بَعد الكوروْنا: ضُمُـوْر الدّبلـومَاسِـيّة التقـليـديـة
(1)
بعد اتساع دائرة وباء الكورونا، وتضاعف تداعياتها المحدقة بجميع أوجه الحياة ، فإنّ أكثر المراقبين قد تنبأوا بأن مستقبل ما بعد هذه الكارثة ، قد يفضي بنا إلى تحوّلات جذرية في التواصل البشري . ولعلّ وسيلة مقاومة هذا الوباء غير الرحيم ، هو الالتزام بالحجر القسري والبقاء في البيوت ، حالة من التباعد الاجتماعي الاختياري. ولكن من نعم العولمة والانترنت، فإن التواصل الافتراضي سيخفف من غلواء ذلك التباعد ومن تداعيات تلك العزلة القسرية . لك أن تتخيّل كيف سيبدو العالم إن لم تتوفر وسائل للتواصل بديلة عن الاتصال المباشر، فيما بين أبناء الله الذين أوصاهم في كتبه السماوية، أنه خلقهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا. .
ولأن فطرة الإنسان تمحورتْ حول كونه كائناً اجتماعياً ، فإنَّ الجحيم ليس هو "الآخـر"، كما ظلّ يقول الوجوديون ، ولكنه ذلك "الآخـر" الذي يحمل فيروساً قاتلاً مثل فيروس الكورونا. لربّما تكون الكارثة الماثلة الآن هي أمرٌ طاريء، وقد تزول تداعياتها عند انقضائها ، ولكن كلّ الدلائل تشير إلى مؤشرات غير خافية، أن البشرية تقف على أعتاب نظام عالمي جديد. .
(2)
إنّ هذه الكارثة الوبائية التي أخذت بعناق العالم، ستغير معالمه من حولنا وسيستتبع ذلك شكلٌ جديد من التواصل بين مكوّنات المجتمع البشري . ولمّا كان التعاون بين البشر يقوم على هذا التواصل، فإنّ المهنة الدبلوماسية هي الملمح الرئيس لهذا التواصل . يقول التاريخ أن المجتمعات البشرية، ولحاجتها لتعايش مشترك، يقوم على تبادل المنافع وتكامل الاحتياجات ، فإنها قد ابتدعت لذلك التواصل أساليب وآليات تطورت عبر الزمن، فعرفت البشرية الدبلوماسية. عرفت تلك المجتمعات الرّسل والمبعوثين والدبلوماسيين والسفراء، يقومون على تيسير ذلك التواصل. أولئك رهطٌ من البشر كُلّفوا بمهامٍ دربوا عليها، تتصل بتحقيق التواصل الإيجابي بين البشر : شعوباً وقبائل ومجموعات إثنية وبلدانٍ ، في مختلف أمكنتهم ومواقعهم الجغرافية.
تمتع السفراءُ والمبعوثون في تجوالهم بين مختلف الأقطار، بقدرٍ من الأمان والحماية والحصانة، في ظروف السلم والحرب على السواء. فإنْ كان التوافق على توفير مثل تلك الحماية لهم ، يُعدّ تقليداً وعرفاً متبعاً منذ قرون خلتْ، إلا أن الحرب العالمية الثانية، شكلت منعطفاً مهماً لمفهوم المجتمع الدولي والذي توافقت شعوبه وحكوماته على تجنب البشرية ويلات حروب مدمرة مثل تلك الحرب التي وقعت بين 1938 و1945. كان من نتائج هذا التفاهم الدولي أن برزت الأهمية القصوى للدبلوماسية كوسيلة لترسيخ دعائم ذلك التفاهم. توافقت شعوب العالم وحكوماته بعد الخرب العالمية الثانية بعد سنوات قليلة، على تقنين ضوابط جديدة تحكم التواصل والدبلوماسي وتحمي أساليبه وآلياته،عرفت باتفاقيات فيينا في أوائل ستينات القرن العشرين. لعبت الدبلوماسية بعد تلك السنوات، أدواراً رئيسة في تنسيق الجهود السياسية والعسكرية والاقتصادية، صيغت عبر إرادة دولية جماعية ، شكلتْ نظاماً جديدا للتعاون الدولي، من مظاهره الأحلافٍ العسكرية والمنظمات السياسية والهيئات الاقتصادية ، على مستوى العالم والأقاليم. هدف ذلك النظام إلى جعل المعمورة مكاناً ينعم بالسلام لا بالحرب، وبالأمـن لا بالخوف، وبالرفـاهِ لا بالفـقـر. .
