(1)
الأستاذ عبدالله علي ابراهيم العطبراوي، كاتب طلّاع ثنايا ، متى ما كتب مقاله عرفنا له بصمة لا تخفى وصياغات تفنن فيها قلمه كل التفنّن، فلا نقف عندها إلا معجبين. والثنايا التي جاءت في قصيدة سحيم بن وثيل (مفتخراً : أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا...إلى آخر القصيدة) هي الطرق العصية في الجبال. وإني هنا أبدأ حديثي -عزيزي القاريء- بما يلامس شكل الكتابة عند عبدالله ، من استعارات وتشبيهات ومقاربات ، فترى اللغة الفصحى تتحمل إقحامه لعاميته العطبراوية وسواها ، إقحاما ذكياً . إنه كاتب يعرف كيف يحيك من قاموسه أزياء حكاياته وطرائف ألوانها . ما قصدت إرسال الثناء وإن كان مستحقا لصديقنا العزيز عبد الله، ولكن أردت الإشارة إلى ما درج عليه كاتبنا من نسج تفرّد لغته وصياغاته ، فتعجب من لغة الكتابة قبل أن تدهشك طلاوة ما لامست من موضوعات. إن كان الثناء للأسلوب فلا تثريب، ولكن تجدني أعزف عن موضوعات يتناولها فلا تثير فيّ إلا قليل شجون. أنا صاحب ميول في مطالعاتي وتخيّرات فألاقي عبد الله في بعض ثناياه ، وقد لا ألتقيه في بعض طلعاته في مسارب جباله أو تلاله تلك.
(2)
وقفت عند مقال من مقالات الأريب عبدالله الشائقة، تناول فيها طرفاً عن أشواق الإيرلنديين، يهللون لثورة المهدي في السودان في ثمانينات القرن التاسع عشر. حرّر المهدي وأنصاره السودان ومحوا مظالم "التركية السابقة" من تاريخه. قتل أنصار المهدي الجنرال "غوردون" في قصر الحكم في الخرطوم ، فكان مقتله محور تفاعلات شتى في بريطانيا وفي إيرلندا. اغتبط لانتصار المهدي وأنصاره أهل إيرلندا التائقين للخروج من عباءة الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، كل الاغتباط.. تساءل عبد الله عن هؤلاء الشقر في إيرلندا يعجبهم قتل المهديين لـ"غوردون" واستقلالهم بأقدارهم، فكأنهم يستلهمون شعار "تسقط بس" الذي عرفناه في ثورة ديسمبر 2018 في السودان الحالي، والذي له جذورتاريخية في تدافع أنصار المهدي إلى تحرير الخرطوم عام 1885 من دنس الكولونياليين وغطرستهم ، حين صدّقوا- ومعهم مشايعوهم في أوروبا- بل ومن أضعف طغاتهم هناك ملوكاً في بلجيكا والبرتغال - ليستولوا على القارة السوداء بدعواهم أنهم يحملون "عبء الرجل الأبيض" تجاه أولئك السود قصد إخراج سكان تلكم الأصقاع مما حسبوه جهلاً عندأولئك الأفارقة وتخلفاَ دفعهم إلى الأخذ بيدهم إلى مراقي العصرنة والتحديث. . ! لكنهم والتاريخ يشهد، كانوا كذبة نزقين، فتباً لهم. . !
(3)
ليس كل ذلك موضوعي ولكنه قريب منه.
لو زرت عزيزي القاريء "يوتيوب" على الشبكة العنكبوتية، وطلبت ان ترى – مثلما فعلتُ انا – إذ أردتُ أن أستمع لصوت العقاد، ذلك المفكر المصري والأديب الكبير عباس محمود العقاد، تحاوره الإعلامية رئيسة الإذاعة والتلفزيون في مصر "أماني ناشد" في ذلك التسجيل النادر الذي تم في أوائل سنوات ستينات القرن العشرين وقبيل رحيل المفكر العقاد في مارس من عام 1964 . حكى العقاد لـ"أماني ناشد"، عن طفولته في أسوان" وكيف أن أهليهم كانوا - وعلى سبيل التخويف - من أولئك الدراويش" القادمين من جنوب الوادي ، وأنهم رجال قساة القلوب يحملون حرابهم ، وإن ظفروا بأطفال مصر فإنهم لا محالة سيبقرون بطونهم برماحهم. كان العقاد في سن الثامنة أو التاسعة و"الدراويش" الذين جاء ذكرهم على لسانه، هم أنصار المهدي القادمين لفتح مصر ويقودهم الأمير المهدوي عبد الرحمن النجومي . !!
لم تكن إشارة العقاد محض توصيف طفل في الثامنة أو التاسعة من عمره لكنها جاءت على لسانه وهو في سبعيناته يحاور "أماني ناشد". .
