Government and Christian Missions in the Anglo-Egyptian Sudan, 1899 - 1914 (2/2)
ريتشارد هيل Richard Hill ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص للجزء الثاني والأخير من بعض ما ورد في مقال طويل للمؤرخ البريطاني ريتشارد هيل عن "إرساليات الحكومة والمسيحيين التبشيرية في السودان الإنجليزي – المصري بين عامي 1899- 1914م"، نشر بالعدد الأول من مجلة "دراسات الشرق الأوسط Middle Eastern Studies" الصادرة عام 1965م. وريتشارد هيل (1901 – 1996م) هو مؤرخ أكاديمي مختص بتاريخ مصر والسودان والشرق الأوسط، ومؤلف لعدد من أمهات الكتب عن تاريخ السودان منها "قاموس الشخصيات السودانية" و"مصر في السودان" و"المواصلات في السودان"، وهو من أنشأ "أرشيف السودان بجامعة درم البريطانية". ونشر ريتشارد هيل – بالاشتراك مع بيتر هوق - كتابه الأخير المعنون "صفوة الفيلق الأسود: كتيبة المجندين المصريين -السودانيين مع الجيش الفرنسي في المكسيك، 1863 -1867" وقد تجاوز عمره 94 عاما. للمزيد عن موضوع هذا المقال يمكن النظر في المقال المترجم المنشور بعنوان "حول المسائل الدينية في العشرين عاما الأولى من الحكم الثنائي"(1) المترجم ******** ********** ********** كان الحكام البريطانيون يخشون مما قد يحدث نتيجة لحماسة دينية غير منضبطة، مهما كان مصدرها. وكانوا دوما في حالة من الحذر والترقب. وكانوا يدركون أن القانعين من ذوي البطون الممتلئة أقل ميلًا إلى الانضمام لركاب المسلمين المتعصبين الذين أقلقوا السلطات الأمنية في السنوات الأولى. وكانت السلطات تراقب أيضا نشاطات الإرساليات المسيحية لدرجة كادت أن تبلغ مرحلة الهزل، حين طلب كرومر أن يتم تعيين كل قس تابع للقوات البريطانية في الشمال برتبة ضابط صف، وألا يظل بين رجال الجيش أي "رجل دين عابِر / غير رسمي"، قد يتبين ذات يوم بأنه كان "مبشرا متنكرا". واستلزمت ترجمة كرومر ووينجت لسياسة الحكومة إلى قوانين ولوائح نحو خمسة أعوام من التجربة والخطأ. وتم إصدار لوائح تنظيم العمل التبشيري في عام 1905م. وبدت لهجة تلك اللوائح معتدلة ولكنها غير مشجعة. ووصف مدير المخابرات لورد إيدوارد سيسيل تلك اللوائح بأنها "ماء ولبن ... وقليل من اللبن". وحددت تلك اللوائح أن التبشير المسيحي ينبغي أن يقتصر على مناطق معينة في جنوب السودان، حددتها الحكومة سلفا لكل إرسالية، بحسب قاعدة: منطقة واحدة، إرسالية واحدة cuis regio, eius religio. وتم منع أي محاولة لاصطياد أو اجتذاب سكان المناطق الواقعة في المناطق الفاصلة بين موقع إرسالية وأخرى لأي إرسالية بعينها. وتم منع إنشاء أي إرسالية شمال خط 100 عرضا. وتعهدت الحكومة بتوفير كل الاحتياجات الدينية للجنود المسلمين في الحاميات والموظفين المدنيين في "المناطق غير المسلمة". وفي عام 1904م قام كرومر في تقريره السنوي عن أعمال الإرساليات بالتقليل من دورها في التنصير، وركز على دورها التعليمي. وسطر في يوم 6 ديسمبر عام 1904م رسالة إلى جمعية الكنيسة التبشيرية محذرا إياها من أنه ليس من حق الإرساليات حق احتكار التعليم، وأنه سينظر باهتمام وتعاطف في طلبات المسلمين لإنشاء