(3)
غير أنّ الدبلوماسية التي سادتْ منذ القرن السابع عشر، حينَ كسبتْ مؤسسيتها في مصالحات "ويستفاليا" بغربي ألمانيا التي أنهت الصراعات الدموية في أروبا ، كسبت اساليبها وآلياتها رسوخاً لكنها ظلت مفتوحة للتغيير والتحوّل والتطوير المستمر. في سنوات القرن العشرين. وعبر اتفاقيتي فيينا الآنف ذكرهما ، فقد رسختْ الممارسة الدبلوماسية لسنوات طويلة ، وصمدتْ إزاء تلك التحوّلات السياسية والاقتصادية التي شهدها القرن العشرين وبدايات الألفية الثالثة الميلادية. يحقّ الآن أن توصف بأنها "دبلوماسية تقليدية" ، لها مقوماتها وثوابتها ، لكنها – وبطبيعتها- لها أن تتأهّب لهضم التطورات المستحدثة والتي ستطرأ بعد مظاهر العولمة الكاسحة ، وأن عليها أن تتهيأ للإستجابة الذكية لثورة الإتصالات والتواصل الإلكتروني والرقمي.
(4)
إنّ ما استحدثته الإنترنت، والفضائيات وتطبيقاتها الرقمية، وما أتاحته من أساليب اتصال وتواصل اجتماعي، من "فيسبووك" و"إنستجرام" و"تويتـر"، وغير كلّ ذلك ممّا قد ينشأ مستقبلاً، قد أفضتْ جميعها إلى واقعٍ تواصليٍّ جديدٍ، أدّى إلى أفول الممارسات التي كانت جزءاً من تلك الدبلوماسية التقليدية.
لكأنما وقف المجتمع الدولي منتظراً أن يحلّ وباء الكورونا على هذا النحو الكارثي، ليشكل ضربة البداية لظهور نظام عالمي جديد يخلف النظام السائد. . حاصر الوباء الكاسح مشارق الأرض ومغاربها، فيما لم يُعرف له علاجاً إلا بتجنبه عبر التباعد الاجتماعي والعمل عن بعد بإعلاءِ شعار "البقاء بالبيت". لن يبقى أمام المجنمع البشريّ في النظام الجديد القادم من خيار ، إلا التواصلٍ بأساليب افتراضية. ستكون الدبلوماسية رأس الحربة في التحوّل القادم ، وأنها التي ستضع المؤشرات والأسس الجديدة للتعاون الدولي المستجد. لن يقع التحول بضربة فجائية، بل ستتدرّج الدبلوماسية لاستشراف واقعـها الافتراضي القادم عبــر مــا يعــرف بــ ( e-diplomacy) . إن كانت العزلة الذاتية القسرية ، والتباعد الاجتماعي، أو "البقاء بالبيت" ، تشكل خيارات البشرية في العقود القادمة، فإن على الدبلوماسية أن تتهيأ منذ الآن لاحتمالات التغيير الكاسح في الطفرة القادمة. .
(5)
سيبرز سؤالٌ ملحٌ : هل حانت تلك اللحظة التاريخية التي سيتم فيها تجاوز الجغرافيا بكلياتها ، لتحلّ محلها ظاهرة الأمكنة الافتراضية . . ؟ في الواقع الماثل والذي تصاعدتْ فيه التحديات التي أحدثها الوباء الكارثي الطاريء، رأينا المؤتمرات الإلكترونية والإفتراضية، تحلّ بديلاً للإجتماعات المباشرة في ردهات وقاعات هيئة الأمم المتحدة، وفي العديد من الاجتماعات والمؤتمرات الدولية حول العالم الدولية ، مثل اجتماعات منظمة التجارة الدولية، والتي ألغى منظموها الأمكنة الجغرافية، واستبدلوها بالأمكنة الإلكترونية الافتراضية. إنّ الحكومة الإلكترونية لم تعد ترفاً اختيارياً ، بل هيَ خيارٌ فرضتْ إلزاميته الظروف الماثلة. لا يبقى على البشرية إلا أن تعدّ عدّتها لهذا التحوّل الكاسح ، استصحاباً لمعطيات العولمة والتحوّل على مهلٍ وبتدرّجٍ سلسٍ وذكي، نحو تسيير دفة الحياة في جوانبها كافة : إقتصاداً واجتماعا وسياسة وثقافة وعلوما، وبما يتوافق مع نظام عالمي مستحدث. إن العزلة والتباعد الاجتماعي الذاتي أو "البقاء في البيت"، سيشكل العتبة الأولى- ليس للوقاية من الوباء فحسب- بل للإنطلاق نحو مستقبلٍ يتخفَّى في الغيب ، سيلعب التواصل الافتراضي- والدبلوماسية قلبه- دوراً بالغ الأهمية فيه. على الدبلوماسية أن تتهيأ لتكون رأس الرّمح في التغيير الذي أحدثته وتستمر في إحداثه ، ثورة الاتصالات والتواصل الرقمي ، بل عليها أن تكون منصّة استشراف التحوّلات القادمة .
