هلا خرجنا من حفرة “حبر على ورق”؟

 


 

د. النور حمد
3 September, 2020

 

 

صحيفة التيار 3 سبتمبر 2020

لا أعد نفسي شخصًا متشائما. بل على العكس منذ ذلك، أعد نفسي شخصًا متفائلاً، لا ينفك يتمسك بأهداب الأمل، مهما ضؤل ويتعلق بحلم بوطن مستقر، مزدهر، متوثب. فقد قيل قديما: "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل"٠ وقد ورد أيضًا في القرآن الكريم: "وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ". يطول بنا زمان التيه ويستعصي الخروج من نفق العجز وقلة الحيلة، ولكن رغمًا عن ذلك تبقى راية الأمل فينا منغرسة الصاري في تربة هذه البلاد، ترفرف وضيئةً في الفضاء، مُنْبِئةً ببشريات تبدل الأحوال الحتمي الذي ينتظرنا عند منعرج الطريق الذي وصفه محمد المكي إبراهيم بقوله البهي: "البوق يصدح والطريق مقوسٌ نضرٌ وألحان السماء ترقرق". لقد تفتحت أعين جيلنا على ثورة 21 أكتوبر، ونحن لم نزل بعد صبية. ومنذ ذلك التاريخ بقينا نحلم بتبدل الأحوال رغم مسلسل الخيبات المتعاقبات، التي يأخذ بعضها برقاب بعض. عبر هذه المسيرة الطويلة المتعثرة، أيقنا شيئًا واحدًا، هو: أن بلادنا بلا قادة وبلا خطة وبلا خارطة للتغيير. أي، نحن شعب بلا قادةٍ قلوبهم مملوءة شغًفا بالتغيير. قادة ذوو ضمائر يقظة وحسٍّ أخلاقيٍّ سليم، وشعورٍ حيِّ يألم لآلام الضعاف الحزانى المحرومين.
لو تأملنا تاريخ الصراع السياسي الذي شهد نقلةً نوعيةً في الاحتدام والتعقيد، في حقبة حكم الرئيس الراحل جعفر نميري، واستمر إلى يومنا هذا، وتتبعنا مسار ما جرى من اتفاقيات، لهالنا كمها وتنوعها. ودعونا نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر: اتفاقية كوكادام واتفاقية شُقْدُم واتفاقية جيبوتي واتفاقية أسمرا واتفاقية الميرغني قرنق واتفاقية أبوجا واتفاقية نيفاشا وأخيرا اتفاقية جوبا. لم ينتج من كل هذه الاتفاقات أي تأثير إيجابي على مجريات واقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فقد لبثنا: "نخرج من حفرة لنقع في دحديرة"، كما يقول المثل السوداني. لقد كانت اتفاقياتنا، على كثرتها اللافتة، مجرد حبر على ورق. كانت مجرد بنودٍ من النوايا الطيبة مرقومة على الورق. فهي لا تعكس أي عمارٍ في عقول وقلوب الذين عكفوا على مداولاتها المضنية، وقاموا بوضعها على الورق. والدليل على ذلك، هذا التراجع المستمر في أحوال البلاد والعباد، على مدى عقود طويلة، سِمَتُها الرئيسة: العجز والفشل وتدهور الأحوال، على كل صعيد.
خلاصة القول، العبرة ليست فيما يحويه الورق، وإنما فيما تحويه العقول والقلوب، التي وقفت وراء ما جرى خطُّه على الورق. لقد ظلت نخبنا السياسية تتعاطي مع التغيير بوصفه فعلاً إجرائيا محضا. لذلك هي تنفق الجهد والوقت في تدبيج الخطاب السياسي وفي صياغة بنود الاتفاقيات التي ليست في حقيقتها سوى لغة مرقومة على الورق. ولا غرابة أن بقيت على الدوام بلا تأثير على الواقع. فقد استمر رغما عن كثرة الاتفاقيات تقهقر أحوال الواقع التي تتحكم فيها ديناميات معلولة، شبه ثابتة. فنخبنا السياسية، في مجملها فارغة العقول، معلولة الوجدان. ولأن هذه النخب متضخمة الذوات فإن ما تصيغه في الاتفاقات ينحصر احتفاؤها به في المحاصصات في المناصب وفي تضمين ما يؤمن المصالح الضيقة من الغوائل. لقد ظلوا يختزلون شرط التغيير في مجرد تَسَنُّمهم للمناصب. لم نر منهم انشغالاً بإحداث ثورة فكرية وثقافية وتعليمية واقتصادية واجتماعية، وإنما انشغالا بالمصلحة الفئوية. يتماثل في ذلك العسكر والمدنيون. نسأل الله أن يخالفوا رأينا فيهم هذه المرة.

 

آراء