مدارس تُدرس فيها مبادئ الدين الإسلامي. وبدا كرومر وكأنه يريد أن يؤكد موقف الحكومة اللامبالي بالإرساليات، حين أعقب في تقريره السنوي لعام 1904م ما ذكره عن الإرساليات بجزء عنوانه الجانبي: "الحج إلى مكة". واحتجت الإرساليات الأمريكية ضد ما قررته حكومة السودان من رسم لحدود المناطق التي يُبشر فيها بكلمة الرب. واتقفت الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية على معارضة بناء مساجد في جنوب السودان. وفي رسالة بتاريخ 29/8/1911م اشتكى القس قوين لسير ويجنت من ضابط بريطاني بالجيش المصري قام ببناء مسجد للحامية والضباط في واو، عاصمة مديرية بحر الغزال. وجاء في رسالة قوين التالي: "من عين هذا الرجل؟ أهو رجل متحرِّر وداعر وإِبَاحِيّ إلى حد ما؟ مهما يكن، فينبغي أن يدرك هذا الرجل سوء تقديره وجسامة الخطأ الذي ارتكبه. كم أتمنى أن يجعل الله من الممكن أن يتولى التبشير بين هؤلاء الوثنيين رجال متزوجون". أقر وينجت بأن بناء مسجد بواو سيساعد على انتشار الإسلام في المنطقة، غير أنه دافع عن موقف ضباطه مما سماه افتراءات " المبشرين المتعصبين والمخطئين". وكانت حكومة السودان والإرساليات البروتستانتية تحتفل بذكرى الجنرال غردون، ولكن من وجهتي نظر مختلفتين. كان كتشنر قد أقام مدرسة في الخرطوم سماها "كلية غردون التذكارية"، وهو اسم سيعجب من قرأوا عن كفاح غردون ضد العبودية والظلم العام. وعلى الرغم من أن أوائل دُفع الكلية شملت بعض التلاميذ المصريين والسوريين المسيحيين، وأبناء الضباط ورجال الأعمال بالمدينة، إلا أن الحكومة لم تكن ترغب في أن تكون تلك الكلية سوى مؤسسة إسلامية في شمال السودان المسلم في سواده الأعظم. ولم يرض هذا بعض المبشرين. فقام القس سي. آر. واطسن سكرتير مجلس أمناء الإرساليات الأجنبية في البعثة المشيخية المتحدة لشمال أمريكا بشن هجوم على لورد كرومر لسماحه بتدريس الدين الإسلامي في كلية غردون. وكتب في دورية كنسية عام 1905 بما يفيد أن: "هذه كلية مسيحية، أقيمت تخليدا لذكرى شهيد مسيحي بأموال تبرعات مسيحيين ومسيحيات، وتحت إدارة حكومة مسيحية!". وكرر القس قوين في مؤتمر عالمي للكنائس عُقد في أدنبرا عام 1910م نفس أقوال واطسن، مصرا على أنه ينبغي أن تكون كلية غردون شاهدا حيا على حياة غردون، وأن بمقدوره تقديم شواهد ودلائل (مخجلة) على أن كلية غردون هي كلية محمدية، وأنها تستخدم اللغة العربية في التدريس ويستشهد في دروسها بالقرآن، ولكنها لا تدرس أو تشير للإنجيل قط. وفي ذلك المؤتمر ساد شعور عام بين المشاركين أن الإدارات البريطانية في أفريقيا تؤثر المسلمين على المسيحيين. وسجل الإداري البريطاني في نيجيريا سير ريتشارد بالمر (الذي كان قد قام في عام 1919م برحلة من مادوغري بشمال نيجريا إلى السودان ثم إلى جدة) ما يفيد بأن:" من المؤكد جدا بأن النظرة العامة عند الإنجليز (ولكن ليس أتباع المحمدية أنفسهم) تستحسن الإسلام كدين، وأن هذا هو أكبر العوامل التي أدت لحفظ السلم في السودان في غضون سنوات الحرب العالمية الأولى". وكان بالمر يرى أيضا أن الإدارة البريطانية بالسودان محافظة جدا، ومؤيدة للعرب. وفي يوم 20مايو 