العلمانيَّة وخيار الوحدة في السُّودان (10 من 10)

 


 

 

 

shurkiano@yahoo.co.uk

 

خلاصة

بعد تجدُّد العدائيات ونشوب الحرب الأهليَّة الثانية في جنوب السُّودان في أيار (مايو) 1983م أضاع أهل الحل والعقد في الخرطوم فرصاً ثمينة لوقف نزيف الدم قبل تمدُّده، وتضميد جراح الوحدة الوطنيَّة التي أخذت تنجرف نحو الهاوية بعجلة تسارعيَّة، غير أنَّهم عملوا على تأزيم المشكل السياسي بإعلان قوانين الشريعة الإسلاميَّة بعد أربعة أشهر من اندلاع الحرب في البلاد لتمسي هذه القوانين وقوداً للحرب، وعاملاً للاستقطاب السياسي الحاد. فما هي هذه الفرص الثمينة المهدرة التي كان بوسع الصفوة السُّودانيَّة الإمساك بها بقوَّة للعبور بالوطن إلى بر الأمان؟
أولاً، كان على قادة المجلس العسكري الانتقالي بقيادة الفريق أوَّل عبد الرحمن محمد الحسن سوار الدهب والحكومة الانتقاليَّة برئاسة الدكتور الجزولي دفع الله استخدام الشرعيَّة الثوريَّة وإلغاء هذه القوانين التي أخذت تفرِّق بين المواطنين السُّودانيين بسبب العقيدة، وبما أنَّها صدرت بمرسوم رئاسي، كان ينبغي إلغاؤها بمرسوم رئاسي أيضاً، فضلاً عن أنَّ إلغاءها كان أحد شعارات الانتفاضة الأبريليَّة الشعبيَّة العام 1985م، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، وكانت حجَّتهم بأنَّهم ليست لهم صلاحيات لإلغاء هذه القوانين، ولكنهم سوف يتركون أمرها للحكومة المنتخبة لتقرِّر في شأنها.
ثانياً، جاءت الحكومة الشرعيَّة برئيس وزراء منتخب، وتفاءل أهل السُّودان، وتوسَّموا خيراً بأنَّ رئيس الوزراء السيِّد الصَّادق المهدي، الذي طالما أخذ يردِّد في حملته الانتخابيَّة أنَّ هذه القوانين لا تساوي المداد الذي كتبت به، لسوف يقوم بإلغائها فوراً بعد تربُّعه على كرسي السلطة، لكن يا تُرى ماذا قال سليل المهدي؟ قال الصَّادق المهدي إنَّ أعضاء المجلس العسكري الانتقالي والحكومة المدنيَّة الانتقاليَّة كان بإمكانهم القيام بإلغائها لأنَّهم كانوا يجتمعون في غرفة واحدة! ونحن إذ نتساءل ما علاقة الاجتماع في غرفة واحدة بإلغاء قوانين أيَّة قوانين، وبخاصة مثل تلك القوانين التي كانت سبباً رائساً في تجاوزات مروِّعة في حقوق الإنسان، وتفريط في العدالة والمساواة، وتهديد للوحدة الوطنيَّة وهلمجرَّاً. والغريب المدهش في الأمر أنَّ الصَّادق المهدي وآخرين كانوا قد عارضوا هذه القوانين حين أصدرها الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري في أيلول (سبتمبر) 1983م. فبينما أعدم نميري الأستاذ محمود محمد طه بسبب معارضته لهذه القوانين بشيء من المعارضة شديد، وبخاصة بعد صدور منشوره الشهير "هذا أو الطوفان!"، دخل الصَّادق المهدي ومساعدوه السجن، وأُفرِج عنهم بعد حين. وكان في إعدام الأستاذ محمود برهانٌ على ارتعاد الطاغية على عرشه، وقد صدق عبد الرحمن الكواكبي حين قال في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" "إنَّ المستبد يخاف من العلماء العاملين الرَّاشدين، لا من العلماء المنافقين."
