في تلك الليلة ، قام منصور بتشغيل التلفاز في شقته الصغيرة التي يسكن فيها لوحده ، ظهر المذيع إياه في القناة الإخبارية إياها، فخّم المذيع صوته وأخذ يقدم نشرة الأخبار التي يسيطر عليها ، في كل الأوقات ، موضوع واحد فقط هو العنف والقتل في بلاد معينة من هذا العالم بما فيها بلد منصور نفسه!!
تساءل منصور بسخط وهو يحدق في الشاشة الدامية: لماذا تبدو بعض الشعوب والحكومات في بعض دول العالم وكأنها قد أصيبت بالجنون الجماعي ثم انهمكت في ارتكاب القتل مع سبق الإصرار والترصد ، القتل العشوائي والقتل على الهوية؟! أين العقل البشري والضمير الإنساني؟!! هل ذهبا في إجازة مفتوحة أم أنهما لم يذهبا إلى أي مكان لأنهما غير موجودين أصلاً؟! ما القصد من بثّ الأخبار السيئة بكثافة واستمرار؟!!
دمدم منصور بضيق: ربما كان القصد هو توصيل رسالة للمشاهد العادي قائمة على المنطق الصوري الآتي:
كل حرب تؤدي إلى انعدام الأمان والدليل على ذلك هو كل هؤلاء القتلى، الجرحى والمشردين الذين تشاهدهم على الشاشة ـ أنت لست في حالة حرب بدليل أنك لم تُقتل أو تُجرح أو تُشرد ـ إذن أنت في أمان تام ، احمد الله على ذلك ، انس كل مشاكلك الأخرى بما في ذلك مشاكلك الاقتصادية وتذكر دائماً أنك الرابح الأكبر لأن سلامتك وحدها هي أكبر النعم!!
همهم منصور بغضب: تباً لهذا المنطق المضلل الذي لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد! مَنْ يحتاج للإحساس بالأمان الزائف في هذا الزمن الردي ؟! ما الفائدة التي يجنيها أي بني آدم من القفز إلى نتائج وهمية مبنية على مقدمات صحيحة؟!!
غمغم منصور بامتعاض: لا شك أن أسرع وسيلة لرفع ضغط الدم في هذه الأيام هي الاستماع إلى نشرة الأخبار ، هذا المذيع ، المسكون بشيطان التفاصيل الإخبارية السيئة، لا يستطيع أو لا يرغب في الخروج عن موضوع العنف والقتل، إنه مصاب بجنون حربي من الدرجة الأولى!!
هذا المذيع لن يسكت ولن يقول خيراً وحتى لو حاول تخفيف دمه وقام بتقديم أي أخبار طريفة ، فإنه يقدمها بايجاز شديد ثم يعود بسرعة بالغة للحديث عن موضوعه المفضل مستعرضاً بالتفصيل الممل الصور الوحشية المرعبة، الأصوات الصارخة المستنجدة والخلفيات الملونة بالدم!!
تمتم منصور بحنق: أشك في قيام هذا المذيع بتقديم أي نوع من الأخبار الطريفة، هل هناك أي قدر من الطرافة في تقديم مشاهد من صراع الديكة في إندونيسيا، صراع الثيران في أسبانيا أو صراع الجِمال في أفغانستان؟!!
في تلك اللحظة ودون أي مقدمات ، انفجر منصور ضاحكاً كالمجنون فقد تذكر نكتة الجمل التي أخذت تتوالى في ذهنه على النحو الآتي:
اعتاد أحد الطلاب على الرسوب في مادة الإنشاء ، وعندما سُئل المدرس عن سبب ذلك رد ضاحكاً: والله يا إخوان هذا الطالب غريب الأطوار حقاً، إنه شديد الذكاء بشكل يدعو للدهشة لكنه عديم التركيز بصورة تدعو للقلق، فكلما طلبنا منه أن يكتب عن موضوع معين، يتطرق إليه بإيجاز ثم يخرج منه بسرعة إلى موضوعه المفضل الذي يسيطر عليه إلى درجة الهوس ويكتب عنه بإسهاب شديد!!
ذات مرة، طلبنا منه كتابة موضوع حول (دور الأمم المتحدة في حفظ السلام العالمي) فكتب ما يلي:
( هناك حقيقة لا تتناطح عليها عنزان وهي أن الأمم المتحدة قد أصبحت عاجزة تماماً عن حل المنازعات الدولية، والسبب هو تعسف دولتين من الدول الخمس دائمة العضوية في استخدام حق النقض في مجلس الأمن ، ولا خيار أمام بقية دول العالم سوى أن تكون صبورة كالجمل ، والجمل هو سفينة الصحراء فهو حيوان بري أليف يصبر على الجوع والعطش أياماً ويستطيع المشي على الرمال بكل سهولة ويسر … الخ) وهـكذا استمر الطالب العجيب في التغزل في الجمل ونسي موضوع الأمم المتحدة!!