1912م كتب واطسن رسالة إلى سير ونجت دافع فيها عن موقف القس الأمريكي جي. قيفن متهما أمناء كلية غردون بمُمَالَأَة الحكومة، ومؤكدا ثقته في أن لعامة المسيحيين (في العالم) الرغبة القوية الصادقة في أن يكون لذكرى اسم غردون ارتباط وثيق بممارساته وقناعاته الدينية. وكان القس جي . أف. بليث، مطران القدس (الذي يتبع السودان لأَبْرَشِيَّته) يرى أن تدع الإرساليات بالسودان التبشير المسيحي جانبا، وأن تركز على البعثات الطبية، فهذه أفضل وسيلة لخدمة غرضها. أما سير وينجت، فقد كان من رأيه ألا يكون رئيس الكنيسة الانغليكانية مرتبطا ارتباطا مباشرا بأي جمعية تبشيرية، بل ينبغي أن يعمل فقط كمرشد وموجه للإرساليات (التي يجب أن تلتزم بالقوانين واللوائح الحكومية المنظمة لعملها، وبما يراه رئيس الكنيسة الانغليكانية)، وأن يتم تحاشي أي صراع بين الحكومة والكنائس. وكان تعيين قوين كرئيس للشمامشة (Archdeacon) في السودان عام 1905م، ثم كأسقف (Bishop) في الخرطوم عام 1908م، يمثل انتصارا لسياسة وينجت القاضية بإبعاد إدارة الكنائس عن تأثير جمعيات الإرساليات التبشيرية. وكان وينجت يراها – في أحسن الأحوال - كجمعيات شديدة التعصب والأصولية. وكان يحس – بكثير من القلق- تنامي نشاطات ما سماه "الحزب الديني clerical party" عند بعض كبار موظفيه، مثل ميد ونتر باشا (مدير السكة حديد)، وبعض رجال الدين المسيحي مثل القس اتس. سي. روبن. وكان يرى ضرورة اجتثاث ذلك المد الديني قبل استفحاله، وكتب إلى لورد كتشنر في القاهرة (وكان حينها يشغل منصب القنصل العام لبريطانيا في مصر) كي يحذر رئيس الاساقفة في مدينة كانتربري، ويطلب منه النأي بنفسه عن محاولات قوين وغيره من رجال الدين المسيحي بالسودان للتأثير عليه. وأضاف بأننا "في الخرطوم، وهي مركز للمسلمين المتعصبين، ولسنا في أوغندا". وفي بداية عهد الحكم الثنائي كان أفراد الجالية الأنغليكانية الصغيرة بالخرطوم يقيمون صلواتهم في غرفة بقصر الحاكم العام لعدم وجود كنيسة خاصة بهم. وفي عام 1902 بدأ العمل في بناء كنيستهم المسماة "كنيسة كل القدسيين"، بعد أن وضع حجر أساسها الأمير هنري أمير باتنبرغ (Prince Henry of Battenberg). وخاطب ونجت الاحتفال، بينما ألقى قوين موعظة فيه. وصار "لاهوت المسيحيين في الخرطوم" منذ تلك السنوات الباكرة يشكل شخصياتهم المميزة، خاصة عند البريطانيين والأمريكيين. والتمس مجلس الكنائس من عموم الشعب البريطاني التبرع بالمال لبناء تلك الكنيسة. وكتب وينجت وزوجه خطابات إلى الصحف يطلبان فيها بالتبرع لبناء "كنيسة إنجليزية" بالخرطوم. ونشرت جريدة "إستار" اللندنية بتاريخ 2/9/1902م ملخصا لخطاب السيدة وينجت عنونته بحروف كبيرة: "نشر التمدن". أما صحيفة "ايفينق نيوز" فقد عنونت الخطاب هكذا: " لم يعد متوحشًا". تلك كانت صحافة الجهل. غير أن فكرة أن إنشاء كنيسة هو عمل يعكس إنجاز الإنجليز في الخارج، وينبئ عن انتشار قبول الحضارة البريطانية، كانت فكرة مقبولة بصورة واسعة في الدوائر الأنغليكانية. وأصر القس بليث على أن يكون معمار تلك الكنيسة على الطراز الإنجليزي. وكتب بما يفيد أن "معمار وهندسة الكنائس البيزنطية في الشرق ليس بجودة الكنائس الإنجليزية. لا نحتاج للنقل من الأشكال المحلية، بل علينا أن نبرز (من فنون المعمار) ما هو إنجليزي ". واكتمل في عام 1912م بناء الكنيسة (الكاتدرائية الآن) وتم افتتاحها على يد الدكتور أي .