسرته ليدرس التاريخ والسياسة ، فيما كان ولعه بالرسم والفنون ملك عليه لبه. لم تبهره أجواء الجامعة المكتظة بأبناء وبنات النبلاء الإنجليز ، فهو لا يقل نبلا وقد عرفوه حفيدا للمهدي الذي حرر بلاده ، فهو عندهم أمير له مكانة في بلاده. أتصور حسينا يصول ويجول بطبعه البوهيمي في أنحاء كيمبريدج، فتنفتح له الأبواب بوسامته اللافتة وحذقه اللغة والأدب الإنجليزي على مجتمع الجامعة ، فيحدث الطيب في مقاله أن من بعض من عرفهن حسـين تلك الحسناء التي زاملته في الكلية ، ثم صارت زوجة لذلك النبيل الذي امتلك متجر "هارودز" ثم ورثها لقب "ليدي"، وإن انفصلت من زوجها اللورد بعد ذلك هي حسناء إسمها "الليدي أنتونيا
قال الطيب صالح مستكملا حكايته مع حسين، فقال:
- نعم لقد كان حسين من نجوم المجتمع الانجليزي في تلك الأيام. كان وسيماً ، طلق اللسان جداً باللغة الانجليزية، ذكياً حلو الحديث والدعابة، إضافة الى أنه من "آل المهدي". وكانوا يعاملونه على أنه "أميـر"، علماً أننا في السودان ليس عندنا طبقات ولا أمراء، كلنا نلبس العمائم الجلاليب، ونأكل الكسرة بـ"مُلاح الويكة". .
ذلك أسلوب أستاذنا الطيب في مزج كلامه بما هو أقرب إلى الدعابة ، فلا تمل مما يظن أنه كلام فيه من الجدّ ما فيه. قلت له مستحثاً:
- لابدّ أن وجدوا في شخصه بريقا ولمعانا جاذبا. .
لم تفارق أستاذنا الطيب تلك الابتسامة ولا فارقته روح الفكاهة، فقال:
- كانوا يجدون فيه ذلك الجانب الـ " “exotic والكلمة تعني أصلاً الشيء أو الشخص القادم من بلاد "برة" فتأمل! كان يلبس أزياء طريفة تؤكد ذلك الانطباع. هي أزياء صارت "موضات" فيما بعد، ربما بتأثير منه، فقد كان وثيق الصلة بتلك النخبة من الرجال والنساء المؤثرة في الذوق العام. .
قلت له :
- أعرف عن حسين مفارقته جامعة "كيمبريدج" بعد شدٍّ وجذب مع أسرته التي كانت تريده أن يبحر في التاريخ والسياسة أو الاقتصاد ، يريدونه للسياسة لا للفن والرسم مثل ابن خاله الصادق المهدي . كنت أعرف عن حسين أيضاً ، أنه كسب الجولة، والتحق لدراسة المعمار في جامعة "شيفيلد" ، لكنه هجرها لكلية "سليد" للفنون . .
- أجل درس حسين الفنون في " ســليد"، ومثل كلّ الفنانين- كما قد تعلم - كان يمضه قلق الإبداع . . هو رسام موهوب جداً، عرض أعماله في لندن غيرها، اكتسب شهرة فنية كبيرة، لكنه موزّع الاهتمام، فقد جذبته السينما فانقطع لها. بعد ذلك،أنتج أفلاماً قد تروق النخبة من عشاقِ الفن السينمائي، إلا أنها لم تجد ذيوعاً.
ثم استطرد الطيب صالح ، يحدث عن صديقه حسين فقال:
- أراد أن يعرّفني بتلك السيدة من آل "فريزر" التي حدثتك عنها آنفاً ، فلم أكترث لذلك، فقد كنت في أيام "جاهليتي"- كما يقول الشيخ ابن عربي رحمه الله- لا أدخل بحراً ولا أقوى على السباحة فيه. وتلك الطبقة ناعمة الملمس خشنة المخبر، رغم أنّ منها أناس فضلاء ونساؤها خاصّة عظيمات الجاذبية، ولكن البعد عنهم غنيمة في كل الأحوال. وأنا أصلا هواي مع غيلان، ذي الرّمة، في قوله :
عطابيل "سُـمْرٍ" من ربيعة عامر
عذاب الثنايا مشرفات الحـقــائـبِ
قلت وقد أطربني عبقري الرواية بما قال :
- ارى لك محبة لذي الرُّمة لا تخفى. .
- لعلك تعلم أن غيلان العبقريّ، لم يقل "عطابيل سمر" بل قال "عطابيل بيض". إنما أنا هكذا قلت، إكراماً لأمِّ عمروٍ وجاراتها! وعدا أن الأمر لم يتم، لا لغيلان ولا لي، كما كان أحرى به أن يتم. .
ما فارق أستاذي الطيب روح الدعابة حتى وهو يحدث عن ذلك الشاعر الأموي. طويتُ أوراقي وودّعت أستاذنا، وغادرتُ عالمه السرمدي. .
أبريل/ نيسان - 2020
*مستوحى من مقال للطيب صالح عن "مملكة آل فريزر" في مختارات الطيب صالح – الجزء التاسع : خواطر الترحال- منشورات رياض الريس 2005- بيروت