لقاء فتح وحماس في اسطنبول يعكس عقلية النخبة الساسية الفلسطينية العاجزة عن اجتراح حلول المستقبل. هو ولوج في العتمة أكثر من كونه خروج من النفق.
أزمة النخبة السياسية الفلسطينية القائدة فقدانها البوصلة النافذة. ذلك العجز لم يربك الشعب الفلسطيني وحده، بل زاد كل النخب العربية المرتبكة بدورها إرباكاً. بدلاً من توجيه مشروع الثورة الفلسطينية على مسار المستقبل دوماً ظلت النخبة السياسية الفلسطينية في حالة إلتباس بين الإستراتيجي التكتيكي، بين النهائى والمرحلي. كذلك ظلت في حالة تأرجح بين امتلاك زمام المبادرة والسقوط في رد الفعل. الإجابة على كل الأسئلة المطروحة في ظل لقاء اسطنبول تعكس حزمة من تلك التناقضات. لم اختيرت المدينة التركية مسرحاً للقاء؟ لم القفز فوق المحيط العربي الآن؟ كم عدد اللقاءات السابقة بين الحركتين؟ هل هو لقاء على مستوى القيادتين، الحركتين، أو البرنامجين المتناقضين؟
*** *** *** الإخفاق الفلسطيني المتراكم جعل القضية الفلسطينية العقدة الوحيدة العصية على الحلول بالبنادق أو التسويات المنبثقة بعد انقشاع أدخنة الحرب العالمية الثانية. كل قيادات التنظيمات الفلسطينية تأرجحت بين النرجسية الذاتية والتأثيرات الخارجية على نحو أفقدها القدرة على الإمساك ببوصلة النضال الفلسطيني. في المنحنيات العديدة في مسيرة النضال الفلسطيني يتجلى إرتباك القيادات في تقهقرهم إلى الوراء دوماً بعد إجهاض الفرص المتاحة لتحقيق قدر من التقدم. ذلك التقهقر يتبدى - مثلاً لا حصراً - في النكوص من تحرير كل التراب الوطني، القبول بحيز إرتكاز لدولة، الرضاء بموطئ قدم لسلطة، القبول بوطن مشترك بين شعبين التسليم بحيز من الأرض بلا شعب موحد أو القدرة على ممارسة السيادة عليهما! هذا ليس سوى ضرب من إنتاج عقلية تتطلب تغييراً جذرياً ليس مجرد إصلاح.
*** *** *** صحيح الفلسطينيون لا يتحركون في فضاء سياسي بمعزل عن محيطهم الإقليمي أو الدولي. لكن التحدي يظل في فهم ذلك الواقع لا الإستسلام له. حركة النضال الفلسطيني لم تنج من الرومانسية السياسية. بينما بدأت "فتح" إشعال جمرة العمل المسلح انقادت إلى المد القومي المتنامي في ظل ناصر والناصرية. عندما قصمت هزيمة النكسة العمود الفقري لذلك المد سرعان ماخبت تلك الجمرة. ما حاولت الحركة استثمار ذلك المد القومي لتوسيع دأبها في الوسط الجماهيري العربي. كل النخب الفلسطينية ظلت أسيرة الأنظمة العربية. انتصار أكتوبر شكل رغم بهائه العسكري نكسة على ذلك االتوجه السياسي إذ انتهى الإنتصار باتفاقات تسوية جاءت وبالاً على النضال الفلسطيني. لكن النخب الفلسطينية المتأرجحة لم تستطع استبانة أخطر نتائج تلك التسويات المتمثلة في فك الإرتباط بين النضال الفلسطيني والنظام العربي بأسره فظلت بمثابة رد الصدى للعواصم العربية.
*** *** *** ثمة إشادة غالبة ببراعة براغماتية عرفات في القفز دوماً فوق النزاعات العربية البينية. لكن تلك البراعة لم تنجه من مغادرة عمان متخفياً أو ركوب البحر من بيروت حزيناً. كما لم تعف الفلسطينيين مغادرة الكويت خاسرين. تلك الإشادة لم تصب إتفاق أوسلو رغم محاولات تسويقه بأنه خطوة فلسطينية جريئة للهرب من الأسر العربي.على النقيض فتح الإتفاق المباغت باباً أمام الأنظمة العربية للتحلل من إلتزامات كانت لا تزال عالقة تجاه النضال الفلسطيني. كما لم تنجح النخب الفلسطينية في الإستثمار في الحس القومي الشعبي لم تفلح في استثمار مغامرتها الجريئة في المضي إلى الأمام في معية كل التنظيمات الفلسطينية نحو صناعة مستقبل بروح الفريق الموحد. كلها سقطت في فخاخ الإرتباك بين حرب التحرير والتسوية السلمية والإستسلام للتسويات المفروضة على صعيد المنطقة. أسوأ من ذلك بروز الإنقسام الرأسي في المجتمع الفلسطيني المشطور في جيبين متناحرين على خط مواجهة العدو المفترض.
*** *** *** أبرز مفاصل إرتباك النخب الفلسطينية المربكة عزفها الجماعي الدائم على المساندة العربية لقضيتهم من منطلق الإنتماء الإثني ورابطة الدم. تلك نظرة مسرفة في الخطأ. النضال الفلسطيني تلقى دعماً سخياً من مصادر متباعدة عبر العالم من مطلقات متباينة ليس بينها رابطة الدم. تلك النظرة تغرق النخبة الفلسطينية السياسية ونخب أخرى في المنطقة في فهم قاصر وتبريرمبتسر لإنسلاخ عدد من الأنظمة عن ماسمي بالجدار القومي أو تقاعسها عن مساندة سابقة. ثمة إرتباك جلي لدى قيادة ثورة شعبية تتكئ على دعم رسمية. ثمة نخب لم تعد قادرة على مواكبة المتغيرات في المشهد السياسي الدولي سواءً على الصعد القطرية أو الإقليمية.
*** *** *** النخب الفلسطينية باتت مطالبة بتحديد غاية قصوى كهدف استراتيجي لنضالهم يعكس بجلاء خلاصة كل التجارب المتراكمة بالإضافة إلى الإجماع الوطني على تبني آليات بلوغ تلك الغاية. هذا واجب وطني لن ينجزه لقاء فقط بين محمود عباس واسماعيل هنيه، أوبين حركتي فتح وحماس. ليس غاية التغيير المنشود الإتفاق على روزنامة انتخابات أو آلياتها. تلك مهام مهمة لكنها أجندة سازجة على طاولة العقل الفلسطيني. هو لا ينبغي له الإنشغال بتسوية سياسية فوقية بين فصيلين بينهما تخاصم فكري أكثر من قواسم مشتركة. هو عقل مهجوس بصوغ برنامج للعمل المشترك على مسنوى قواعد النضال من أجل بناء وطن ذي دولة تبسط سيادتها على رقعتها الجغراقية وشعبها. السؤال الملح يتمحورحول كيفية مواجهة أو مراوغة الحقائق الراهنة الثابتة على الأرض.