عندما فقدت جامعة الدول العربية ظلّها
لعلّ أقلّ المراقبين حصافةً لن يغيب عن نظره قصور الظلِّ السياسي لجامعة الدول العربية، فيما تتزايد بؤر الهجير في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. تحتضن تلك المنطقة الجغرافية بلدان تلك المنظمة، وهي كيان إقليمي أقدم من منظمة الأمم المتحدة بعامين. على الرغم من الشكوك بشأن مَن عمل على إنشائها في أوائل أربعينيات القرن الماضي، وعلى الرغم مما اعتورها من علامات الهرم والتآكل، وقد تجاوز عمرها سبعين عاماً، فإن الأرَضة لم تقترب من منسأتها بعد. في سبيل تنشيط فعاليتها، اتبعتْ جامعة الدول العربية دبلوماسية القمم الرئاسية منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي. عدا ذلك، فإن إيقاع حراكها ظلَّ رهيناً بقضية الصراع العربي الإسرائيلي الذي بقي هاجساً عربياً قومياً منذ احتلال الكيان الصهيوني الأراضي الفلسطينية. ولأسبابٍ تتصل بتداعي رايات القومية العربية في الأعوام التي تلت عام الهزيمة الكبرى في يونيو/ حزيران 1969، فقد بدأ مشوار التحلل الخجول عاماً بعد عام، إلى أن بلغ الحال بالدول العربية أن قبلتْ بمبدأ حل الدولتين في المبادرة العربية التي طرحها ولي العهد السعودي في حينه، عبدالله بن عبد العزيز، عام 2002 في قمة بيروت. ثمّ جاءت إدارة الرئيس الأميركي الراهن، ترامب، ليعهد بملف الصراع العربي الإسرائيلي إلى مستشاره وصهره، جاريد كوشنر، ويكلفه بحياكة حلٍّ للمشكلة بما ذاعت تسميتها صفقة القرن، ويا لها من صفقة، وقد تجاوزت روجرز وكيسنجر و"كامب ديفيد" و"أوسلو"، وبقية محطات التفاوض المعقدة التي دارت منذ عقود.
ولك أن تسأل الآن عن دور الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، طوال سنوات الصراع الطويلة، وعما انتهت إليه اجتماعات وزرائها، وعن دور قمم ملوكها وأمرائها ورؤسائها في الإسهام لحلِّ قضية العرب الأولى: أين هي وماذا أنجزت؟ لو افترضنا أن كوشنر عمد إلى التشاور مع مساعديه المدركين خلفيات الصراع، فقد أعدِّ ملفا تضمّن جملة إجراءات، لا أحد يعرف إن كان قد استمع، على نحو متساوٍ، على وجهتي نظر الطرفين المتصارعين، أو إن مرّ على وثائق التفاوض المعقدة بينهما. تضمنّت الإجراءات التمهيدية للصفقة المزعومة نقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى مدينة القدس المحتلة، وبعدها غضّ الطرف عن ضمِّ أراض عربية محتلة منذ حرب يونيو/ حزيران 1967، إلى دولة الكيان الصهيوني، بتجاهلٍ تام لقرارات الأمم المتحدة. إذن، هيَ صفقة مشبوهة، لم تأتِ من حَكَمٍ عدلٍ، ولا من وسيطٍ محايد.
لم توافق جامعة الدول العربية على الصفقة، بل ذكّر العربُ أنفسهم في مؤتمراتهم أن المبادرة العربية بقيام الدولتين، فلسطينية وإسرائيلية، المعلنة في العام 2002، هي التي ينبغي التمسّك بها. ولكن لن يغيب عن النظر أن تقاطع مصالح أطرافٍ في الساحة الدولية، وتعقيدات في تلك العلاقات واضطرابات في أوضاع أكثر بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أفضتْ جميعها إلى واقعٍ عربيٍّ جديد، يرزح لاهثاً تحت لافتة الربيع العربي.