(6)
إن الدبلوماسية التي ظلت تمارس في العقود الأخيرة، قد شرعت في الخروج ببطءٍ لافت عن الأساليب التقليدية التي رسمتها اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية في عام 1961 ، واتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية في عام 1963. ولأضرب لك مثلاً بالحقيبة الدبلوماسية المعروفة، عند مختلف وزارات الخارجية في أنحاء العالم، فإنها قد تحوّلتْ من حقيبة "صلبة" إلى حقيبة إلكتــرونية ) (e-diplomatic pouch، ولذلك دلالاته الواضحة. .
بدأت الكثير من الهيئات والمنطمات الدولية ترتب لاجتماعاتها أن تكون عبر "مؤتمرات إلكترونية" ( e-conferencing )، وتلك ممارسات يتوقع لها أن تتسع بعد جنوح البشرية إلى أسلوب حياةٍ يقوم على خيار "البقاء بالبيت"، أو العزلة الاجتماعية الذاتية. لم يعد الإنسان هو ذلك الكائن الاجتماعي، بل هو ذلك الكائن المقيم عن بُعـد . .
(7)
في تجاوز الجغرافيا ، قد لا تكون هنالك حاجة لمقرّات ودورٍ تحتضن سفراء ودبلوماسيين، وقد تبتكر الدبلوماسية نظماً تعتمد إنشاءَ بعثاتٍ إفتراضية ، تدار عبرها العلاقات الثنائية بين البلدان من حواسيب على البعد ، يديرها دبلوماسيون باقون في منازلهم. يمكن لشخصٍ واحدٍ أن يكون سفيراً مُعتمداً يدير سفارته من حاسوبه الشخصي من عاصمة بلاده . ولربّما - إن أسرفنا في الخيال - فقد يتطور العمل ليتم اعتماد السفيرِ "افتراضياً"، بمنحه كلمة عبور تمكنّهُ من التواصل مع مختلف الأجهزة الرسمية في الدولة التي اعتمدته. . ولو مضينا أكثر لاستشراف خبايا الغيب، فسيتطال مهام البعثات الدبلوماسية تغييرات كاسحة. قد تزول الحاجة لمهام قنصلية مثل منح الأذونات وتاشيرات الدخول واعتماد صدقية الوثائق، إذ من المتوقع أن تُنجز جميع هذه الشئون "إفتراضياً" وإلكترونياً. وأزيدك عجباً إنْ قلت لك أن لقب "السـفير" في ظن أكثر الناس خطاءاً، أنه يطلق على الرّجل حامل الرسالة الكثير الأسفار، قد يزل فتبتكر المجتمعات السياسية لقباً جديداً ، كأنْ يقال له : "المُمثل المعتمد" أو "المُمثل المفوّض". . !
(8)
حتى تكتمل الصورة التي رسمناها لمستقبل مفهوم وممارسة الدبلوماسية، فقد يكون من اللازم أن تشحذ الأمانة العامة لهيئة الأمم المتحدة، هِمم الدول الأعضاء لمراجعة الإتفاقيات التي تضبط الممارسة الدبلوماسية على المستويين الثنائي والجماعي ، الرسمس وغير الرسمي بدءاً باتفاقيتي فيينا اللتين أشرنا إليهما ، وبقية الاتفاقيات ذات الصلة بمباديء التعاون الدولي . بعد ضمور الدبلوماسية التقليدية، لن تكون الدبلوماسية الجديدة مقيمة في مكان جغرافي ، إذ الأمكنة ومتعلقاتها الجغرافية سيتم تجاوزها، بل ستكون جزءاُ من تاريخٍ ستقبره السنوات القليلة المقبلة.
سيبقى الهاجس الأول والأخير، في التواصل بين البشر في النظام الجديد القادم هو توفير ضوابط الأمان الإلكتروني الذي تحمي خصوصية تبادل المعلومات والبيانات ومحتويات ذلك التواصل والاتصال. إنّ ظاهرة الناشط الإلكتروني "جوليان أسـانج" وفضائحية الـ"ويكيليكس" التي ابتدعها، ستشكل تفاصيلها تحدياً يتوجّب التحسّب لتعقيداته في التحوّلات المستقبلية القادمة. . وبعد أن هزمت كارثة وباء الكورونا الجغرافيا الهزيمة الكبرى، سيبقي على البشرية أن تكتب تاريخاً جديداً لها . .
الخرطوم – 16/4/2020