اتش. ويننقتون – إنجرام، مطران لندن. وكانت ظروف إعلان تلك الكنيسة كاتدرائيةً (أي أكبر كنيسة في المنطقة. المترجم) توضح خوف السلطات البريطانية في القاهرة والخرطوم من زرع أي تأثير كنسي في السودان ربما يضع سياسة السودان تجاه الإرساليات المسيحية موضع تساؤل. وكان اختيار مطران لندن لافتتاح تلك الكاتدرائية مثيرا لدهشة الكثيرين بالنظر إلى قلة عدد الأنغليكانيين بالبلاد. وسرعان ما أدرك سير وينجت الآثار المترتبة على ذلك، فبعث برسالة في 6/3/1910م إلى السكرتير الإداري، العقيد فيبس (وهو أحد أعضاء مجلس كنائس الخرطوم) يقول له فيها إن هنالك إحساسا عند كثير من الدوائر العالمية بأن مجلس الكنائس يضغط بشدة من أجل إقامة كاتدرائية، إن لم نقل عمل "ترتيبات بابوية" بالخرطوم. وشعر السير لي استاك، مدير المخابرات الحربية بالقاهرة بأن مطران لندن كان له غرض خبيث في إعلان تلك الكنيسة كاتدرائية، فقد كان يرغب في مد نُفُوذ رِجَال الدِّين عَلَى السِّيَاسَة (clericalism) وبدء سياسة هجومية عنيفة للإرساليات. ومن جانبه، ألقى مطران لندن في يوم 23/1/ 1910م خطبة في كنيسة ويست منستر أيد فيها ببعض الاعتدال حملة جمع التبرعات لبناء كاتدرائية الخرطوم، وعبر عن مشاعر الخزي والخجل من أن الأنغليكانيين هم من المسيحيين القلائل الذين لم يشيدوا لهم مكانا بعد للتعبد – وهذا ليس بقول صحيح حرفيا – ولكنه كان فعالا خطابيا. وتساءلت صحيفة "Church Times" في عددها الصادر يوم 28 يناير 1910م عن الفائدة التي ستُجنى من تلك الكاتدرائية. وأضافت أن "قيمة الكنيسة تكمن في روحانيتها، وليس في شكلها المادي. غير أن هذه ليست هي وجهة النظر المقبولة عند السلطة الإنجليزية التي تحتل الخرطوم الآن، فتلك السلطة عملت، منذ أول يوم لها في الحكم، في تثبيط الحماس التبشيري المسيحي". وخلصت الصحيفة إلى أن الغرض الرئيس من بناء تلك الكاتدرائية كان هو عرض هيبة وأبهة الدولة في المناسبات الرسمية. وخطب القس قوين في كاتدرائية سانت بول يوم 26 يونيو 1910م، وتحدث حديثا سياسيا حول الذين يخطئون بنصيحتهم لنا بالخروج من مصر والسودان، وترك "الأهالي" يحكمون أنفسهم بأنفسهم. وأضاف: "لولا موت غردون لما تمكنا من كنس النظام القديم. ووجود تلك الكاتدرائية في الخرطوم ستثبت لسكان البلاد أن الإنجليز قد أتوا ليبقوا". وحُدد يوم 26 يناير 1912م كيوم لبدء الصلوات في الكاتدرائية، وكان ذلك اليوم يصادف الذكرى السابعة والعشرين لمقتل الجنرال غردون. وكانت التحضيرات تجري على قدم وساق بالخرطوم عندما فجر مطران لندن مفاجأة من العيار الثقيل عندما شن في (قاعة البرت) في 27 سبتمبر من عام 1911م هجوما كاسحا على الدين الإسلامي بطريقة أثبتت أنه كان يجهل الكثير عن مبادئه. وتولى الرد عليه وتصحيح مفاهيمه بروفيسور أنغليكاني من جامعة أكسفورد اسمه مارقولوث، وهندي مسلم اسمه عباس ميرزا، وذلك في رسالتين