(4)
إستعجبتُ لتكرار ذلك الوصف مرتين من المفكر العملاق ، بما يشي بأن قناعاته وهو في تلك السن الصغيرة، هي ذات قناعاته وهو في السبعين من العمر.نحمل نحن السودانيون وصف الثورة المهدية كونها "ثورة دراويش"، محمل استخفاف لا نقبله. نعرف أن التعبير شاع عند "الكولونياليين". ولعلك تعلم عزيزي القاريء ان المفكر "العملاق" زار الخرطوم هربا من تداعيات هجوم قوات الحلفاء الإيطاليين والألمان على مشارف الحدود المصرية، شرقي ليبيا . قيل أن كتاب "هتلر في الميزان" الذي ألفه العقاد وهاجم فيه "الفوهرر" ودول "المحور"، لم يعجب تلك القوى، وأن الانتقام من المفكر العقاد أمر قريب الوقوع. غادر المفكر العملاق القاهرة إلى الخرطوم وقضى فوق الأربعين يوما من عام 1942. تلك فترة نشؤ الحركة الوطنية في السودان. رحب القوم بالعقاد أيّما ترحيب ولكن لم نسمع عنه رأيا حول الحركة السياسية في البلاد كما- وهذا هو المهم- لم يسأله أحد عن رأيه في الثورة المهدية. هل سمع أحد منكم أو رصد تقريرا عن لقاء للعقاد- مثلاً-مع السيد عبدالرحمن المهدي أو السيد الميرغني وهما قطبي أكبر طائفتين في البلاد . ترى هل ينبئنا بعض من ارّخ لتلك الفترة، إن كانت للعقاد اهتمامات بتاريخ الثورة المهدية . . ؟
(5)
ممّا يثير الدهشة أن يغفل مفكر بحجم عباس محمود العقاد وضخامة انتاجه في الصحافة والأدب والنقد والتاريخ، إغفالا مقصوداً عن الثورة المهدية التي حققت تحرّر السودان الواقع جنوب مصر مباشرة . أليس لنا أن نتساءل كيف لا يكتب من ألف كتاباً عن "المهاتما غاندي" وكتاباً آخر عن "محمد علي جناح"، من بين فوق المائة مؤلف، أن لا يشير ولو محض إشارة عابرة في حديث أو في مقال سياسي عن إمام الثورة المهدية الذي أقام أنصاره دولة مستقلة عن بريطانيا ومصر، عمّـرت لأكثر من خمسة عشر عاما. ؟
فإذا بنا نفاجأ بعد تعتيم مقصود لحراك الإيرلنديين لنيل إستقلالهم عن بريطانيا أنهم يستلهمون ما فعل الإمام المهدي بالجنرال "غوردون" ثم أعلن دولته في السودان . ون بمقتل "غوردون" في الخرطوم إذ "غوردون" هوالذي أذاقهم الأمرّين في حرب الأفيون في تلكم القارة البعيدة.
أما المفكر "الأسواني" الأقرب إلى السودان - تاريخاً وجغرافية- فلا يرى شيئا. . !
(6)
في سنوات القرن العشرين يعرف جمهور المسلمين ان تعبير "الدراويش" يطلق على طائفة من المتصوفة المنقطعين لعبادة الله ، في طقوس تعكس انقطاعهم عن الدنيا وانشغالهم بالذات الإلهية . أصل التعبير فارسي تركي.
وما اعتمدته القوى الكولونيالية التي استهدفت السيطرة على الشعوب المستضعفة، إلا للتقليل من قدر أولئك المسلمين الذي ينازلون تلك القوى . عندي أن التعبير يحمل قدراً من الاستخفاف، في تلكم السنوات بقدر المسلمين الثائرين من أمثال المهدي وخليفته التعايشي وبقية أمرائه.
لو استلهم الإيرلنديون انتفاضة المهدي على بريطانيا، فإنهم صادقين مع أنفسهم، إذ عدوّ عدوّك لابد أن تقترب منه ليشدّ من عضدك. تعمّد الإيرلنديون في مسعاهم للإستقلال إغاظة قوم لندن الممسكين بأقدار إيرلندا وما قبلوا جنوح اهلها الى الإستقلال. .
(6)
لم يخف صديقي عبد الله علي ابراهيم إعجابه بأولئك الإيرلنديين ، الذين حكى عنهم للمرّة الأولى الكاتب والمترجم السوداني المقدام الأستاذ محمد مصطفى موسى، الذي رصد انفعال أهل إيرلندا من توغله في بعض وثائق تاريخ إيرلندا وما عالجته صحفهم، بما بلغهم عن مهدي السودان ، وكيف أذلّ الإمبراطورية التي لا تغرب الشمس عن جزرها وأراضيها فيما وراء البحار، وقد أسعدهم قتل الأنصار في الخرطوم للجنرال "غوردون" وقطع راسه . لربما نستبشع الفعل الذي قام به أنصار المهدي وقتذاك، ولكن الإمام المهدي نفسه لم يكن راضيا عنه وذلك فيما ورد في بعض وثائق التاريخ، وأنه قصد أخذ الجنرال أسيراً ليفتدي به الوطني المصري "احمد عرابي" . .
(7)
مفكر نحرير كتب أكثر من مائة كتاب في الأدب والإجتماع والتاريخ ، عن شخصيات في مصر وغير مصر، وصارت له مدرسة أتباعها في السودان لا يقلون عن رصفائهم في مصر، فإني إلى ذلك أعجب كلّ العجب أن لا يلتفت لثورة السودانيين التي قضت على كولونيالية تركية - مصرية في السودان في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.. لم ير العقاد في أنصار المهدي إلا شرذمة من القتلة المهووسين الحالمين بالفردوس الإلهي الموعود وهم في طريقهم لغزو مصر. محض "دراويش" مغرمين ببقر بطون الأطفال والتمثيل بهم. العقاد للأسف لم تكن له رؤية أهل الصين ولا أهل إيرلندا. .
قال لي صديق مشاغب منبها . . ومعلقاً على ما ورد في كتب تاريخ السودان : أليس "أحمد العقاد" تاجر الرقيق المشهور في سودان القرن التاسع عشر، والذي –كما تقول كتب التاريخ-أنه استولى على أكثر من تسعين ألف ميلاً مربعاً في المديرية الإستوائية ، بسكانها ومواردها ، هو من أقارب المفكر عباس محمود العقاد. . ؟
هلا اكملت لنا ما صورت، أخي العزيز الأستاذ عبد الله علي ابراهيم ، عمّن تفاعل وعمّن تقاعس عن التفاعل مع أول ثورة وطنية في السودان. . ؟
الخرطوم – 18 يوليو 2020