ثالثاً، كانت اتفاقيَّة السَّلام الشامل العام 2005م نافذة أخرى من نوافذ الفرص في إعادة النظر في مسألة هذه القوانين المدعاة إسلاميَّة وجعل خيار الوحدة الوطنيَّة جاذباً، ولكن بدلاً من ذلك فرَّط أهل الحل والعقد في هذه السانحة، مما أدَّى الأمر إلى انفصال جنوب السُّودان بموروثه الثقافي، وتعدُّده الإثني، وموارده الطبيعيَّة. هذه السانحات الضائعات كان من الأجدر استغلالها لرتق النسيج الاجتماعي، وفي سبيل الحفاظ على وحدة الوطن المتداعية تراباً وموارداً وثقافات.
أما الآن فهناك منبر جوبا للتفاوض، وها هي الفرصة التأريخيَّة قد لاحت أيضاً، وإذا لم يع قادة السُّودان الجدد والقدامي الدروس، وإن لم يأخذوا بالعبر، ثمَّ لم ينظروا إلى طرح الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان – شمال في مسألة العلمانيَّة لكيما يمسي خيار الوحدة في السُّودان جاذباً، فسوف لم يغفر لهم التأريخ. إذ أنَّ القادة الوطنيين يفكِّرون دوماً وهم ينظرون إلى مستقبل الأجيال، والبنَّاءون الحاذقون يشيدون الصروح لكي تقاوم الأعاصير وتعيش أحقاباً بعد أحقاب. كما يستوجب علينا أن لا يكون لنا هنا اختيار ثنائي: إما أبيض أو أسود. عليه، نحن ننصح صفوة السُّودان اليوم في مجلس السيادة الانتقالي والحكومة المدنيَّة الانتقاليَّة وتحالف قوى الحريَّة والتغيير وزعماء الأحزاب السياسيَّة وقادة الفكر والمعرفة ومراكز البحوث الثقافيَّة ونشطاء حقوق الإنسان ومنظَّمات المجتمع المدني والشباب والمرأة وغيرهم أن يعطوا هذا الأمر أهميَّة قصوى إذا كانوا يرغبون في أعظم ما تكون الرغبة في بقاء السُّودان بحدوده المتبقية بعد ذهاب الجنوب إلى سبيله. إنَّني لست بنبيٍّ، ولكن إذا أصرَّ بعض أهل السُّودان على انتهاج هذا المسلك العقدى في مصالح الشعب العامة، فإنِّي لأخشى أن يصحو السُّودانيُّون يوماً ولن يجدوا سوداناً ولا إسلاماً، وعليهم أن يتركوا أمور الدِّين لله وحده لا شريك له، وللفرد وحده في معاملاته الشخصيَّة، والله قادر على حماية دينه وهو تبارك تعالي القائل: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر: 15/9).
وبناءً على ذلك ينبغي تحرير السياسي من اللاهوتي، وتشييد عزيمته على علمنة الحقل السياسي، وضرورة تنظيم الدولة الحديثة حول قانون علماني من العقلنة. إذ لا يعني ذلك أنَّ حريَّة النَّاس تتطلَّب عالماً من دون الله، بل تفرض في الإنسان يقظة أن يعي ذاته، ويتولَّى شؤون نفسه بنفسه. وفي نهاية الأمر يستوجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أنَّه قد آن الأوان أن نعي أنَّ السلطة السياسيَّة ليست تأسيساً إلهيَّاً، وأنَّ رئيس الدولة أو زعيم الحزب أي حزب ليس نائباً لله في الأرض، وأنَّ السياسة العموديَّة هذه ما هي إلا بموجب عقد اجتماعي يخوِّله لهم الشعب بموجب أمر القيادة، وإنَّ الدولة الأرضيَّة بحاجة ماسة للتنظيم الذي يمنحها الإنسان إيَّاه، والذي يحدِّد في آنٍ واحد مع نظام الدولة أشكال وجود شعب بأكمله، فليست السياسة شأناً سماويَّاً، إنَّما هي من الفعل الأفقي والمدني للإنسان. إذ أنَّ المؤسَّسات الاجتماعيَّة والسياسيَّة السيئة تجر النَّاس إلى دروب خطيرة، حيث تتلاشى فيها كل فضيلة.

 

آراء