لصحيفة التايمز يوم 29 سبتمبر 1910م. وغضب كتشنر عند سماعه لما قاله مطران لندن، وفكر في إلغاء زيارته للخرطوم. وأرسل ونجت للقس وينجت في 9/10/1911م قصاصات من خطاب مطران لندن المسيء، وخطبة أخرى تسيء للمسيحية ألقاها الشيخ علي يوسف رئيس تحرير مجلة إسلامية مصرية اسمها "الميعاد"، ليبين كيف أن (المطران) المسيحي قد انحدر لذات الدرك الذي بلغه (الشيخ) المسلم. وأصر وينجت على ضرورة منع مطران لندن من الاستمرار في ذلك السلوك الذي يشكل خطرا سياسيا، خاصة وأن هنالك حرب تدور في تلك الأيام بين تركيا وإيطاليا بين مسلمين ومسيحيين (2). وعند وصول مطران لندن للقاهرة وهو في طريقه للخرطوم، تولى لي استاك حراسته وأبقاه تحت المراقبة اللصيقة في مبنى "وكالة السودان" بالقاهرة مخافة أن يدلي بتصريح أو خطبة في محفل مسيحي قبل أن يوضع في القطار المتجه جنوبا. غير أن المطران التزم الصمت في القاهرة ولم يقل شيئا مسيئا لأحد في خطبته بالكاتدرائية بالخرطوم، ومرت المناسبة دون أي مشكلة تذكر. وقام وينجت بالإشادة بالمطران في رسالة إلى كبير أساقفة كنيسة كانتربري، وبسلوكه الذي شَرَّفَ البريطانيين "الذين يحملون عبء الرجل الأبيض في أرجاء أفريقيا السوداء". إلا أن رأي وينجت في مطران لندن كان (كما ورد في رسالة له للي ستاك في يناير 1912م) هو أنه "رجل جديد وساذج، وشديد التدين بالطبع، ولكن يفتقر للحكمة. لذا لا يجب إرسال مثل هذا الرجل إلى دول الشرق التي لا يعلم شيئا عن أحوالها السياسية أو الاجتماعية، وألا يُستمع لنصحه في شأن العلاقة بين الدولة والكنيسة". ويتضح مما سبق أن الإرساليات (خاصة البروتستانتية) كانت شديدة الانتقاد لمواقف لحكومة وسياستها، ومن معاملة وينجت ممثليها وكأنهم من صغار الموظفين تحته. وفي المقابل، كان المبشرون (المنتشرون في جنوب السودان) لا يقيمون وزنا لمؤسسة الدولة، ويعدون السلطات المدنية في السودان غير متعاونة ومعادية لهم. وكانت بعثة المشيخية الأمريكية المتحدة (البعيدة عن السياسة تماما) تُعامل باحترام لا تلقاه الإرساليات الأخرى، ولكنها كانت أيضا تنتقد الحكومة. أما الكاثوليك الرومان (أكبر البعثات التبشيرية بالبلاد) فقد لزموا الصبر الممض وقبلوا بالتعامل مع "قيصر"، وبدا أنهم كانوا يتحلون بخبرة دنيوية يفتقر إليها إخوانهم الانغليكانيين وأتباع المشيخية الأمريكي. وكانت مسألة اللغة في جنوب السودان من أوائل المسائل المرتبطة بمسألة الإرساليات. غير إنهما في الواقع كانتا مسألتان منفصلتان تماما. وكانت استعادة حكومة السودان لمنطقة (جيب) لادو في عام 1910م قد جعلت حل مسألة اللغة أمرا ملزما وملحا. وبقي السؤال هو: ما هي اللغة المشتركة التي ستستخدم في منطقة لادو، بل في سائر جنوب السودان؟ كانت الخيارات العملية الموجودة هي إما العربية أو الإنجليزية. وكانت اللغة المستخدمة في الأعمال الحكومية حتى ذلك الوقت هي العربية المبسطة مع قليل من اللغة الدارجة المحلية. وبذلك الوضع لم يجد الأهالي في المنطقة أي حافز لهم لتعلم اللغة الإنجليزية. وأجتمع في أواخر عام 1910م بعض قساوسة الإرساليات من مختلف المذاهب المسيحية لبحث مسألة تعليم الإنجليزية. وكان القساوسة من ذوي الأصول الألمانية والإيطالية لا يرون فائدة من تعليم اللغة الإنجليزية إن لم يقم مديرو المديريات الجنوبية بتشجيع تعيين الأهالي الذين يعرفون اللغة الإنجليزية في وظائف حكومية. وكان الانغليكانيون يؤمنون بأن للغة علاقة قوية بالدين، وبأن تعلم الجنوبيين للعربية سيقربهم من التأثير الإسلامي. ولخص القس قوين ما توصل إليه القساوسة من ضرورة أن يحفز مديرو المديريات الجنوبيين لتعلم اللغة الإنجليزية "حتى تظفر الإرساليات المسيحية بفرصة، ولو قليلة، ضد المزايا الضخمة التي يبدو أن الإسلام يتمتع بها الآن في جنوب السودان". ولم يكن وينجت في حاجة لتشجيع حتى يجعل اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية بالجنوب، فأمر أولا بعدم تدريس اللغة العربية في مدارس الإرساليات. ولم يعط وينجت لقراره أي تفسير. وربما كان السبب هو رغبته في تعليم الجنوبيين لغةً تعطيهم مجالا أوسع للانفتاح على العالم أكثر من العربية. وقد لا يتصور الناس مدى التخلف الذي كان عليه جنوب السودان (في بدايات القرن العشرين)، إذ أنه كان خارج اقتصاد السودان المالي فيما عدا بعض الموانئ النهرية. أما اللغة العربية، فلا شك أن وينجت ومستشاريه بالخرطوم كانوا يجهلون ميزاتها. ففي عام 1910م لم يكن هنالك اهتمام بتلك اللغة في الغرب، وليس فيه سوى القليل من المدارس والمعاهد الإسلامية والعربية. وكان المستشرقون في الغالب لا يكتبون إلا عن النحو العربي للمتخصصين في ذلك الفرع اللغوي. وكان من العسير على خريجي مدارس الإرساليات الكنسية الحصول على وظائف حكومية، إذ أن اللغة العربية كانت لا تزال هي اللغة المشتركة والرسمية للدولة. وكان من رأي وينجت أن يبدأ بالعمل في تدريس الإنجليزية بالمدارس بسرعة ودون دعاية أو ضجة، وفرض الأمر الواقع قبل أن يلاحظ أي أحد أن تغييرا قد وقع بالفعل. وكان من رأيه أن اللغة الإنجليزية ستكون أسهل في التعلم للجنوبيين من العربية. وكان وينجت لا يرغب في الإفراط في معاكسة الإرساليات. لذا كانت المحصلة النهائية هي ترجيح كفة اللغة الإنجليزية لتغدو لغة التدريس في مدارس الإرساليات عوضا عن العربية. فونجت في نهاية المطاف هو رجل مسيحي، وإنجليزي أيضا. وتركت حكومة السودان أمر التعليم في الجنوب خالصا للإرساليات، ليس لسبب سياسي أو ديني، بل لأنها (أي الحكومة) كانت فقيرة وعاجزة عن الانفاق على التعليم. وتوقف – عمليا - كذلك تدريس اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي، ونشأ أطفال الجنوبيين منفصلين ثقافيا عن بقية أجزاء البلاد. كثيرا ما ينسب الأجانب للإدارة البريطانية مهارة وبراعة لم تكن تملكها في واقع الأمر. فليس هنالك من دليل موثق على أن حكومة السودان كانت قد دبرت بليل مؤامرة لانفصال (في نهاية المطاف) للمديريات الجنوبية عن الشمال المسلم. وليس هنالك دليل أيضا على أنه كانت هنالك "مؤامرة" يخطط لها وينجت لضم الجنوب لأوغندا (3)، إذ لم تكن اللغة الإنجليزية لغة مشتركة في أوغندا في تلك السنوات. صحيح أن وينجت – ومن معه – كانوا يريدون الفكاك من سيطرة مصر اقتصاديا على السودان، فأقاموا مشروع الجزيرة كي يستقل