ذات يوم ، طلبنا منه كتابة موضوع عن اتفاقية نيفاشا للسلام فكتب ما يلي:
(من الواضح أن اتفاقية نيفاشا للسلام تواجه عقبات كثيرة أبرزها وجود انفصاليين في شمال السودان وانفصاليين في جنوب السودان ، جدير بالذكر أنه لا يوجد جمل واحد في جنوب السودان فالجمل مخلوق شمالي ، وعلى أي حال ، فالجمل هو سفينة الصحراء وهو حيوان بري أليف يصبر على الجوع والعطش أياماً ويستطيع المشي على الرمال بكل سهولة ويسر … الخ) وهكذا استمر الطالب النجيب في وصف أعضاء الجمل مثل طول رقبته وأرجله ، تحدب سنامه ، اتساع عيونه ، صغر أذنيه وضخامة فمه ونسي موضوع اتفاقية نيفاشا للسلام!!
استرسل المدرس قائلاً: في أحد الأيام ، قررنا أن نتحدى ذلك الطالب المريب فطلبنا منه أن يكتب موضوعاً عن الإنترنت باعتبـار أن هذا الموضوع لا علاقة له بالجمل من قريب أو بعيد فكتب الآتي:
(الإنترنت هو الشبكة العالمية للمعلومات التي دشنت عصر ثورة المعلومات ، فبإمكان المستخدم العادي أن يستعمل محركات البحث الشهيرة ثم يغوص في محيطات من المعلومات ويحصل في كسر من الثانية على كم هائل من المعلومات ، إن إمكانية الحصول على المعلومات قد أصبحت لا نهائية بفضل وجود الملايين من المواقع الإلكترونية المتخصصة ، ومنها على سبيل المثال الموقع الإلكتروني الأشهر www.camels-camels.com هذا الموقع الفريد بإمكانه أن يزودكم بمعلومات موسوعية عن الجمل العربي ذي السنام الواحد والجمل الآسيوي ذي السنامين ، علماً بأنه من الممكن أن يظهر في المستقبل جمل أمريكي مستنسخ بثلاثة أو أربعة أسنمة .....الخ) وهكذا تسلل صاحبنا إلى موضوعه المفضل ونسي موضوع الإنترنت نهائياً!!
عندما حان موعد الامتحان النهائي لمادة الإنشاء، وجد ذلك الطالب نفسه مجبراً على كتابة موضوع عن مشكلة دارفور فكتب ما يلي:
(لقد تم تدويل مشكلة دارفور بسبب التشخيص الاستفزازي لسبب المشكلة من قبل طرفي النزاع ، حيث نسبها أحد الطرفين للتهميش المقصود وعزاها الطرف الآخر إلى صراع بين صاحب مزرعة وصاحب جمل ، والجمل هو سفينة الصحراء فهو حيوان بري أليف يصبر على الجوع والعطش أياماً ويستطيع المشي على الرمال بكل سهولة ويسر … الخ) وهكذا استمر الطالب الهمام في ذكر محاسن الجمل ونسي موضوع مشكلة دارفور!!
وحينما علم الطالب بأنه رسب فى امتحان مادة الإنشاء استشاط غضباً ، سير مظاهرة لوحده ثم تقدم بتظلم لوزير التربية والتعليم جاء نصه كالآتي:
سعادة السيد/وزير التربية والتعليم المحترم
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ،
أما بعد
أتقدم لسعادتكم بتظلمي هذا ، واشتكي بموجبه مدرس مادة الإنشاء الذي صبرت عليه صبر الجمل ، والجمل هو سفينة الصحراء فهو حيوان بري أليف يصبر على الجوع والعطش أياماً ويستطيع المشي على الرمال بكل سهولة ويسر … الخ
أرجو من سعادتكم النظر في تظلمي هذا بعين العطف والاعتبار فقد ظلمني مدرس الإنشاء مثلما ظُلم الجمل في جمهورية السودان غير الديمقراطية بأكل كبدته (النية) في سوق الناقة (قندهار) بأمدرمان على مرأى ومسمع من كافة السلطات المختصة وغير المختصة!!
ردكم العاجل على موضوع الجمل سيكون موضع تقديرنا وامتناننا الشديدين
جزاكم الله خيراً وأطال أعناقكم وأرجلكم ولكم خالص التحية والتقدير والبعير!!
فيصل الدابي المحامي
menfaszo1@gmail.com