لعلّ أوّل من هبَّتْ عليه نسائم ذلك الربيع الدولة التي تحتضن أمانة الجامعة، والأنسب القول إنها تحتكر مقر ورئاسة أمانة الجامعة. وزعم بعض من تطرَّف في وصفها، إنها (الجامعة) صارت مثل بقية الآثار المصرية الرّاسخة: الأهرامات وأبو الهول. وما خرجت أمانة جامعة الدول العربية من القاهرة، إلا في ظروف استثنائية إلى تونس، ثم ما لبث أن عاد التقليد إلى القاهرة، وأكثر رسوخاً من قبل. وليس لك أن تعجب إنْ صار تقليداً متبعاً، أن تكون وظيفة الأمين العام لجامعة الدول العربية هي المحطة الأخيرة في الوظيفة الدبلوماسية لكلّ وزير خارجية مصري يغادر منصبه. وذائع أن أمانة جامعة الدول العربية هي جزء من منظومة وزارة الخارجية المصرية.
ليسَ ذلك قدحاً في كفاءة الدبلوماسية المصرية، وإن كان تقليداً متبعاً، لا غروَ في أنه قد شكّل انتقاصاً غير مرئيٍّ في حيادية أداء الأمانة وأضعف فعاليتها. لو رصدنا عوامل التعقيد الجاري في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، جرّاء حراك الشعوب في مواسم ربيعها السياسي، ثمّ عدَّدنا بؤر الصراعات والنزاعات والحروب المشتعلة، من سورية إلى اليمن، ومن ليبيا إلى السودان والجزائر، فإن عجز أمانة جامعة الدول العربية إزاء ذلك الواقع، بات سِـمَة واضحة في أدائها، على الرغم من حرصها الدؤوب على تنظيم اجتماعاتها بصورتها الرتيبة. أما تعدّد مجموعات التعاون المشترك، مثل مجلس التعاون الخليجي، أو مجموعة مجلس التعاون العربي التي ضمّ مصر والعراق والأردن واليمن، إضافة إلى مجموعة "اتحاد المغرب العربي" غير النشطة، فإنّ بداياتها الإيجابية آخذة في التحوّل إلى شبه أحلافٍ وتكتلاتٍ ألقت بظلالها السالبة على التضامن والتماسك اللذين كانا أهم ما نصّ عليه ميثاق جامعة الدول العربية وألزم أعضاءها به.
هذا واقع ملتبسٌ، أفقد أمانة جامعة الدول العربية وأجهزتها أهمّ قدرتها، قدرة الحضور المؤثر في ساحات السياسة العربية. ليس ذلك فحسب، بل أفقدها دوراً ريادياً متوقعاً للإسهام في حلِّ الأزمات. في المقابل، نرى للأمانة العامة في هيئة الأمم المتحدة، دوراً مشهوداً في الأزمة السورية، وفي ليبيا وفي اليمن، وأيضاً في لبنان، فيما لا نكاد نسمع للأمانة العامة لجامعة الدول العربية دوراً يذكر، عدا البيانات التي لا تصدر إلا متأخرة، وتعزّز دور الأمانة العامة ظاهرة صوتية محضة، وتكرّس لأمينها العام حضوراً باهتا.
يرى أكثر المراقبين أن هذه المنظمة الإقليمية، وهي الأقدم تاريخاً والأرسخ جغرافية، قد فقدتْ ظلها تماماً، ولم تعد تقي إقليمها حرّ الأزمات، ولا نيران الصراعات الملتهبة. ذلك بمجمله عائدٌ إلى سبب وحيد، عجزها عن الاقتراب من شعوبها، والاكتفاء بتمثيلها الحكومات العربية. وأكثر وجوه هذا العجز هو فقدان القدرة على الإمساك بقوة بملف القضية القومية الأولى، والفشل في حماية إقليمها بفعاليةٍ من تغوّلات الطامعين، من أمثال الرئيس الأميركي ترامب، الذي يعمل على استغلال الصراع العربي الإسرائيلي، فيقدم طرحاً فطيراً ذاع باسم "صفقة القرن"، غرضها حضّ الدول العربية على التطبيع مع دولة إسرائيل، ليكسب فترة رئاسية ثانية في الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، في مواجهة هذا الاستخفاف الأميركي، لا تملك أمانة جامعة الدول العربية، للأسف، إلا صوت المجاملة المجانية، يصدر من لسان أمينها العام، فيما يتطلب الأمر عقد قمة عربية طارئة وفورية.
/////////////////////////