السودان بموارده. ولعل هذا كان من أعظم إنجازاته. وكان وينجت دائم الأسف على أن السودان ليس تحت السيطرة البريطانية بصورة كاملة، على الأقل حتى لا يتعرض لدعايات وهجمات المصريين الوطنيين ("المتتطربشين mutatarbishun" أي الذين يضعون الطَرابِيش على رؤوسهم، كما جاء في المقال! المترجم) بقيادة مصطفى كامل. غير أن ذلك لم يكن أدنى صلة بفصل السودان. ورغم كل ما سبق قوله، يجب القول بأن سياسة الفصل اللغوي بين شمال السودان وجنوبه كانت سياسة قصيرة النظر، رغم أن النية في وضعها في البدء قد تكون حسنة، إلا أنها أفضت لعواقب وخيمة جدا. فحقيقة أن الحكومة قد اختارت اللغة الإنجليزية ووافقت جميع الإرساليات في تفضيلهم لهذه اللغة خلقت فهما مغلوطا عند الأجيال اللاحقة من السودانيين الشماليين بأن الإرساليات كانت مشاركة – بصورة ما – في السيطرة الاستعمارية على السودان. وعلي الرغم من أن ما أتخذ من قرار (بفصل الجنوب ثقافيا وتعليميا عن الشمال)، إلا أننا نعلم الآن عن سبب وكيفية الوصول إلى ذلك القرار المؤسف. فقد كان كرومر في القاهرة وكتشنر وونجت في الخرطوم تحت ضغط هائل من مؤسسات الإرساليات في بريطانيا وأمريكا وبقية العالم الغربي، ومن عامة الشعب المتحمس والقلق مما يقرأه ويسمعه عن الرق بالسودان، ويودون الإسراع بإلغائه. وكانوا لا يفرقون بين الإسلام والرق، ويرون ضرورة إنقاذ الجنوب من عودة تجار الرقيق المسلمين لممارساتهم السابقة في الجنوب إبان العهدين التركي – المصري والمهدوي. وأفلحت حكومة السودان – رغم الضغوط الهائلة – في منع التبشير المسيحي في شمال السودان المسلم. وبدا الجنوب (الوثني) للبريطانيين المنهكين بالاتهامات كهبة من الله. وكان الحل عندهم في غاية السهولة والبساطة: لندع الشمال يحتفظ بالإسلام، وتنتشر المسيحية في الجنوب. ولندع العربية تسود في الشمال، والانجليزية في الجنوب. ولم يتفكر أي فرد من المسؤولين في النتائج بعيدة المدى لمثل ذلك الفصل الثقافي. ولو قدر للغة العربية أن تكون هي لغة التعليم في مدارس وإرساليات الجنوب منذ البداية، لمارست الإرساليات كل نشاطاتها باللغة العربية، ولدخلت في منافسة مباشرة مع الدعاة المسلمين. وربما لم يخطر على بال وينجت أو القس قوين أن اللغة العربية هي واحدة من اللغات التاريخية، إن لم تكن هي لغة شَعَائِرِيّة للطقوس المسيحية من قديم. لم يحدث ذلك بالطبع. بل ترك السودان ليعاني من انفصامين في اللغة والثقافة، وليقاسي كي يحافظ - بتَفَجّع ودماء - على وحدة مؤلمة. ******* ******** ******** إحالات مرجعية 1. https://www.sudaress.com/sudanile/123205 2. المقصود هي الحرب الإيطالية – العثمانية (29 سبتمبر 1911م – 18 أكتوبر 1912م) لاحتلال ولاية طرابلس الغرب (ليبيا). https://www.marefa.org/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9 3. للمزيد عن هذه النقطة يمكن النظر في مقال مترجم بعنوان "السودان اليوم" لكيث كايل، ذكر فيه أن الجنوبيين كانوا يرغبون في الانضمام لأوغندا ضمن اتحاد فيدرالي لدول شرق أفريقيا، إلا أن أوغندا لم تبد رغبة في ذلك الضم. shorturl.at/rJUX4 alibadreldin@hotmail.com